ترجمة وتحرير: نون بوست
لم تتمكن والدتي قط من العودة إلى فلسطين بعد أن قامت الهاغاناه، وهي ميليشيا صهيونية أصبحت فيما بعد جيش الدفاع الإسرائيلي، بطرد عائلتها بالقوة من منزل أجدادهم في مدينة طبرية في نيسان/ أبريل 1948. لقد جاءوا أولًا إلى جدي الأكبر، وهو من أقدم وجهاء طبرية، وأحضروه بالقوة إلى الحدود مع سوريا ليعطوا إشارة إلى من تبقى من العرب الفلسطينيين بضرورة الرحيل أيضًا.
كان بين الأشخاص الذين كانوا يرتدون الزي العسكري وطرقوا بابهم امرأة شابة نجت من المحرقة ووجدت ملجأً لدى جدّي الأكبر في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، كطفلة يهودية يتيمة ولاجئة من بولندا. في لحظة شكسبيرية، التفتَ إليها وسألها: “وأنت أيضًا؟” فأجابت: “آسفة يا حاج خليل، لقد تلقيت أوامر من الهاغاناه”. ورأى كيف أن الشابة التي آواها ورحّب بها في منزله تشارك في طرد عائلته.
بعد أن فقد أرضه وبيته، توفي جدي الأكبر في المنفى. وكان من بين متعلقاته الشخصية مفتاح منزل العائلة في طبرية الذي سُرق منهم. وبقي ابنه (جدي) في البلاد لتقديم المساعدة الطبية خلال حرب سنة 1948 إلى أن أُجبر هو الآخر على مغادرة بلاده. وعندما توفيت جدتي في بيروت سنة 2007، اكتشفنا أن أجدادي ورثوا المفتاح، وتوارثوه من جيل إلى جيل.
في سنة 2010، بينما كنت أتنقّل بين المناصب الأكاديمية، قضيت عدة أشهر في الأراضي الفلسطينية المحتلة كمستشارة “توكتن” (نقل المعرفة من خلال المواطنين المغتربين) التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في فلسطين. كنت أقدّم المشورة للفلسطينيين في مفاوضاتهم مع إسرائيل. وفي خضم القصف الإسرائيلي المستمر وتدمير غزة، أجد الذكريات تعود إلى الظهور، ذكريات تبيّن أنها رحلة شخصيّة للغاية إلى ماضي عائلتي وأرضهم المفقودة منذ زمن طويل.
من أجل العمل، كنت أقود سيارتي يوميًا من القدس الشرقية إلى رام الله في سيارة مستأجرة من وكالة فلسطينية تحمل لوحات ترخيص إسرائيلية صفراء، وهو اللون “المناسب” للمرور بسهولة نسبيًا عبر نقاط التفتيش. أخذتني رحلتي الشخصية عبر ماضي عائلتي إلى أبعد من ذلك – إلى الجولان السوري المحتل، وإلى طبرية، مسقط رأس والدتي. أردت أن أبحث عن ماضيها، لكن كل آثار التراث الفلسطيني للمدينة قد مُحيت منذ طرد سكانها سنة 1948. وقضيت الأيام الأخيرة من رحلتي في غزة الجميلة، النابضة بالحياة رغم الحصار الإسرائيلي الطويل.
كانت الرحلة ممكنة بفضل جواز سفري الأجنبي. التقيت في حيفا بمواطنين فلسطينيين في إسرائيل، كانوا يتجمّعون لحضور اجتماع سنوي من خلال مركز عدالة – المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل. لقد ندّدوا بالتمييز الذي يتعرّضون له بشكل يومي ووضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية في دولة إسرائيل التي يفترض أنها ديمقراطية، بينما أعربوا أيضًا عن دعمهم لإخوانهم الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال.
من حيفا توجّهت بالسيارة إلى الجولان السوري. طُرد الجزء الأكبر من سكانها إلى سوريا في سنة 1967، عندما احتلت إسرائيل المنطقة لأول مرة، التي ضمتها بعد ذلك في سنة 1981، ولا يزال الاحتلال والضم غير قانونيين بموجب القانون الدولي. نما السكان الذين بقوا بعد سنة 1967 ليصبحوا مجتمعًا نابضًا بالحياة يضم 500 ألف سوري. يقف النصب التذكاري لسلطان الأطرش، الزعيم الدرزي القومي السوري الذي قاد ثورة سنة 1925 ضد فرنسا، في وسط بلدة مجدل شمس.
أعرب العديد من الأشخاص في المتاجر التي زرتها عن دهشتهم وسرورهم على طول الطريق من دمشق عندما التقوا ببنت بلدهم. من خلال اتصالات مختلفة في القدس الشرقية، تواصلت مع المنظمات الشبابية والناشطين الذين روّجوا للمقاومة السلمية للاحتلال الإسرائيلي. وشملت أعمال مقاومتهم المماطلة أو رفض جهود الحكومة الإسرائيلية لفرض اللغة العبرية كلغة أساسية في المدارس، والحفاظ على هويتهم وعاداتهم كسوريين.
