أعادت معركة “طوفان الأقصى” التي تخوضها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتحديدًا حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، تسليط الضوء على جوانب هامة للقضية الفلسطينية، لعلّ من أبرزها مخيمات اللجوء التي تعرضت كما بقية المناطق في غزة للقصف والعدوان الإسرائيلي.
وتعمّد الاحتلال الإسرائيلي خلال عمليات القصف الجوي والمدفعي والتوغُّل البرّي، استهداف مخيمات اللاجئين التي تشكّل ذخرًا تاريخيًّا هامًّا للقضية الفلسطينية، على اعتبار أنها شاهدة على قضية اللاجئين التي تعود إلى العام 1948 خلال النكبة الفلسطينية.
ومن المخيمات التي طالها القصف الإسرائيلي مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، الواقع غرب مدينة غزة، والذي يعتبَر ثالث أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، وهو إحدى أهم المناطق الفلسطينية احتضانًا للقيادات الفلسطينية من مختلف الفصائل.
وتعمّد الاحتلال استهداف هذه المخيمات ومحاولة محو تفاصيلها، كي يحاول عبر هذه الجرائم طمس جانب من التراث والتاريخ الفلسطيني الذي يطارده منذ أن أسّس كيانه قبل عقود، في ظلّ افتقاره للتاريخ أمام جذور الشعب الفلسطيني الشاهدة على تواجده في أرضه.
تاريخ المخيم
سُمّي مخيم الشاطئ بهذا الاسم لكونه يقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في مدينة غزة، وهو واحد من أكثر المخيمات اكتظاظًا بالسكان في القطاع بل في العالم.
ويبعد المخيم 4 كيلومترات عن وسط مدينة غزة، وأُقيم عام 1951 على مساحة 512 دونمًا لإيواء ما يقارب 23 ألف لاجئ كانوا يقيمون في 3 مخيمات متفرقة داخل مدينة غزة، الأول كان يطلق عليه اسم “مخيم حلزون” أُقيم غربي السرايا، والآخر “مخيم الجميزات” جنوبي مستشفى الشفاء، والثالث “مخيم قرقش” شمالي ملعب اليرموك، وهناك عدد من اللاجئين سكن في مناطق متفرقة في مدينة غزة في بيوت مستأجرة.
وضمَّ المخيم اللاجئين المهجّرين من القرى والمدن الساحلية الواقعة في جنوب فلسطين ووسطها، والتي تتبع أقضية غزة وبئر السبع ويافا، والقليل منهم من منطقة الشمال، ومن هذه القرى والمدن هربيا، وبربرة، وبرير، والجورة، ودير سنيد، ودمرة، والجية، وجولس، والسوافير، والمجدل، وحمامة، وأسدود البطاني، وعبدس، وسمسم، وهوج، وكرتية المسمية، ويافا، واللد، والرملة الخصاص، ويبنة.
وكانت بيوت المخيم عبارة عن وحدة مكونة من غرفة واحدة وفناء يحيط به سور مبنية من الحجر الاسمنتي، ومسقوفة بالقرميد الاسمنتي على نظام بلوكات يفصل بينها شوارع واسعة بلغت 8 أمتار وأزقة ضيقة، وكانت تستخدَم هذه الغرف للنوم ليلًا ومطابخ وحمّامات نهارًا، أما دورات المياه فكانت في الشوارع، دورات مخصصة للنساء وأخرى للرجال، وأما المياه فقد حفرت وكالة الغوث آبارًا وضعت عليها مضخّات لخدمة السكان، كما كان هناك حمّام رئيسي يستحمّ فيه تلاميذ المدارس مرة في الأسبوع.
في بداية تأسيس المخيم عاش اللاجئون على تلقي المساعدات من منظمات الإغاثة، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومؤسسة الكويكرز، ثم وفّرت الأونروا لاحقًا مساكن مبنية بالطوب مسقوفة بالقرميد محل الخيام في أوائل الخمسينيات، ثم بدأ اللاجئون يتوسعون.
مواجهة مع الاحتلال
بعد تصاعد المقاومة المسلحة انطلاقًا من المخيمات الفلسطينية، هدمت سلطات الاحتلال أكثر من 2263 غرفة في مخيم الشاطئ عام 1971، من أجل شق طرق بحجّة توسيع المخيم، لكن الهدف هو السيطرة على الثورة المسلحة في المخيم، وتم تهجير ساكنيها إلى العريش التي كانت محتلة آنذاك.
وتقلّص مرة أخرى عدد السكان بعد خروج الآلاف منهم للسكن في مشاريع التوطين، مثل مشروع الشيخ رضوان شرقي المخيم، وكان الشرط الأساسي للحصول على منزل هو هدم منزل المخيم، وتمّت إقامة مشروع الشيخ رضوان في شمال مدينة غزة من أجل تفريغ معسكر الشاطئ، وإعادة إسكان اللاجئين الذين هدمت بيوتهم بواسطة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكان يُقصد من هذا المشروع إعادة توطين اللاجئين وإنهاء قضيتهم كلاجئين.
