نكتب وقد عاد القتلة إلى ممارسة هوايتهم المفضلة في غزة، لكننا رغم القتل نقول إن غزة انتصرت، ولا يقلل من نصرها في معركة الطوفان أو يستهين به إلا جبان القلب، ممّن لحست الدعاية الصهيونية عقله وذوّبت روحه، فهو مهزوم أبدي.
لقد تحقق نصر ميداني واستراتيجي أربك حسابات كثيرة، منها حسابات عرب رغبوا منذ زمن أكثر من الصهاينة في وضع فلسطين في علبة على رفّ مثل لقية أركيولوجية قديمة، لكن هذا النصر مهدَّد بالتفتيت من قبل كل مكونات الجبهة التي أفسد حساباتها وأخسرها خسرانًا مبينًا.
فكيف ستناور المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس، لحفظ هذا النصر ثم البناء عليه ليكون نصرًا وتحريرًا؟ سنكتب عن هذا وليس بين أيدينا إلا ثقة مطلقة في دهاء المقاومة وصبرها على مكاره الخذلان.
لم يرتووا من الدم فعادوا إلى القتل
برصيد الثقة في المقاومة ودهائها وشجاعتها نتابع استئناف القتال، بعد هدنة لم تسلّم فيها المقاومة سلاحها ولم تبدِ أي علامة استسلام، كما أثبتت حاضنتها الشعبية صمودها وصبرها، ومن الواضح أن الدخول في هدنة طويلة تتحول إلى هدنة دائمة، كان سيعني نهاية كارثة على العدو وعلى شخص نتنياهو بالذات، لذلك نفهم دوافعه الحربية الآن، لكن هل يملك قدرة على تحديد تاريخ لإنهاء الحرب؟
لا نراه يفعل ولا نراه ينهي الحرب إلا بخسائر إضافية في أرواح جنوده وآلياته، ما يضاعف نصر المقاومة في قادم الأيام، حيث سيخسر بقدر ما يتمدد في غزة وبقدر ما يمكث، لأنه بات من الواضح أنه لم يفهم طبيعة الأرض والسكان الذين يحاربهم (المكان والزمان ضده حتى الموت).
ونرى في هذا على أنه توسيع نصر غزة، وهنا تظهر لنا مخاوف أخرى لا تتعلق بشجاعة المقاتل على أرضه، بل بصعوبة التصدي للخائفين من هذا النصر على عروشهم وعلى وضعهم المريح، كأنظمة تحتمي بالكيان من شعوبها، ويظل سؤالنا هو كيف ستحمي المقاومة نصرها من هذا الكيد؟
المحتمون بالكيان يخسرون بخسارته
هذه إحدى القناعات التي رسّختها حرب الطوفان، كانت واضحة للكثيرين، لكن كانت الدعاية الرسمية العربية تفلح في صرف الأنظار عنها بوسائل كثيرة، لكن ما ظهر من خذلان للمقاومة وما رأيناه من نصائح لها بالاستسلام بلغة متفاصحة، وبالأخص ما رأيناه من إغلاق معبر المساعدات الإنسانية، بل إغلاق المشافي الأردنية دون المصابين، يكشف أن لدى الكثير من دول الرغبة في إنهاء المعركة بمحق المقاومة، وفي مقدمتها حماس.
كانت الأنظمة العربية حتى من غير دول المواجهة تحمي الكيان من شعوبها الثائرة، فمن سيحمي الأنظمة وقد ضعف الحامي أو “تبهدل”
حيث تتمنى هذه الدول أن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أي عودة الكيان قويًّا قادرًا على حماية الأنظمة العربية من حوله، مع استعداد الأنظمة لردّ الجميل ودفع الجزية للكيان من لحم شعوبها.
نصر غزة –وإن لم يكتمل بعد- يشير إلى أن هناك أكثر من خاسر، وإذا كان الكيان قادرًا بفضل رعاته الغربيين عمومًا والأمريكي خصوصًا على ترميم خساراته، وعلى العودة إلى وضع قوة يعسِّر تحريرًا شاملًا في المدى المنظور، كما نتمنى وكما نتوقع أن المقاومة تخطط، إلا أن هذه الكيانات تفقد كل شرعية وتفقد الحامي، إذ تفقد الدور وتتعرّى أمام شعوبها التائقة إلى التحرير والديمقراطية.
لقد كانت الأنظمة العربية حتى من غير دول المواجهة تحمي الكيان من شعوبها الثائرة (صاحبة شعار الشعب يريد تحرير فلسطين)، فمن سيحمي الأنظمة وقد ضعف الحامي أو “تبهدل”، بحيث لا يمكنه أن يفيض من عطفه ويردّ الجميل للأنظمة؟
بل إننا نرى الراعي الأمريكي للجميع يعيد النظر في خطته الكيسنجرية وقد مات صاحبها، فلسان حاله يقول: “ماذا لو كان القبول بالديمقراطية أقل كلفة من دعم الديكتاتوريات العربية؟”، لكن قبل أن تصبح هذه المراجعات واقعًا، نظل مهمومين بمصير غزة المنتصرة، وكيف ستحمي نصرها من الخذلان والكيد المحيط؟
ماذا سيفعل الخاسرون؟
لقد فقدوا دورهم أو يكادون، وهذا ليس تفاؤلًا بلا قاعدة موضوعية، سيعملون على التضييق على غزة قدر ما يستطيعون، وسيبحثون عن كل الوسائل لإلحاق الضرر بشعبها وتجويعه ومنعه من الحياة، لجعله يندم على احتضان المقاومة وحمايتها ورفضه التهجير، وقد كان التهجير سيجلب لهم غنائم كثيرة ويريحهم من وجع الرأس الفلسطيني إلى الأبد.
نصر غزة المخيف لمن حولها سيتّسع على من حولها من الأنظمة، وسيمدُّ شعوبًا مقهورة بروح جديدة وإن بعد حين
سيكون فعلهم انتقاميًّا وكيديًّا لا يرتقي إلى حرب عارية، لكنه يؤثر أكثر من السمّ البطيء، ولديهم الوقت لممارسة هذا التعذيب مقارنة بالمواطن الغزاوي الساكن في خرائب بيته، والمعرّض للبرد والجوع وقد فقدَ عمله ومدرسته، سيجعلون كلفة النصر عالية ومؤلمة على المقاومة، وهذا هو العمل الجبان المتبقي لهم، وقد خسروا في معركة شرف لم يستعدّوا لها أبدًا.
إن نصر غزة المخيف لمن حولها سيتّسع على من حولها من الأنظمة، وسيمدُّ شعوبًا مقهورة بروح جديدة وإن بعد حين، فلم تخرج هذه الشعوب إلى الشارع بقوة تنصر المقاومة وقت المعركة خاصةً، إذا قورنت بشعوب أخرى بعيدة جغرافيًّا وثقافيًّا، لكنها قلبت معادلات راسخة في بلدانها، إننا نستشعر غضبًا يختزن ويتكثف ويتربّص بالأنظمة، والمثيرات كثيرة والزمن مفتوح لتغيير كبير، بفعل نصر غزة التاريخي والاستراتيجي.
وليس لدينا نصائح نقدمها للمقاومة التي عرفت كيف تلاعب أقوى أعدائها في ميدان الحرب وتنتصر، سوى أن نهمس لها بلطف خفي أن تنتبه إلى ليونة الأفاعي في الأيدي العربية التي تمتد لمصافحتها في زمن السلم، وهذه هي الطريقة الوحيدة لحماية هذا النصر التاريخي.