“من الجيد رؤية أن زيارتي للسعودية مع الملك سلمان بن عبد العزيز و50 دولة تؤتي ثمارها، قالوا إنهم سيتخذون نهجًا صارمًا ضد تمويل الإرهاب، وكل المؤشرات كانت تشير إلى قطر، ربما سيكون هذا بداية النهاية لرعب الإرهاب”، “إن الحصار الذي تفرضه دول خليجية على قطر غير مقبول، نعتقد أنه من المهم بقاء مجلس التعاون الخليجي موحدًا”، تصريحان يبدو للوهلة الأولى أنهما صادران عن جهتين متناقضتين يمثلان طرفي النزاع في الأزمة القطرية الخليجية الراهنة، لكن الملفت للنظر أن كلا التصريحين خرجا من إدارة واحدة، هي إدارة البيت الأبيض، ليعبرا عن رأي دولة واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه قضية بعينها.
التصريح الأول الصادر عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والذي يميل فيه إلى كفة الدول المقاطعة لقطر وعلى رأسها السعودية والإمارات، في مقابل التصريح الثاني الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، بجانب تصريحات بعض المؤسسات السيادية الأخرى والتي تميل إلى كفة قطر والدول الداعمة لها، يعكسان حالة التناقض الواضح في موقف واشنطن حيال تلك الأزمة.
العديد من السيناريوهات فرضت نفسها على بورصة التأويلات لهذا التباين الواضح، ما بين من يرى فيه تخبطًا لدى الإدارة الأمريكية الجديدة في مقابل من يعتبره استجابة للضغوط الممارسة من طرفي الأزمة هنا وهناك، بينما يذهب ثالث إلى كونه تبادلاً للأدوار يعكس رغبة أمريكا في الخروج بأكبر المكاسب من خلال هذه المعركة.
مؤسسات الدولة ومساعي التهدئة
منذ اشتعال فتيل الأزمة بين قطر وبعض الدول الخليجية والعربية والتي على إثرها أعلنت عدد من العواصم مقاطعتها الدبلوماسية للدوحة وعلى رأسها أبو ظبي والرياض والقاهرة والمنامة، حرصت المؤسسات السيادية الأمريكية على تهدئة الموقف وتجنب التصعيد.
ففي أول رد فعل رسمي لواشنطن، حض وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، دول الخليج على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وحل الخلافات ومحاولة الوصول إلى نقاط اتفاق ينهي هذا التوتر المشوب بالخطر.
وخلال مؤتمر صحفي له في أستراليا، قال تيلرسون: “الإجراءات الدبلوماسية الأخيرة التي وصلت إلى حد قطع السعودية والإمارات والبحرين لعلاقاتها مع الدوحة جاءت نتيجة لتفاقم تلك الخلافات”، مشددًا على أهمية “وحدة الخليج” بالنسبة لواشنطن.
أما عن تفسير هذا التوتر أشار وزير الخارجية الأمريكي قائلاً: “بناء على ما قرأته منذ بدء اتخاذ تلك الخطوات، ما نشهده عبارة عن لائحة طويلة من التوترات التي كانت موجودة في المنطقة منذ فترة”، وتابع: “من الواضح الآن أن تلك التوترات تفاقمت ووصلت إلى الحد الذي قررت معه الدول ضرورة التحرك من أجل حل تلك الخلافات”.
وزير الخارجية الأمريكي: الحصار الذي تفرضه دول خليجية على قطر غير مقبول، نعتقد أنه من المهم بقاء مجلس التعاون الخليجي موحدًا
الوزير الأمريكي لفت أيضًا إلى أن الحصار الذي تفرضه دول خليجية على قطر غير مقبول، داعيًا لوقف التصعيد ومحذرًا من أن هذا الحصار سيسبب تداعيات إنسانية غير مقصودة خصوصًا خلال شهر رمضان الكريم، منها نقص الغذاء وتفكيك عائلات بشكل قسري وسحب أطفال من المدارس، كما أنه يضر بنشاط الشركات الأمريكية في المنطقة، داعيًا السعودية والإمارات والبحرين إلى تخفيف الحصار عن قطر.
لم يكن موقف وزير الخارجية هو الوحيد الداعم للغة الحوار وتهدئة الأوضاع، إذ أعلنت المتحدثة باسم الرئاسة الأمريكية، سارة سياندرز، أن الرئيس دونالد ترامب يعتزم مواصلة العمل مع جميع شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، معربة عن أمنياتها مواصلة العملية ونزع فتيل التوتر هناك، ومؤكدة أن ذلك سيكون بالعمل مع جميع شركائنا.
