في إطار مسلسل التنازلات السياسية المجانية التي تقدمها السلطة الفلسطينية للجانب “الإسرائيلي”، مقابل إحياء مشروع التسوية الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بداية العام 2014، يحاول الرئيس محمود عباس، جاهدًا وضع الحقوق والثوابت الفلسطينية كعروض في مزاد المفاوضات مع “إسرائيل”.
قبل أسابيع قريبة كان الحديث يدور عن سعي أمريكي جاد لإحياء المفاوضات بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” بعد فشلها طول الـ22 عامًا الماضية، وبعد زيارة الرئيس دونالد ترامب للمنطقة ولقائه بالرئيس محمود عباس في بيت لحم لمدة 45 دقيقة، بدأت تتكشف خيوط المؤامرة على القضية الفلسطينية.
ولأجل فتح باب المفاوضات من جديد، قدم الرئيس الفلسطيني تنازلات بالجملة، فقد استغنى عن شرط وقف العمليات الاستيطانية مقابل العودة للمفاوضات، وكذلك تنازل عن شرط الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين القدامى، واليوم يقدم فكرة “تبادل الأراضي” كعرض لإغراء “إسرائيل” بجولة مفاوضات جديدة.
تنازل جديد.. ووهم أكبر
قيادي بارز في حركة فتح بالضفة الغربية المحتلة، كشف أخطر تنازل تقدمه السلطة الفلسطينية للجانب “الإسرائيلي”، بعد موافقتها على تبادل الأراضي الفلسطينية مع الاحتلال بنسبة 12%، بعد أن كانت السلطة ترفض هذا المقترح بنسبة 1.9% في 2008.
جاء ذلك خلال الاجتماع الأخير للجنة المركزية لحركة فتح، الذي عُقد في 25 من مايو الماضي، برئاسة محمود عباس، لمناقشة إحياء مشروع التسوية من جديد بعد توقفه منذ شهر مارس من العام 2014 بسبب الاستيطان “الإسرائيلي” على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وذكر القيادي الفتحاوي الذي كان مطلعًا على فحوى اجتماع الحركة بالرئيس محمود عباس، أن السلطة وافقت على استئناف المفاوضات مع الاحتلال، والتخلّي عن جميع شروطها السابقة.
كان أولمرت عرض فكرة تبادل الأراضي عام 2008، في أثناء اجتماع له مع أبو مازن، وقدّم اقتراحًا على طلب 6.3% من الضفة، أي ما يقرب من 550 كم2، تتركز غالبيتها في مناطق القدس الشرقية وجوارها، ومنطقتي بيت لحم وفي مناطق الكتل الاستيطانية الكبرى
وأكد أن السلطة وافقت أيضًا على تبادل أراضي بنسبة 12%، وهي أعلى بكثير من العرض السابق لها زمن رئيس الحكومة إيهود أولمرت البالغة 1.9%، لافتًا إلى أن نسبة 12% تتضمن بقاء معظم المستوطنات الكبرى في الضفة تحت السيادة “الإسرائيلية””، وأنها “قد تصل إلى التنازل عن منطقة الغور”!
وكان أولمرت هو الذي عرض فكرة تبادل الأراضي عام 2008، في أثناء اجتماع له مع أبو مازن، وقدّم اقتراحًا على طلب 6.3% من الضفة، أي ما يقرب من 550 كم2، تتركز غالبيتها في مناطق القدس الشرقية وجوارها، ومنطقتي بيت لحم وفي مناطق الكتل الاستيطانية الكبرى.
لكن عباس عرض تبادل أراض يقوم على 1.9% فقط، لإعادة تحديد الحدود بين “إسرائيل” وفلسطين، كما قال في حينه.
وتضمّن عرض أولمرت إعطاء الفلسطينيين 5.8% من الأراضي “الإسرائيلية” مقابل 6.3% من الضفة، حيث يعيش 75% من المستوطنين اليهود.
وتضمنت الأراضي “الإسرائيلية” التي عرضها أولمرت، قطعة أرض قرب قطاع غزة مساحتها نحو مئة كيلومتر مربع، وأخرى قرب الضفة مساحتها 227 كيلومترًا مربعًا، أغلبها في الصحراء.
إلى جانب ذلك، عرض أولمرت إعطاء الفلسطينيين طريقًا داخل “إسرائيل”، يسمح لهم بالتنقل بين غزة والضفة، على أن يبقى الطريق ضمن السيادة “الإسرائيلية”.
