إنه العاشر من حزيران يونيو عام 2014، لم تنم الموصل وأهلها تلك الليلة، فنصفهم ينزح باتجاه مدينتي أربيل ودهوك في إقليم كردستان العراق بطوابير من السيارات على مد البصر، والنصف الثاني متسمر أمام شاشتي التلفاز والهاتف يحاول فهم ما الذي يحدث لمدينته التي وجدت نفسها أمام حكام جدد لا تعرفهم بعد.
في الساعات الأولى من صباح اليوم العاشر دخلت مدينة أربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق) بعد طريق استغرق ما يزيد على 5 ساعات بسب الزحام، وبعض العوائل اضطرت للبقاء لأكثر من 20 ساعة للدخول، كنت أمتلك إقامة نافذة الصلاحية ولدينا منزل استأجره والدي مطلع العام ليكون مكانًا للإقامة المؤقتة في أربيل، حيث كان الضغط الأمني لأشهر ما قبل سقوط الموصل دافعًا لهذا الاختيار الاحترازي، خاصة أن أحد محلاتنا التجارية تعرض للتهديد وتم تفجير قنبلة صغيرة أمام بوابته قبل سقوط المدينة بثلاثة أشهر تقريبًا، هذا الإجراء أمن لنا دخولاً سريعًا للإقليم ومكانًا جيدًا للإقامة بديلاً عن الفنادق.
لم ينته اليوم حتى اكتظ المنزل بعوائل نازحة من الأقارب والمعارف التي وصلت أربيل ولم تجد لها مكانًا للإقامة، فجمعهم المنزل الصغير في أطراف المدينة، كل الحديث كان يدور عن فهم ما الذي حدث ويحدث؟
حقيقة من كان يقاتل القوات العراقية في الموصل
كما يعلم الجميع فإن سقوط الموصل سبقه موجة الاحتجاجات السنية التي انطلقت في 6 محافظات عراقية منددة بسياسات رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، وبعد ضرب المظاهرات في مدينة الحويجة، توقفت المظاهرات في الموصل بتهديد أن المتظاهرين أغلقوا ساحة التظاهر ومتوجهين لحمل السلاح وهذا ما دفع كثير من وسائل الإعلام وحتى الناس تعتقد أن من اجتاح الموصل مقاتلين من القبائل المحيطة بمدينة الموصل والتي كانت تقود الحراك ضد المالكي، وأُطلق اسم “ثوار العشائر” عليهم.
في حقيقة الأمر، إن المهمة القتالية كانت بشكل كامل بيد تنظيم ما يسمى “دولة العراق والشام الإسلامية” والمعركة أطلق عليها التنظيم “غزوة أسد الله البيلاوي” ولم يحمل السلاح معها أحد.
خلال اليوم الأول من سقوط الموصل كانت قيادات حزب البعث في المدينة تعمل كخلية نحل
لكن التحشيد الإعلامي والنفسي كان لتنظيم حزب البعث يد كبيرة فيه كطابور خامس في المعركة ظهر بشكل واضح جدًا في منصة الفيسبوك بالتحديد، إضافة للرسائل التي أطلقها أفراد البعث في المدينة، وظهر واضحًا جدًا خلال اليوم الأول من سقوط الموصل، حيث كانت قيادات الحزب في المدينة تعمل كخلية نحل، وخلال تواصلي الشخصي مع عدد منهم كنت أسمع العبارات التالية يرددها الجميع بنفس الوتيرة: “الخير قادم”، “سيعقد مجلس عسكري لقيادة المدينة”، “ثورة بيضاء”، “ستحرر بغداد خلال أيام”.
ثم انتشرت شائعات في المدينة بشكل كبير عن الرجل الثاني بعد صدام في حزب البعث وقائده الحاليّ عزت إبراهيم الدوري، وشائعة ثانية عن عقد مجلس عسكري من ضباط الجيش السابقين اجتماع في مبنى محافظة نينوى وتم تعين ضابط متقاعد من عائلة “الجماس” ليدير المدينة.
