عاد ملف “تهجير سكان قطاع غزة” ليفرض نفسه مجددًا على ساحة النقاش، بعدما خرجت العديد من الأصوات في الداخل الإسرائيلي وفي المعسكر الغربي تطالب بتفعيله في أقرب وقت، وبدء الإعداد لمرحلة ما بعد الحرب، حيث -وحسب أمنيات جوقة الاحتلال- لا حماس ولا مقاومة، وربما لا شعب فلسطيني.
الأمر تحول من محادثات داخل الغرف المغلقة إلى مقترحات ومشروعات علنية، تُطرح في الكونغرس والاتحادات والكيانات الإقليمية، ما يشي باكتمال مخطط التهجير بالفعل لدى العقلية الصهيونية وداعميها، وبلوغه مراحل متقدمة من الطرح، حتى إن كان من باب جس النبض كخطوة تمهيدية.
بالأمس قُدمت للكونغرس مبادرة جديدة تدعو إلى ربط المساعدات الأمريكية للدول العربية بمدى استعداد تلك البلدان لقبول اللاجئين من غزة، وعُرضت على أعضاء المجلس بغرفتيه، النواب والشيوخ، من الديمقراطيين والجمهوريين، كما لاقت ترحيبًا من بعضهم، وفق ما ذكر المحلل السياسي الإسرائيلي، أرييل كاهانا، في تقرير نشرته صحيفة “إسرائيل اليوم”.
مبادرة شيطانية.. تفاصيل مقززة
تشير تفاصيل المبادرة إلى أن الوضع في غزة الآن ما عاد يحتمل وجود الفلسطينيين، في ظل الحرب المستعرة بين المقاومة والاحتلال، وعليه فإن من الأفضل والحل الأمثل لحماية المدنيين الفلسطينيين، تهجيرهم للدول المجاورة، بحسب مقدمي المبادرة التي لاقت مباركة وتأييد بعض البرلمانيين الأمريكيين، على رأسهم عضو مجلس النواب المخضرم جوي ويلسون، الذي طالبه شركاؤه في البرلمان بالابتعاد عن الأضواء في هذه المرحلة تجنبًا لأن يكون لذلك تأثيرًا على المقترح المقدم.
المبادرة حددت أسماء 4 بلدان لاستضافة سكان القطاع لديها، كما حددت نسبة كل دولة من أعداد اللاجئين، تتصدرهم مصر بقرابة مليون فلسطيني (أي 0.9% من سكان مصر)، ونصف مليون في تركيا (0.6% من الأتراك)، و250 ألفًا إلى العراق، و250 ألفًا آخرين إلى اليمن (0.75%).
🔴 مقترح جديد في الكونجرس الأميركي يدعو إلى جعل المساعدات الخارجية للدول العربية مشروطة بقبول اللاجئين من غزة، بحسب تقرير نشرته صحيفة "إسرائيل هيوم".
1- ما تفاصيل المقترح؟
سيجري توزيع سكان غزة الذين كل 4 دول، كالتالي:
مليون لاجئ في مصر، ونصف مليون في تركيا، و250 ألف في العراق،… pic.twitter.com/nVw3y5ZX0w
— نون بوست (@NoonPost) November 29, 2023
ونظير هذا الاستقبال سيتم منح كل دولة مساعدات مالية مرشحة للزيادة مستقبلًا، حيث تُمنح مصر والعراق واليمن نحو مليار دولار، فيما تُمنح تركيا قرابة 150 مليون دولار، وأشارت المبادرة إلى أن تلك الأعداد أقل من 1% من إجمالي سكان كل دولة من الدول الأربعة، ما يسهل عملية دمجهم واستيعابهم.
ويستند أصحاب تلك المبادرة على أن مقترحهم ليس الأول من نوعه، فهناك تجارب مماثلة خلال السنوات الأخيرة، على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية، حيث فر منذ الحرب قرابة 6 ملايين أوكراني، 1.2 مليون منهم إلى بولندا، ومليون إلى ألمانيا، كذلك الحرب السورية التي ساهمت في نزوح 6.7 مليون سوري، 2.3 مليون منهم احتضنتهم تركيا، و789 ألف إلى لبنان، و653 ألف إلى الأردن، بجانب 150 ألف إلى مصر وبعض بلدان الشرق الأوسط وأوروبا.
خيوط المؤامرة تكتمل
وقبيل الإعلان عن تلك المبادرة، تجدد طرح التهجير خلال اجتماعات المنتدى الإقليمي الثامن للاتحاد من أجل المتوسط الذي عقد في مدينة برشلونة الإسبانية، الإثنين 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حيث تحدثت دوائر غربية عن مقترح يشير إلى احتمالية حدوث موجات نزوح لسكان القطاع إلى المناطق الجنوبية كما حدث خلال الأيام الأولى من الحرب، وفي حال شنت دولة الاحتلال هجومًا على الجنوب فإن ذات الموجات قد تتكرر لكنها ستكون إلى الداخل المصري.
وأشارت العديد من المصادر إلى أنه خلال الأيام الماضية عُرضت على الإدارة المصرية بعض الأفكار والمقترحات الخاصة بتهجير سكان القطاع إلى الأراضي المصرية، أبرزها إنشاء معسكرات إيواء في الشريط الحدودي بين مصر وغزة بعمق لا يتجاوز 10 كيلومترات، واستيعاب النازحين إلى بعض المحافظات المصرية شرقًا والقريبة من سيناء.
إلا أن تلك الافكار والمقترحات قوبلت جميعها بالرفض من كل الأجهزة السيادية المصرية والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية، فيما أكد وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال مشاركته في اجتماعات هذا المنتدى، رفض بلاده القاطع للفكرة من جذورها، وأنها غير قابلة للطرح والنقاش.
بات من الواضح أن ملف التهجير لم يعد هامشيًا كما كان في السابق، حيث أجبرت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، وما أحدثته من صدمة كبيرة، الكيان المحتل وحلفاءه على إخراج هذا الملف من ثلاجة التجميد ووضعه على طاولة النقاش مرة أخرى، لكن هذه المرة بشيء من الجدية، وهو ما يفرض على البلدان العربية والإسلامية تحديات جديدة.
تصفية القضية وليس المقاومة
وفق هذا الطرح وما يثار بشأن إصرار جيش الاحتلال على مواصلة القتال ونقل المعركة إلى جنوب غزة، فإن الأمر هنا يتجاوز النظرة الضيقة والخلافات الأيديولوجية مع حماس وغيرها من فصائل المقاومة، فالمشهد وفق تلك السردية يذهب باتجاه تصفية القضية الفلسطينية برمتها وليس مجرد المقاومة فحسب.
فما يحاك لغزة وسكانها يحاك كذلك للضفة وأهلها، فإذا نجحت مؤامرة تهجير سكان القطاع إلى مصر والعراق واليمن وتركيا، فإن أهل الضفة سيواجهون نفس المصير، لكن وجهة الترحيل ستكون الأردن، وهو ما يدور داخل الأروقة الإسرائيلية والأمريكية منذ فترة، وتبرهنه التصريحات العنصرية الصادرة عن بعض النخبويين في الداخل الإسرائيلي.
وزير الخارجية المصري: سياسة التهجير القسري مازالت هدفا لإسرائل عبر خلق واقع مرير على الأرض#مصر pic.twitter.com/hQKkWcXMfd
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) November 29, 2023
صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية نشرت اليوم تقريرًا استعرضت خلاله رؤية بعض جنرالات وساسة “إسرائيل” لإخراج حماس وفصائل المقاومة من غزة، وتفريغ القطاع من كل المسلحين وأصحاب المواقف المناوئة للكيان المحتل، في محاولة لتكرار نموذج إخراج منظمة التحرير في بيروت.
التقرير يتطرق إلى الإعداد لمرحلة ما بعد الحرب، أو بالأحرى ما بعد حماس، حيث تشكيل ما يسمى بـ”هيئة استعادة غزة” تكون مشكّلة من بعض الدول والكيانات – من بينهما السعودية والإمارات – وتهدف إلى إعادة بناء القطاع وفق هندسته الجديدة، وهو ما يتناغم بشكل كبير مع مخطط التهجير لكن بإستراتيجية مختلفة.
المقاومة هي الحل الوحيد
بصرف النظر عن جدية هذا الطرح الآن، وما إن كان الاحتلال سيوسع هجومه على جنوب غزة، بحسب تصريحات جنرالات الكابينت، لإجبارهم على النزوح إلى الحدود المصرية، أو أن الأمر لا يعدو نوعًا من الحرب النفسية وتصدير الضغط للمقاومة والفلسطينيين والأنظمة العربية، في محاولة للحصول على انتصار زائف يحفظ ماء وجه حكومة نتنياهو، إلا أن المشهد بتفاصيله تلك يحتاج إلى تحرك عاجل، وأخذه على محمل الجد لإجهاض هذا المخطط.
وبعيدًا عن الرفض المصري والأردني لفكرة التهجير، فإن الموقف السياسي وحده ليس كافيًا، في ظل حزمة من المغريات من الممكن أن يقدمها حلفاء تل أبيب وترضخ لها بعض الأنظمة كما حدث في السابق، هذا بخلاف أوراق الضغط المحتملة بأيديهم لممارستها على تلك البلدان.
وفي ذات السياق قد يلجأ الكيان المحتل إلى إستراتيجية التهجير الطوعي، وهي الإستراتيجية التي طُرحت سابقًا، حيث غلق كل سبل الحياة أمام سكان القطاع من جانب، وتقديم مغريات لهم كفرص عمل وحياة أفضل في بعض بلدان المنطقة ومنحهم امتيازات مادية وعينية، من جانب آخر، بما يدفعهم نحو اختيار الحل السهل ومغادرة القطاع بشكل طوعي ويمهد نحو تفريغه من سكانه.
العدوان على غزة كان سيحدث مع أو بدون #طوفان_الأقصى عملية 7 أكتوبر 2023
بسبب أن غزة هي المنفذ لتنفيذ المعبر الإقتصادي المعبر المائي "قناة بن غوريون"
وكان المخطط تهجير سكان غزة هجرة نهائية لسيناء
لكن المقاومة أفسدت خطتهم#AbuDhabiGP #CR7𓃵#IsraelisGenocidalState #SmackDown… pic.twitter.com/xhoMNitXcS
— د. جمال الملا (@DrJamal11) November 25, 2023
وأمام كل تلك السيناريوهات والمخططات فإن إبقاء جذوة المقاومة مشتعلة هو الحل الوحيد لإجهاض تلك المؤامرات، والحفاظ على توازن معادلة القوى، وعليه فإن دعم الفصائل، سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا، هو السبيل الأجدى للحفاظ على الأمن القومي العربي من احتمالية المواجهة المباشرة مع جيش الاحتلال، وهي المواجهة المؤكدة إذا سقطت غزة.
وإيمانًا بقيمة وأهمية ودور المقاومة في دحض تلك المخططات كافة، لم يدخر الاحتلال جهدًا في تفتيتها عبر إستراتيجيات عدة، لعل أبرزها توسيع البون بينها وبين غطائها العربي، فنجح في بث الفرقة وزرع الفتنة بينهما، وبالفعل بات خطاب الشيطنة العربية لحماس ربما أكثر حدة من ذاك المستخدم في الشارع الإسرائيلي، الشعبي والإعلامي والسياسي.
ومن هنا فإن العرب والمسلمين أمام خيار صعب، إما دعم المقاومة بكل ما أوتوا من قوة – مع تنحية أي خلافات أيديولوجية معها جانبًا ولو مؤقتًا – بوصفها الرهان الوحيد حاليًّا لحفظ الأمن القومي العربي وإبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة، وإما السقوط في فخ الصهيونية وحلفائها، بما يجعل غزة المحطة الأولى في سلسلة محطات عربية أخرى تستهدفها تل أبيب لتحقيق حلمها الأبدي.. فهل يعوا الدرس قبل فوات الأوان؟