ومن المقرر أن يتوجه وفد رفيع المستوى من السلطة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن لإعلان مشروع تسوية جديد مع “إسرائيل”، وسيترأس الوفد صائب عريقات أمين سر الجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللواء ماجد فرج مدير جهاز المخابرات، إضافة إلى شخصيات فلسطينية اقتصادية.
وتوقّفت المفاوضات نهاية أبريل/نيسان 2014، بعد 9 شهور من التباحث برعاية أمريكية وأوروبية، بسبب رفض الاحتلال وقف الاستيطان، وعدم قبوله بحدود 1967 أساسًا للمفاوضات.
الفلسطينيون الخاسر الأكبر
بدوره، انتقد نايف الرجوب، النائب في المجلس التشريعي عن حركة حماس، استمرار الرئيس الفلسطيني في نهج تقديم التنازلات مع الجانب “الإسرائيلي”، مقابل إحياء المفاوضات معه واللهث وراء هذا السراب.
وأكد الرجوب أن “مبدأ التنازل عن أي شبر من فلسطين مرفوض تمامًا وخارج السياق والتوافق الوطني، ويعد خيانة تقدَّم للاحتلال، يجب محاسبة كل من يرتكبها أمام الشعب الفلسطيني”، مشيرًا إلى أن عودة الحديث عن تبادل الأراضي سيكون الخاسر الأكبر فيه هم الفلسطينيون.
الرجوب: تبادل الأراضي مع الاحتلال سيسهم بشكل كبير في تقسيم الضفة الغربية المحتلة
وحذر الرجوب الرئيس عباس من تنفيذ تنازل “تبادل الأراضي”، موضحًا أن الرئيس عباس لن يجني شيئًا من اللهث وراء المفاوضات، ومهما يقدم من تنازلات للاحتلال فسيكون هو وشعبه والثوابت الفلسطينية أكثر المتضررين.
وذكر الرجوب أن تبادل الأراضي مع الاحتلال سيسهم بشكل كبير في تقسيم الضفة الغربية المحتلة، مشيرًا إلى أن المؤامرة بدأت تتضح للتنازل عن الأراضي الفلسطينية لصالح “إسرائيل”.
من جانبه، يعتقد المتحدث باسم “كتلة السلام الآن” الإسرائيلية المناهضة للاستيطان، آدم كلير، أن طرح تبادل الأراضي والسكان يعكس التناقض في مواقف وتصريحات نتنياهو المناهض لأي تسوية سياسية مع الفلسطينيين والرافض لحل الدولتين، لكنه يواصل المراوغة والتحايل على المجتمع الدولي بمقولة “لا يوجد شريك فلسطيني”.
ويقلل كلير من جدوى ونجاعة هذه الأفكار القديمة الجديدة ويعتبرها غير واقعية، مبينًا أن الحكومة “الإسرائيلية” الحالية وجهتها ليست للسلام، وترفض أي مقترح لتبادل الأراضي، وتتجه في سياساتها وتشريعاتها لتقليل عدد الفلسطينيين والسيطرة على أكبر مساحة من الأراضي وضم الضفة الغربية، وفرض السيادة “الإسرائيلية” مع فرض وقائع تمهد ليهودية الدولة”.
ولفت كلير إلى أن القانون “الإسرائيلي” يمنع إسقاط المواطنة عن السكان، وعليه فإنه في حال تم تطبيق التبادل السكاني وضم قسم من المواطنين العرب إلى دولة فلسطين، فلن يكون بمقدور أي حكومة سحب الجنسية “الإسرائيلية” منهم، أو منعهم من حق الترشح والانتخاب للكنيست، كما أن ضم الضفة يعني تجنيس الفلسطينيين، ما يعني أنهم سيكونون أغلبية سكانية وسياسية في فلسطين الانتدابية.
النكسة الجديدة القادمة
ومع توارد المعلومات مجددًا عن موافقة سلطة فتح استئناف المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي والموافقة على تبادل الأراضي بما لا يزيد عن 12% من أراضي الضفة الغربية. أجمع محللون سياسيون أن القضية الفلسطينية أمام منعطف خطير يفضي إلى تهويد ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة بمدن الضفة الغربية لا سيما بعد موافقة السلطة تبادل الأراضي بنسبة تزيد عن 12% من أراضي الضفة.
