أنقذت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، على متن عمليتها التي أطلقتها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، خيارات المقاومة والثورة في معاجم القضية الفلسطينية، فيما أبقت على قضايا التسوية وحلّ الدولتَين ليغرقها “طوفان الأقصى”.
وقضايا التسوية، إذا أردنا الوقوف عليها، ممتدة منذ عام 1948 أو حتى قبل ذلك، حين كانت الحكومات العربية ترى في قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 خيارًا مريحًا لقواتها لتسوية القضية، وهو ما دفعها في وسط حرب النكبة إلى عدم تجاوز خطوط التقسيم في قتالها، فضلًا عن انسحابها المبكّر لتترك الفلسطينيين وحدهم.
ولاحقًا، لقضية التقسيم إلى دولتَين: فلسطينية وأخرى إسرائيلية، بدأت الحكومات العربية بتطبيع علاقاتها مع الاحتلال، فوقّعت اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية وادي عربة مع الأردن، لتلحقها اتفاقيات أبراهام للتطبيع مع الإمارات والبحرين، ثم اتفاقية أخرى مع المغرب، ومحادثات للتطبيع مع السعودية بشكل رسمي شتّت جهودها “طوفان الأقصى”.
وفي عام 1993 انطلقت التسوية الأخرى، وصدر قرار حلّ الدولتَين عن الفلسطينيين أنفسهم، حين وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال اتفاقية أوسلو عام 1993، وفيه اعترفت بـ”إسرائيل” كدولة جوار على حدود عام 1967، وجرّمت الفعل المقاوم، وجعلت قضية القدس واللاجئين والعودة والأسرى ضمن المفاوضات التي فشلت فيما بعد، وتوسّعَ الاحتلال الإسرائيلي للدولة الفلسطينية التي رسمها اتفاق أوسلو، ورُحّلت قضايا المفاوضات إلى أجلٍ غيرِ مسمّى.
المشروع الاستعماري الإسرائيلي: المستوطنون نازحون وهاربون
أول مشاريع التسوية التي أغرقتها عملية “طوفان الأقصى”، هو المشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي يقوم في أساسه على استقدام المستوطنين من مختلف أنحاء العالم، لتوطينهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وبناء المستوطنات لهم، وما يعنيه ذلك من الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وطموح “إسرائيل” العميق لجعل كفّة الميزان الديموغرافي تميل إلى الوجود الإسرائيلي.
قبل “طوفان الأقصى”، كان تعداد اليهود في الأراضي المحتلة نحو 7 ملايين و145 ألف نسمة، ازداد 216 ألف نسمة عن عام 2022، لكن الزيادة في هذه الأعداد لم تطُل كثيرًا، حتى بدأ الطوفان وبدأت معه الهجرة العكسية على شكلَين: من الأراضي المحتلة إلى الخارج، ومن المستوطنات إلى المدن الكبرى في دولة الاحتلال.
وبحسب صحيفة “ذي ماركر“ العبرية، فإن نحو ربع مليون يهودي (230 ألفًا) غادروا الأراضي المحتلة خلال شهر من عملية “طوفان الأقصى”، فيما كشفت وزارة العمل عن ترك 764 ألف إسرائيلي لوظائفهم نتيجة استدعائهم للخدمة الاحتياطية بسبب الحرب على قطاع غزة.
أما الهجرة من المستوطنات من المدن الكبرى، فبعد عملية “طوفان الأقصى” استطاعت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من دفع المستوطنين في مستوطنات غلاف غزة إلى مغادرة مستوطناتهم، تحت رعب يوم السابع من أكتوبر من جهة، وتحت الرشقات الصاروخية التي أطلقتها المقاومة على مدار أيام الحرب من جهة أخرى.
وفي أعقاب ذلك أُخليت مستوطنات غلاف غزة، والبالغ عدد مستوطنيها نحو 70 ألف مستوطن موزعين في أكثر من 50 مستوطنة وكيبوتسًا زراعيًّا صغيرًا على امتداد الغلاف، ومن ضمن هذه المستوطنات مستوطنة مدينة سديروت، أكبر مستوطنات الغلاف بثقل سكاني يصل أكثر من 35 ألف مستوطن، هذه المستوطنة التي أُقيمت على أنقاض البلدات والقرى التي كانت تتبع لقضاء غزة وبئر السبع قبل النكبة، ومثّل تهجيرها ضربة على المستوى النفسي والميداني، كما يؤكد قادة سابقون في المنظومة الأمنية في دولة الاحتلال.
ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن أحد مستوطني سديروت، قوله إنه قرر ترك البلدة بعد تحولها إلى بالغة الخطورة مع استمرار سقوط الصواريخ عليها، وذكر أنه يعيش في البلدة منذ 66 عامًا ولم يتركها في أي من الجولات السابقة، إلا أنه قرر هذه المرة الرحيل في ضوء اقتحامها والخشية من الأيام القادمة، فيما أكد رئيس بلديتها أنه لن يعود والمستوطنون الآخرون ما دامت المقاومة في قطاع غزة.
أما مدينة عسقلان المحتلة، ثالث أكبر مدن جنوب فلسطين المحتلة، وفيها ميناء دولي ويمرّ منها خط أنابيب الغاز للتصدير، شهدت معادلة “التهجير بالتهجير”، حيث قصفتها المقاومة الفلسطينية في غزة ردًّا على تهجير الغزيين، حتى أعلن الاحتلال تمويل إخلاء مدينة عسقلان، والبالغ عدد سكانها 156 ألف مستوطن، وأن المدينة انضمّت إلى خطة “هبوب الريح”، وعُرض على من يرغب الرحيل من المدينة الاستضافة في الفنادق أو لدى أقاربه في الوسط أو الشمال.