انتهت كل هذه الشائعات برفع التنظيم الراية السوداء يومي 11 و12 من يونيو، وهدد أي شخص يرفع راية ثانية بقطع الرأس، فتوقفت شائعات ثوار العشائر أو المجالس العسكرية أو أن المدينة ستحكم بنخبة من أبنائها.
سقوط مدوٍ في معركة الوعي قبل السلاح
لم تمض 72 ساعة على دخول التنظيم حتى تم إغراق وسائل الإعلام المحلية بأن تنظيم داعش فتح للناس الحرية المطلقة ومنع أي عمليات سرقة وفرض الأمن وترك الناس يعيشون بكرامة.
أتبعها بأيام صورًا لعودة الحياة وتجوال الناس في المدينة بشكل طبيعي واستتباب الأمر وزوال فكرة استعادة المدينة من قبل القوات العراقية بالتدريج، حيث كان غالبية أهل الموصل يعتقدون أن الأمر لن يطور لأيام قبل قيام القوات العراقية باستعادة المدينة، لكن القوات العراقية اندفعت إلى تخوم بغداد بما يبعد 300 كيلومتر عن حدود الموصل، مما جعل سيناريو بقاء داعش والاعتراف بها أمرًا واردًا.
خدع الموصليون وعدد كبير من النخب بهذا الخطاب رغم أن التجارب الماضية واضحة مثل الشمس، وأن هذه البداية الوديعة لداعش سيتبعها كوارث
عاد عدد غير قليل من الناس التي نزحت ليلة السقوط بعد رسائل التطمين التي أطلقها التنظيم عبر تصرفاته بأنه لن يحاسب أحد وسيقبل توبة الجميع وأنه يقدم نموذجًا للحرية والكرامة تحت حكمه يتمناه أي شخص في العراق، حيث الحرية والأمان المفقودان في العراق منذ 11 عامًا.
خدع الموصليون وعدد كبير من النخب بهذا الخطاب رغم أن التجارب الماضية واضحة مثل الشمس، وأن هذه البداية الوديعة لداعش سيتبعها كوارث، فالموصليون يعلمون ما التنظيم وكيف كان يهدد الأطباء والصيادلة والتجار والمقاولين ويأخذ الإتاوات ويغتال من لا يدفع، ووجه سلاحه تجاه الجميع بالتفجيرات في أسواق المدينة ومناطقها السكنية، وطالت الاغتيالات شرائح متعددة لم يسلم منها حتى شرطي المرور البسيط، وقد ظهر كل هذا الأمر واضحًا في إصدار داعش (عام على الفتح) الذي أصدره التنظيم في الذكرى الأولى لسيطرته على المدينة.
كما أن تجربة سيطرة المسلحين على المدينة ليست جديدة، فقد سبقها ما تم تسميته “سقوط المراكز” عام 2004 قبل 10 سنوات، pde تعتبر تجربة واضحة عن حقيقة ثقافة هؤلاء المقاتلين وطبيعتهم وحقيقتهم الدموية.
كل هذا وهناك تجربة قريبة جدًا في مدينة طالما اعتبرها التاريخ توأم الموصل وهي حلب في الجانب السوري، فالتنظيم سيطر عليها بنفس الطريقة، وعامل أهلها كما يتم الآن بالضبط، وجه لطيف بلا سيف، وحرية وأمان في المدينة، ثم تمكُن يتبعه السيف الذي سلط على أهالي المدينة ذبحًا وفتكًا ولم يسلم منه حتى مقاتلي الثورة السورية أنفسهم.
كل هذه الأدلة والبراهين كانت واضحة وقاطعة أن التنظيم ينتظر ليتمكن ويظهر وجهه الحقيقي ويشهر السيف في المدينة، لكن للأسف سقط الموصليون بهذه المعركة وتم استدراج عدد غير قليل منهم في صف التنظيم إعلاميًا على أقل تقدير.