فيما بعد بلغت مساحة المخيم 747 دونمًا، بينما يبلغ تعداد سكانه أكثر من 100 ألف نسمة مسجّلين داخل المخيم، قبل أن يتضاعف العدد خلال العقود الأخيرة ليصبح المخيم هو المكان الأكثر اكتظاظًا في العالم، إلى جانب القطاع الذي يعدّ مكتظًا من ناحية السكان: 2.3 مليون نسمة على مساحة جغرافية 365 كيلومترًا.
ونظرًا إلى وقوع المخيم على شاطئ البحر المتوسط، ولجوء سكان القرى الساحلية المهجّرة إليه، والذين في معظمهم يعملون في مهنة الصيد مثل الجورة وحمامة ويافا، شكّل الصيد ما نسبته 30% من اقتصاد المخيم، فيما اهتم اللاجئون في المخيم بالتعليم بعد أن طُردوا وهُجّروا من أراضيهم وممتلكاتهم بقوة السلاح.
دور في الانتفاضة.. بداية المقارعة
لعبَ المخيم دورًا كبيرًا في مقاومة الاحتلال في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك خلال انتفاضة الحجارة (1978-1994)، حيث إن أول مبعد في الانتفاضة الحجارة كان من المخيم الدكتور خليل القوقا، وخلال انتفاضة الأقصى عام 2000، ومنه خرجت أول عملية فدائية بحرية التي قادها الشهيد حمدي نصيو.
وكان المخيم البحري شاهدًا على تخريج عدد من القيادات الفلسطينية، لعلّ من أبرزهم الشيخ الشهيد أحمد ياسين مؤسس حركة حماس، الذي بدأ دعوته من المسجد الشمالي في المخيم الذي حمل لاحقًا اسمه، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والشهيد إسماعيل أبو شنب، وعدد من قادة حماس السياسيين والعسكريين، مثل الشهيد صلاح شحادة، والشهيد عدنان الغول، والدكتور أحمد بحر النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي الفلسطيني.
وإلى جانب قيادات حركة حماس، فإن المخيم كان شاهدًا على قيادات بارزة من حركة فتح، مثل عبد الفتاح حميد، وسهيل عبيد، والشهيد رفيق السالمي، ومن الجبهة الشعبية وليد الغول، والشهيد محمد الأسود “جفارة غزة”، وكايد الغول عضو المكتب السياسي للجبهة.
وبالتوازي مع ذلك، كان مؤسِّس ألوية الناصر صلاح الدين من مخيم الشاطئ، وهو الشهيد أبو يوسف القوقا، كما أن أول قائد لسرايا القدس، الذراع العسكرية للجهاد الإسلامي، كان من المخيم، وهو الشهيد محمود الخواجا الذي تنسب إليه دولة الاحتلال التخطيط لواحدة من كبرى العمليات الفدائية في تسعينيات القرن الماضي، وهي عملية “بيت ليد” الفدائية التي قُتل فيها 25 جنديًّا إسرائيليًّا.
المخيم خلال “طوفان الأقصى”.. دور في التحدي
منذ بداية “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لعب المخيم دورًا بارزًا في العملية، من خلال مشاركة عشرات المقاومين في تنفيذ العملية الأولى التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في الأيام الأولى، قبل أن تلعب دورًا بارزًا في بقية العملية.
تلا هذا الأمر محاولة الاحتلال إجلاء أغلب سكان المخيم من خلال عملية التهجير، وهو ما رفضه السكان وتشبّثوا بالبقاء في منازلهم خلال الفترة الماضية، وهو ما دفع الاحتلال إلى استخدام “الأحزمة النارية” لتدمير أجزاء واسعة من المخيم خلال الأسابيع الماضية.
يلعب المخيم دورًا بارزًا في المشهد المقاوم، سواء من الناحية القيادية أو الميدانية عبر مقاوميه في الميدان
وعلى الناحية الدفاعية، أفشلت المقاومة مخططات الاحتلال لاقتحام المخيم عدة مرات، وكانت الاشتباكات فيه ضارية للغاية رغم الدمار الذي حلَّ به وبأبرز معالمه، سواء المنازل القديمة أو غالبية مساجده التي كانت شاهدة على فترات ما بعد النكسة عام 1967.
في المحصلة، يلعب المخيم دورًا بارزًا في المشهد المقاوم، سواء من الناحية القيادية أو الميدانية عبر مقاوميه في الميدان، وهو ما يشكّل استمرارًا لدور المخيمات الفلسطينية في التأثير العام في ملفات القضية الفلسطينية، رغم محاولات الاحتلال لإضعاف المخيمات.