وعلى شكل مشابه، أعلن الاحتلال إخلاء أكثر من 43 مستوطنة في شمال فلسطين المحتلة، في ظل التصعيد المتواصل على الجبهة، وإحدى هذه المستوطنات “كريات شمونة” القريبة من الحدود اللبنانية، والتي يبلغ عدد سكانها 28 ألف مستوطن، وتعرضت لرشقات صاروخية من كتائب القسام في جنوب لبنان، ما دفع الاحتلال إلى ضمّها هي الأخرى إلى خطة الإخلاء، وأرسل حافلاته وجنوده ليبدأ بإجلاء مستوطني الاحتلال.
رفض سلمية العلاقات: المقاومة تلتهب في الضفة
القضية الثانية التي أطاحت بها عملية “طوفان الأقصى” هي سلمية العلاقات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، خاصة في الضفة المحتلة، والتي حاول الاحتلال بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية تطبيعها في المجتمع الفلسطيني، من خلال ضخّ الرواتب، وتوفير الحد الأدنى من الإمكانات الاقتصادية، وفتح أراضي الداخل المحتل لأكثر من 180 ألف عامل فلسطيني للعمل في المصانع والمزارع وورش البناء الإسرائيلية.
وبعد الطوفان، عادَت ملامح الحياة في الضفة إلى ما كانت عليه في الانتفاضة الأولى ويجب أن تكون عليه، أي منطقة محتلة، التوتر الدائم والمواجهة المستمرة، فأغلق الاحتلال مدن الضفة، ونصب حواجزه وسواتره الترابية على مداخل القرى، وقصف الضفة بطائرات مسيَّرة وحربية أكثر من 15 مرة منذ بدء الطوفان، وعاد تعريف الجندي والمستوطن في الضفة على أنه العدو، لا مفهوم الصديق السلمي الذي حاولت السلطة الفلسطينية فرضه.
ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، رصد مركز معلومات فلسطين “معطى” أكثر من 2814 عملية مقاومة نوعية وشعبية في الضفة المحتلة والقدس، منها 718 عملية إطلاق نار، و3 محاولات إطلاق صواريخ فلسطينية محلية الصنع في الضفة، وأكثر من 1800 مواجهة على خطوط التماسّ في مختلف أنحاء فلسطين.
قضية الأسرى
القضية الثالثة التي أحياها الطوفان هي قضية الأسرى، هذه القضية التي تجاهلتها اتفاقية أوسلو بشكل واضح وصريح، ولم تأتِ منظمة التحرير على ذكرها خلال توقيعها الاتفاقية، حيث ما زال يقبع في سجون الاحتلال 22 أسيرًا من القدامى المعتقلين منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو، أقدمهم الأسير محمد الطوس المعتقل منذ عام 1985، إلى جانبهم 11 أسيرًا من محرري صفقة “وفاء الأحرار”، الذين اُعتقلوا منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو، وأُفرج عنهم في الصفقة عام 2011، وأُعيد اعتقالهم عام 2014، وفقًا لبيانات نادي الأسير الفلسطيني.
ومع أن عملية المقاومة الفلسطينية هي عملية لأجل الأقصى، وسُمّيت تيمنًا به، إلا أن أحد أهدافها هو تحرير الأسرى الفلسطينيين وتبييض سجون الاحتلال، هؤلاء الأسرى الذين قطعت السلطة الفلسطينية رواتبهم بأمر من الاحتلال الإسرائيلي، وأعادت اعتقال المحررين منهم في سجونها لتحقق معهم نيابة عن الاحتلال.
إعادة إحياء القضية الفلسطينية حول العالم
القضية الرابعة والمهمة هي إعادة إحياء القضية الفلسطينية حول العالم، فمنذ أكثر من 50 يومًا من “طوفان الأقصى” لم تغير قنوات عالمية وعربية موجتها عمّا يحدث في الأراضي الفلسطينية، فيما اندلعت مظاهرات في دول مختلفة من العالم نصرة لفلسطين وقضيتها ورفضًا للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وبدأت ملامح الاحتلال تتعرى دوليًّا أمام جمهور في دول تعتبر حليفة للاحتلال، مثل بريطانيا وأمريكا اللتين شهدتا أكبر مسيرات في تاريخهما، وكان عنوانها فلسطين.
ونقل موقع “أكسيوس الأمريكي” أن 210 ألف منشور استخدم وسم “قف مع فلسطين”، فيما استخدم 17 ألف منشور وسم “قف مع إسرائيل” على منصة تيك توك، ليعود كابوس معركة “سيف القدس” عام 2021، والالتفاف العالمي الشعبي حول الفلسطينيين بشكل أكبر في معركة تُدار حول صدق الرواية.
وبمقدار أهمية السخط الشعبي العالمي على الاحتلال، تخرج أهمية أخرى في الوسط العربي والإسلامي، حيث وجّهت “طوفان الأقصى” صفعة قوية لدول التطبيع بخروج مظاهرات شعبية عارمة ومتجددة أمام سفارات الاحتلال مطالبة بإنهاء العلاقات معه، ودعوة للحكومات العربية للوقوف إلى جانب خيار الشعب بإسناد فلسطين والمقاومة، هذه المقاومة التي صُنّفت في دول التطبيع على أنها “حركة إرهابية”.