3 سنوات على نكبة الموصل
مضت السنوات ثقال بكل ما فيها ونقف اليوم على أعتاب نهاية داعش العسكرية في الموصل، فما تم استعادته من التنظيم تجاوز 95%، ليتبقى فقط الأزقة الضيقة في الجانب الأيمن الذي يضم مدينة الموصل القديمة، خلف التنظيم خلفه خلال هذه السنوات خرابًا على عدد هائل من الملفات لعل الملف الاقتصادي والبنية التحتية أبسطها.
فقد ترك التنظيم المدينة وهي تحمل العديد من القنابل الموقوتة الاجتماعية والسياسة وحتى العسكرية، فالمدينة التي كانت منزوعة السلاح يوجد فيها اليوم العشرات من الكيانات المسلحة التي تعود لعشائر ومكونات عرقية ودينية مختلفة، فالشبك والمسيحيون والأيزيديون والتركمان والشيعة وهم الأقليات التي تشكل فسيفساء المدينة جعل لكل فريق منهم حشدًا مسلحًا أو أكثر، بينما تنوعت الحشود العربية السنية حسب العشائر بين حشود السبعاويين والجبور وشمر والحديديين واللويزين، وهناك عشائر يوجد فيها عدد من الحشود لكل منهم رأي وزعيم مختلف، كل هذا التسلح يجعلك تعتقد أن المدينة مركز عسكري وليست أكبر حاضرة مدنية في العراق بعد بغداد.
صدمات نفسية نتيجة لمشاهد الذبح والقتل ثم القصف والجوع والنزوح، مما خلق مجتمعًا معاقًا نفسيًا يصعب التكهن بقدرته على تجاوز كل ما حدث
فيما خلق التنظيم على مدى مسيرته كمًا هائلاً من التناقضات الاجتماعية والشروخ المجتمعية بعدد من التصرفات مثل سبي النساء الأيزيديات وتهجير المسيحيين، وكمية من الدماء من أبناء المدينة نفسهم واعتماد ضرب العشائر فيما بينها بجعل عناصر منتمين له من العشيرة الفلانية تقتل أبناء عمومتهم ليكون الثأر والدم مستقبل القبائل بعد زوال التنظيم.
لم يكتف بذلك فقد خلق الوضع الذي أنتجه مشكلة اجتماعية بين النازحين خارج المدينة والمسجونين داخلها، فالنازح يتهمه المسجون بالهروب ومن بقي تحت سيف داعش يتهمه النازح بأنه رضي بوجود التنظيم، ثم تم خلق شرخ جديد بين أيمن الموصل الذي بقي فترة بعد تحرير الأيسر يعاني ويعتقد أهله أن الموصليين في الجانب الأيسر تخلوا عنه ولا يشعرون بما يقع على نصف المدينة الثاني، مما جعل العقد الاجتماعي في المدينة ممزق والحقد موجود في كل مكان.
إضافة لكوارث اجتماعية متعلقة بالأيتام والأرامل والأطفال الذين عاشوا مجموعة صدمات نفسية نتيجة لمشاهد الذبح والقتل ثم القصف والجوع والنزوح، مما خلق مجتمعًا معاقًا نفسيًا يصعب التكهن بقدرته على تجاوز كل ما حدث.
كل هذه المشكلات التي ذكرتها ومشاكل إضافية متعلقة بإعادة النازحين والإعمار وتعويض الناس وإعادة الاقتصاد والحياة للمدينة تجعل الوضع صعبًا جدًا على من سيدير المدينة حتى لو كان على قدر عالٍ من المسؤولية، فما بالك بواقع لا يوحي بوجود قيادة حقيقة قادرة على تجاوز محيط المشاكل إلى بر الأمان بمدينة أثقلتها 3 سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس.