تصاعدت مؤخرًا حدة الخلاف بين الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، والتي انخرطت مبكرًا في مسار الحرب الدائرة في غزة، سواء على مستوى التصعيد السياسي أو الاستهداف العسكري للمواقع الأمريكية في العراق وسوريا، ورغم هذا الانخراط المبكر، إلّا أن هذا الواقع أظهر من جهة أخرى خلافًا حادًّا حول طبيعة هذا الانخراط والتداعيات السياسية التي يمكن أن تتمخّض عنه.
أظهرت مواقف قادة الفصائل المسلحة تحولًا واضحًا في سلوكها، خصوصًا بعد حالة من الهدوء المنضبط في موقفها من الوجود الأمريكي في العراق، وتحديدًا بعد نجاحها عبر تحالف “الإطار التنسيقي” بتشكيل حكومة محمد شياع السوداني.
إذ حملت تصريحات كل من قائد كتائب “حزب الله” العراقي أبو حسين الحميداوي، وزعيم حركة النجباء أكرم الكعبي، تهديدًا واضحًا للولايات المتحدة، في حين عكست تصريحات زعيم منظمة بدر هادي العامري، وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، حالة من الانضباط التكتيكي حيال ما يجري في غزة، خصوصًا مع عدم وجود موقف إيراني واضح منها.
جاء الخلاف الأخير، وتحديدًا منذ 26 و27 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ليعكس عمق الأزمة التي تكتنف الإطار العام لموقف الفصائل المسلحة من الحرب في غزة، وتحديدًا بين كتائب “حزب الله” العراقي وعصائب أهل الحق، خصوصًا بعد إعلان قائد كتائب “حزب الله” العراقي، أبو حسين الحميداوي، أسماء المجموعات التي ضربت قواعد أمريكية في العراق.
إذ نشر الحميداوي أسماء الفصائل المنفّذة للعمليات، وهي، إلى جانب الكتائب، حركة النجباء وأنصار الله الأوفياء وكتائب سيد الشهداء دون ذكر للعصائب، ودعا الحميداوي الفصائل الأخرى إلى الالتحاق بصفوف المقاومة، وإنهاء الوجود الأمريكي في العراق.
يمكن القول إن الخلاف حول الحرب في غزة لم يكن وليد اللحظة، بل هو بالأساس ترجمة لسلسلة من الخلافات التي عصفت بالعلاقة بين الفصيلَين، وتحديدًا منذ اغتيال قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في يناير/ كانون الثاني 2020، وذلك لسعي قادة كل من الفصيلَين إلى شغل فراغ المهندس.
كما أنه ومنذ تشكيل حكومة السوداني، نشب خلاف خطير بينهما حول مناصب أمنية حسّاسة، أبرزها رئاسة أركان الحشد الشعبي وجهاز الأمن الوطني وجهاز المخابرات الوطني، فضلاً عن خلاف آخر حول الضربة الأمريكية الأخيرة لمقرّ تابع للحشد الشعبي في جرف الصخر منتصف الشهر الجاري، راح ضحيتها العديد من مقاتلي كتائب “حزب الله” العراقي.
العصائب تُثير حفيظة الكتائب
أظهرت حركة عصائب أهل الحق، وعلى لسان الناطق باسمها جواد الطليباوي، امتعاضها الشديد من إعلان الكتائب، بداعي حماية سرية العمل ومراعاة الظروف الأمنية، ودعت إلى التركيز على الهدف الأهم، وهو إجبار الأمريكيين على مغادرة البلاد.
وقال الطليباوي في بيان صحفي، إن “الإعلان غيّب تمامًا الدور الواضح للعصائب في العمليات على الأرض”، موضّحًا أن الكتائب “لم تراعِ ثوابت المقاومة وركائزها”، وترى العصائب في خطوة الكتائب “خرقًا أمنيًّا” ممكن أن يتسبّب في تعريض الفصائل العراقية للاستهداف أو العقوبات.
ووجّه الطليباوي رسالة إلى من وصفهم بـ”إخوة الجهاد، لا تكرروا هذه الفعلة مرة أخرى (…) المقاومة واحدة وما يصدر عنها يجب أن يكون موحّدًا”، وأضاف أن “مَن كتب البيان على علم بالحقائق، لكنه تعمّد ذكر أسماء فصائل وتغييب أخرى دون مبرّر”.
منذ تشكيل حكومة السوداني، نما نفوذ عصائب أهل الحق بشكل كبير، بينما تصرف الخزعلي كنوع من الوصي على تلك الحكومة وبدأ منافسوه في الفصائل الأخرى والشركاء السياسيين يشعرون أنه تحول إلى “قطار يمكنه دهس أي شخص يعترض طريقه”.