وفي سياق متصل أكدت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) مجدّدًا أنّ مقاطعة دول عربية لدولة قطر “لم يكن لها تأثير” ولا يتوقع أن يكون لها أي تأثير على العمليات العسكرية الأمريكية في قطر، وأكدت “ممتنون لقطر لالتزامها بالأمن الإقليمي”.
وزيرة القوات الجوية الأمريكية هيذر ويلسون، أبلغت في وقت سابق لجنة في مجلس الشيوخ أنها ليست قلقة بشأن قاعدة العديد الجوية الأمريكية في قطر، رغم قرار السعودية قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر في تحرك منسق مع مصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة، وقالت: “لا يوجد تهديد بنقل القاعدة والعمليات الأمريكية مستمرة دون انقطاع”.
أما السفيرة الأمريكية السابقة لدى الإمارات ورئيسة معهد دول الخليج العربية في واشنطن، مارسيل وهبة، فقالت: “الولايات المتحدة ستتحرك ولكن كيف ستفعل ذلك؟ أعتقد أنه سيكون تحركًا هادئًا للغاية ووراء الكواليس، لا أظن كثيرًا أننا سنجلس على الهامش وندع الأزمة تتفاقم”، بينما قال مسؤول أمريكي آخر: “نتواصل مع كل شركائنا لإيجاد سبيل لإعادة بعض الوحدة في مجلس التعاون الخليجي دعمًا للأمن الإقليمي”، مضيفًا أن من المهم مواصلة قتال الإرهاب والفكر المتشدّد.
وبحسب ما نقلته “العربي الجديد” عن وكالة “رويترز” فإن مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين قالوا: “الولايات المتحدة ستحاول بهدوء تخفيف التوتر بين السعودية وقطر، ولا يمكن عزل الدولة الخليجية الصغيرة في ضوء أهميتها بالنسبة للمصالح العسكرية والدبلوماسية الأمريكية”.
قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر
ترامب والتصعيد المضاد
وفي المقابل خرج الرئيس ترامب بتصريحات متناقضة تمامًا مع ما أدلت به مؤسسات دولته السيادية، وهو ما أصاب طرفي الأزمة من جانب، والمتابعين من جانب آخر، بحالة من الضبابية في تقييم الموقف الرسمي الأمريكي.
ترامب على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” نشر عددًا من التغريدات معلقًا بها على الأزمة القطرية الخليجية، حيث قال: “خلال زيارتي للشرق الأوسط أكدت ضرورة وقف تمويل الأيديولوجية المتطرفة والقادة أشاروا إلى قطر – انظر”.
ثم تبعها بتغريدة أخرى قال فيها: “من الجيد رؤية أن زيارتي للسعودية مع الملك (العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز) و50 دولة تؤتي ثمارها، قالوا إنهم سيتخذون نهجًا صارمًا ضد تمويل الإرهاب، وكل المؤشرات كانت تشير إلى قطر، ربما سيكون هذا بداية النهاية لرعب الإرهاب”.
During my recent trip to the Middle East I stated that there can no longer be funding of Radical Ideology. Leaders pointed to Qatar – look!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) June 6, 2017
So good to see the Saudi Arabia visit with the King and 50 countries already paying off. They said they would take a hard line on funding…
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) June 6, 2017
…extremism, and all reference was pointing to Qatar. Perhaps this will be the beginning of the end to the horror of terrorism!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) June 6, 2017
ثم جاءت تعليقاته أكثر جرأةً ووضوحًا، حين وصف قطر بأنها “داعم تاريخي للإرهاب”، داعيًا دول الخليج ودول الجوار لاتخاذ المزيد من الإجراءات لمكافحة الإرهاب، حيث قال في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض: “دولة قطر، للأسف، ممول تاريخي للإرهاب على مستوى عالٍ جدًا، يجب أن ينهوا هذا التمويل”.
موقف الرئيس الأمريكي حيال الأزمة والذي يميل إلى تبني موقف أحد الأطراف المتنازعة في مقابل موقف مؤسسات الدولة السيادية والتي تفضل دور الوساطة لتخفيف حدة التوتر وبذل الجهود للتهدئة دفع البعض للتساؤل عن دوافع هذا التناقض الذي يعكس صورة غير إيجابية لواشنطن داخليًا وخارجيًا.
ترامب: خلال زيارتي للشرق الأوسط أكدت ضرورة وقف تمويل الأيديولوجية المتطرفة والقادة أشاروا إلى قطر – انظر
استجابة للضغوط؟
لا شك أن طرفي النزاع في الأزمة القطرية الخليجية يملكان نفوذًا قويًا داخل واشنطن، سواء عن طريق الاستثمارات الموجودة هناك أو تأييدهم من قبل بعض لوبيات الضغط الفعالة، وهو ما يعكس – بحسب البعض – حالة التباين الواضحة في مواقف البيت الأبيض.
إماراتيًا.. فقد كشفت التسريبات التي نشرتها صحيفة “ذي إنترسبت” الأمريكية للسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، والذي تعرض بريده الإلكتروني للقرصنة، عن حجم التدخل الإماراتي في شؤون مختلف دول المنطقة عبر القنوات الخلفية لدى القوى الدولية بما يساهم في تعزيز نفوذها الإقليمي.
“نون بوست” في تقرير له استعرض كيفية توظيف أبو ظبي للمال والثروة والنفوذ من أجل إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتماشى مع أطماعها في الزعامة والريادة، حتى ولو كان ذلك عبر الإطاحة بأنظمة شرعية أو تأييد سياسات فاشية أو إحداث الفوضى وعدم الاستقرار، أو حتى التحالف مع الكيان الصهيوني، وذلك من خلال التوغل في مفاصل الدولة الأمريكية عبر بعض لوبيات الضغط المعروفة هناك، جسدتها الرسائل المتبادلة بين السفير الإماراتي العتيبة، وبعض المؤسسات الأمريكية ذات الثقل على رأسها مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات أحد أبرز المراكز البحثية الداعمة لـ”إسرائيل”، والذي يمولها الملياردير شيلدون أديلسون، الحليف القوي لرئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، إضافة إلى علاقته القوية بوزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس.
تسريبات السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، والذي تعرض بريده الإلكتروني للقرصنة ، كشفت عن حجم التدخل الإماراتي في شؤون مختلف الدول عبر القنوات الخلفية لدى القوى الدولية
سعوديًا.. فإن نفوذ آل سعود في واشنطن لا يقل عن نظيره الإماراتي، خاصة بعد الترتيبات الأخيرة التي أجراها الملك سلمان بن عبد العزيز داخل البيت السعودي بما يعزز علاقته بالإدارة الأمريكية الجديدة في محاولة لطي صفحة الإساءات التي تعرضت لها بلاده على أيدي ترامب وتصريحاته السابقة.
الرئيس الأمريكي الذي نجح في توقيع أكبر حزمة من الاتفاقيات والصفقات في تاريخ بلاده مع الرياض مؤخرًا خلال زيارته الأخيرة، لا شك أنه يسعى باتجاه إرضاء السعودية لضمان استكمال الاتفاقيات المُبرمة بين الطرفين، والتي بلغت قرابة 400 مليار دولار.
ترامب الذي وصف تلك الاتفاقيات بـ”التاريخية” والذي سعى من خلالها إلى خلق آلاف فرص العمل للشباب الأمريكي وتنشيط سوق صناعة السلاح وسد العجز في منظومة الاقتصاد الأمريكي، لا يمكنه أن يغرد خارج سرب التوافق مع الرياض بعد أقل من شهر على توقيع تلك الاتفاقيات، ومن ثم فإن تصريحاته الداعمة لموقف الرياض وأبو ظبي ترجمة حقيقة لنفوذهما الواضح، بحسب خبراء.
قطريًا.. تمثل قاعدة “العديد” العسكرية الأمريكية في الدوحة ورقة الضغط الأقوى بيد قطر في معركتها لكسب التأييد والدعم الأمريكي، كونها مركز قيادة العمليات الأمريكية في الشرق الأوسط.
موقف وزارة الدفاع الأمريكية حيال الأزمة القطرية كان الأكثر وضوحًا وحزمًا حيال الميل إلى صف الدوحة إلى حد ما، إذا حاولت تهدئة الأجواء مع قطر خاصة مع تغريدات ترامب، لما قد يكون لها من انعكاس على عمليات أمريكا في الشرق الأوسط، إذا ما توتّرت الأوضاع وقرّرت قطر وقف استغلال قاعدة “العديد”.
المسؤولون في “البنتاجون” يعون جيدًا أن تحيز واشنطن إلى الفريق المعادي لقطر في هذه الأزمة ربما يدفعهم إلى نقل القاعدة إلى دول أخرى في المنطقة، بما يترتّب عليه عرقلة العمليات العسكرية ضد الجماعات المتطرفة في المنطقة، فضلاً عما يمثل ذلك من تهديد لمصالح أمريكا في الشرق الأوسط في هذا الوقت الحرج والحساس.
هذا بالإضافة إلى الاستثمارات القطرية في أمريكا والتي تمثل هي الأخرى ورقة ضغط، إذا تخطط لإنفاق نحو 35 مليار دولار على استثمارات جديدة في السوق الأمريكي في غضون السنوات الخمسة المقبلة، في إطار بحثها عن وجهات استثمارية جديدة وغير تقليدية بعيدًا عن أوروبا الغربية.
الرئيس الأمريكي الذي نجح في توقيع أكبر حزمة من الاتفاقيات والصفقات في تاريخ بلاده مع الرياض لا شك أنه يسعى باتجاه إرضاء السعودية لضمان استكمال الاتفاقيات المُبرمة بين الطرفين، والتي بلغت قرابة 400 مليار دولار
أم توزيع للأدوار؟
تباين المواقف والتوجهات حيال الأزمة القطرية الخليجية بين ترامب ومؤسسات دولته ليس تناقضًا ولا صدامًا بين الرئيس وإدارته كما يشير البعض، بل في حقيقته هو أمر متفق عليه ومعد سلفًا بالتنسيق بين الطرفين، كان هذا مخلص أحد السيناريوهات التي تطرقت لتفسير ما يحدث داخل البيت الأبيض.
أنصار هذا السيناريو يلمحون إلى أن هناك ما يسمى بـ”تبادل وتوزيع للأدوار” بحيث لا تخسر واشنطن طرفًا دون الآخر، فحين يدعم ترامب المقاطعة ضد قطر ترفضها مؤسسات الدولة، ومن ثم تبقي أمريكا على علاقاتها الجيدة مع طرفي النزاع.
مساعي البيت الأبيض للخروج بأكبر المكاسب من هذه المعركة دفعته إلى تبني سياسة “مسك العصا من المنتصف” بحيث يفتح قنوات تواصل مع الجميع في نفس الوقت، ولا يفقد أي طرف الثقة فيه مهما كانت التطورات، فالإمارات والسعودية وحلفهما ينظر إلى ترامب كونه الرئيس وكلمته هي النافذة وهو ما يعطيهم نوعًا من الطمأنينة ويدفعهم لتقديم مزيد من فروض الولاء والطاعة، وفي المقابل يتعامل حلف قطر مع وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين كونهما مؤسسات الدولة السيادية القادرة على فرض كلمتها على الرئيس الذي طالما تراجع عن العديد من قراراته رضوخًا للضغوط الممارسة عليه من قبل تلك الأجهزة.
تباين المواقف والتوجهات حيال الأزمة القطرية الخليجية بين ترامب ومؤسسات دولته ليس تناقضًا في حقيقته، بل أمر متفق عليه ومعد سلفًا بالتنسيق بين الطرفين
ما نقلته قناة “فوكس نيوز” عن مسؤول في الخارجية الأمريكية، بأن هناك تقدمًا في إتمام صفقة تزويد قطر بـ72 مقاتلة من طراز “إف-15″، والتي تبلغ قيمتها 21.1 مليار دولار، في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة توتر الأزمة القطرية الخليجية بالتزامن مع تصريحات ترامب المعادية للدوحة يجسد هذا السيناريو بشكل كبير.
ومن ثم فإن تعامل الإدارة الأمريكية مع هذه الأزمة وعلى رغم ما ينتابه من ملامح تناقض أو تباين في التوجهات والمواقف ما بين الرئيس وإدارته، فإن الواقع يشير إلى أن واشنطن تسعى وبكل قوة إلى توظيف هذا التوتر لصالحها بما يعود عليها بأكبر المكاسب حيث تبقي على الباب مفتوحًا مع الجميع، ويظل كل من طرفي الأزمة متعلقًا بأوتار الدعم والتأييد من الجانب الذي يدعمه، وهو ما يصب في النهاية في صالح أمريكا، وتظل دول الخليج بطرفيها المتصارعين الخاسر الوحيد من هذه المعركة.