حيث قال فايز أبو شمالة الكاتب والمحلل السياسي: “إننا أمام مفاوضات عبثية جديدة والمضي فيها مضيعة للوقت دون تدخل أي فلسطيني جدي لمواجهة التوسع الاستيطاني ومواجهة تهويد الأرض الفلسطينية”.
أبو شمالة: فكرة التخلي عن الثوابت التي كان يدعيها رئيس حركة فتح محمود عباس والموافقة على نسبة 12% من أراضي الضفة لن ترضي “الإسرائيليين” والأحزاب اليمينية “الإسرائيلية”
ولفت أبو شمالة إلى أن تطور تبادل الأراضي من نسبة 1.9% إلى 12% مع بقاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية أمر لم يقبله “الإسرائيليون” ولن يسمحوا بتمريره على الإطلاق، قائلًا: “الإسرائيليون يستوطنون بما يعادله مع الطرق الالتفافية 60% من أراضي الضفة المحتلة وبالتالي لن يكونوا مستعدين لتقليص مساحة نفوذهم والتراجع عن الاستيطان الذي بلغ تعداده 750 ألف مستوطن”.
وأضاف أبو شمالة أن فكرة التخلي عن الثوابت التي كان يدعيها رئيس حركة فتح محمود عباس والموافقة على نسبة 12% من أراضي الضفة لن ترضي “الإسرائيليين” والأحزاب اليمينية “الإسرائيلية”.
بدوره وافق الدكتور عمر جعارة أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح الوطنية ما تحدث به المحلل السياسي فايز أبو شمالة، مؤكدًا أن الاحتلال لا يمكنه أن يفكك الاستيطان في الضفة الغربية لتبادل الأراضي مع السلطة الفلسطينية.
وقال المحلل جعارة “هناك إجماع “إسرائيلي” من الائتلاف الحكومي بعدم تفكيك الكتل الاستيطانية الضخمة”، موضحًا أن فكرة تفكيها مستبعدة جدًا”، مضيفًا: “ممكن أن توافق “إسرائيل” على إعطاء حكم ذاتي في مناطق الضفة (أ/ ب) وهو ما يعني أن 40% من الضفة تنعم بالحكم الذاتي مع السيادة الأمنية المطلقة “للإسرائيليين”، واصفا إياه بالأمر الخطير لأي سلام حقيقي وشامل مع السلطة والاحتلال الصهيوني.
وتابع “إذا كانت هذه سمات وعلامات الحل المنتظر فنحن أمام كارثة جديدة لا تقل عن النكسة والنكبة (..) السيادة الأمنية لـ”لإسرائيليين” غير قابلة للنقاش والكتل الاستيطانية الضخمة غير قابلة للنقاش والسيادة على القدس الشرقية كاملة غير قابلة للنقاش لذلك أصبحت مناطق (س) والتي تشكل 60% من ساحة الضفة الغربية أمر مذهل وخطير.
تقوم فكرة “تبادل الأراضي” على أن تصبح الأراضي الفلسطينية التي يقيم بها مستوطنون يهود، جزءًا من دولة “إسرائيل”، في حين تغدو البلدات الفلسطينية، الخاضعة لسيطرة الاحتلال والتي يقطنها فلسطينيون من سكان الأراضي المحتلة عام 1948، جزءًا من الدولة الفلسطينية المقبلة
وفي عام 2013، أعيدت الفكرة في إطار دعوة عربية لإحياء عملية السلام مرة أخرى، واحتفت حينها “إسرائيل” بموافقة الجامعة العربية على تبادل الأراضي، حيث صرحت وزيرة العدل حينذاك، تسيبي ليفني، بأن تأكيد ممثلي الجامعة العربية تمسُّكهم بالمبادرة العربية للسلام في الشرق الأوسط، وموافقتها على تبادل الأراضي يبرز أهمية التوقيع على اتفاقية سلام مع الفلسطينيين.
وتقوم فكرة “تبادل الأراضي” على أن تصبح الأراضي الفلسطينية التي يقيم بها مستوطنون يهود، جزءًا من دولة “إسرائيل”، في حين تغدو البلدات الفلسطينية، الخاضعة لسيطرة الاحتلال والتي يقطنها فلسطينيون من سكان الأراضي المحتلة عام 1948، جزءًا من الدولة الفلسطينية المقبلة.
ويشكل الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 الذين لم يغادروا أراضيهم لدى قيام دولة الاحتلال 17.5% من السكان، وتخشى تل أبيب أن يهدد ثقلهم الديموغرافي المتنامي “هوية الدولة اليهودية”.