إذ إن الخزعلي يعتبر هذه الحكومة هي حكومته وقراراته في طليعة “الإطار التنسيقي” الآن، أما البقية فلا يستطيعون مواكبة سرعة صعود الخزعلي أو نفوذه، والجميع يشعر أن الخزعلي سيتنازل عنه إذا لزم الأمر، أو يسحقه في طريقه لتحقيق الأهداف.
ومن ثم إن خطوة الكتائب الأخيرة تشير إلى أنها محاولة لإحراج العصائب، بسبب موقفها الداعي إلى عدم الانخراط المباشر في الحرب، وذلك مراعاةً للظروف الداخلية والخارجية التي يعيشها العراق، فضلًا عن ذلك إن العصائب تعتبر أن أي تحرك عسكري غير محسوب العواقب قد ينعكس سلبًا على الجهود الإيرانية الساعية لبلورة حلّ سياسي لحرب غزة.
ولعلّ الارتباك الذي يكتنف موقف الفصائل الحالي، يعود في جانب كبير منه إلى انقسام دوائر صنع القرار في إيران من هذه الحرب، بين طرف يدعو إلى الحل السياسي (الخارجية)، وطرف آخر يدعو إلى الانخراط العسكري (الحرس الثوري).
السوادني.. الحلقة الأضعف
تمثّل حكومة السوداني الحلقة الأضعف في معادلة الخلاف الحالي، خصوصًا أنه لا يملك قدرة ضبط مواقفها، أو حتى ضبط عمليات الاستهداف التي تتعرض لها المواقع الأمريكية في العراق، وهي مشكلة مرتبطة أساسًا بالصراع الأمريكي الإيراني في العراق، إذ ساهمت عملية التوافق الأمريكي الإيراني في ولادة هذه الحكومة، ومن ثم يجد السوداني صعوبة كبيرة في دعم طرف على حساب آخر، أو حتى بالوقوف على الحياد.
يدرك السوداني حجم التحديات التي تكتنف مستقبل حكومته فيما لو تصاعد هذا الخلاف، أو حتى في إمكانية تصاعد عمليات الاستهداف التي تطال المواقع الأمريكية، خصوصًا بعد سلسلة من التحذيرات الأمريكية التي وصلت لحكومة السوداني، سواء عبر الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنيكن إلى بغداد، أو عبر السفيرة الأمريكية في بغداد إلينا رومانوفيسكي.
فعلى الصعيد الداخلي، ينظر السوداني إلى حجم الكُلف الاستراتيجية الخطيرة لتحركات الفصائل، فهناك وضع سياسي وأمني واقتصادي جديد في العراق، تبدو الفصائل المسلحة مرتاحة له وتعمل على إدامته، ومن ثم إن هذه الخلافات أو حتى المواقف من حرب غزة قد تعرّض هذا الوضع للانهيار، وما يمكن أن يؤديه ذلك من تداعيات كبيرة على مستقبل حكومة السوداني.
فضلاً عن إمكانية لجوء الولايات المتحدة إلى تشديد العقوبات الاقتصادية والمالية على العراق، عبر حظر المزيد من البنوك العراقية المرتبطة بالفصائل، من أجل تحييد إمكانية وصولها إلى الدولار الأمريكي.
وبالحديث عن الردود الأمريكية، قد تؤدي أي مشاركة أوسع للفصائل المسلحة في هذه الحرب، إلى إعادة النظر بطبيعة الاتفاقية الأمنية التي تربط العراق بالولايات المتحدة، فضلًا عن إعادة النظر بدور التحالف الدولي “العزم الصلب” في العراق، سواء على مستوى الاستشارة أو التدريب، أو حتى العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش”.
كما أن بعض قيادات الفصائل المسلحة حاولت خلال الفترة الماضية إعادة تسويق صورتها على الصعيد الدولي، وتحديدًا عبر العلاقات الجيدة التي ربطت بعض قيادات “الإطار التنسيقي” مع السفيرة الأمريكية في العراق.
ومن ثم إن المشاركة في الحرب قد تنهي هذه الجهود، عبر وضعها ضمن إطار التصنيف الإرهابي الذي وجدت حركة حماس نفسها فيه بعد الهجوم على “إسرائيل”، وهو ما قد يسهّل على الولايات المتحدة و”إسرائيل” حشد الإجماع الدولي ضدها.
كما أن لجوء الفصائل المسلحة إلى تصعيد هجماتها على المواقع الأمريكية، قد يدفع المجتمع الدولي إلى إعادة تقييم وضع العراق، وتحديدًا على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي، وما قد يفرضه هذا الواقع من عزلة سياسية قد يواجهها العراق مستقبلًا.