وعلى عكس المواطنين الدروز في إسرائيل، رفض الدروز السوريون الخدمة في الجيش الإسرائيلي. كما شهدتُ خلافًا بين أفراد عشيرتين مختلفتين اتهمت إحداهما الأخرى بقطع الأشجار في بساتينها. وأوضح لنا رب إحدى العائلات والدموع في عينيه أنه يعتقد أن الإسرائيليين ارتكبوا عمل التدمير لزرع بذور الصراع بين العائلات المختلفة.
رأيت أيضًا أشخاصًا يحدثّون أقاربهم على “الجانب الآخر” عبر السياج عن آخر أخبارهم. وكما رأيت في الأفلام الإسرائيلية، فقد صرخوا بأخبارهم عبر مكبّرات الصوت. ومنذ الثورة السورية سنة 2011 والحرب التي أعقبتها، تم استبدال السياج بحاجز فولاذي يمنع الناس من زيارة سوريا للقاء عائلاتهم وتبادل الأخبار شخصيًا. إن الانقسام هنا له أيضا بعدٌ أيديولوجي حيث انحاز الجولانيون الأكبر سنًا، الذين يشعرون بالحنين إلى الماضي، إلى جانب بشار الأسد، الأمر الذي أثار استياء الشباب الذين دعموا الانتفاضة الشعبية ضد نظامه.
في نظر الكثيرين داخل إسرائيل وخارجها، أصبحت مرتفعات الجولان وجهةً للسياحة “الخضراء”، والمشي لمسافات طويلة وركوب الخيل – وجميع الأنشطة يتم الترويج لها دون الإشارة إلى وضع المنطقة المحتلة. فمياهها ونباتاتها غنيّة ومغرية بالفعل، خاصة أن إسرائيل تمكنت بعد سنة 1967 من قطع وصول سوريا إلى بحيرة طبرية ونهر الأردن. واليوم، يتم الترحيب بإسرائيل باعتبارها رائدة في مجال الطاقة المتجددة حيث تم إنشاء المئات من مزارع الرياح في الجولان – وهي طاقة “خضراء” يتم إنتاجها على الأراضي التي تم احتلالها ونُهبت لمدة 56 سنة.
توجّهت من الجولان إلى طبرية للبحث عن تاريخ عائلتي. الذكرى الوحيدة لوالدتي – وهي لا تزال طفلة خلال نكبة 1948 – هي أن ممتلكات العائلة كانت بجوار “مكتب البريد القديم”. وبطبيعة الحال، لم يكن هناك أي آثار. كانت المنطقة كثيفة البناء ومكتظة بالسكان، وسكانها بالكامل من الإسرائيليين. سمعت من أقارب في الخارج أن منزل العائلة قد استولت عليه البلدية المحليّة بعد الطرد.
طبرية، التي يتم تصويرها تقليديًا في الذاكرة الجماعية الفلسطينية على أنها مدينة جميلة تطل على بحيرة طبرية، أصبحت اليوم وجهة سياحية مبتذلة. باتت مثل هذه التحولات واقع العديد من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية التاريخية، التي إما اختفت بالكامل أو أعيدت صياغتها ضمن المشروع الصهيوني الكبير. وقد تم دفع الفلسطينيين الوحيدين الذين ظلوا هناك إلى ضواحي المدينة حيث يعيشون في أحياء فقيرة للطبقة العاملة. وأخيرًا، عثرت على الموقع المفترض لمكتب البريد القديم، فحفرت يدي في الأرض وأحضرت معي بعض التراب إلى والدتي، التي تدعى أمل، التي فرشت بعضًا منها على قبري والديها في بيروت. لقد أرادت أن تمنحهما، بعد وفاتهما، نصيبًا من ذكرياتهما والماضي الذي فقداه.
كان جدي الأكبر يدعم بنشاط المنظمات الفلسطينية التي عارضت الحركة الصهيونية من أجل إقامة وطن لليهود في فلسطين، وهو ما جاء على حساب السكان الفلسطينيين الأصليين. كما آمن بالتعايش التاريخي بين المسلمين والمسيحيين واليهود الفلسطينيين في فلسطين. كان جدي الأكبر يتحدث العبرية وساعد اللاجئين اليهود الثكالى الذين فروا من أوروبا إلى فلسطين في الأربعينيات وسط المحرقة. عاشت عائلته في طبرية لمئات من السنين. عندما تأسست إسرائيل في سنة 1948، فقدوا كل شيء: منزلهم، وجميع ممتلكاتهم، والمساحات الشاسعة من الأراضي التي رفض جدي الأكبر مرارًا وتكرارًا بيعها للصندوق القومي اليهودي، الذي قاد شراء الأراضي للمستوطنات الصهيونية. وفي غضون أيام قليلة، أصبحت طبرية، التي كانت ذات يوم مدينة مختلطة يعيش فيها العرب الفلسطينيون واليهود معًا، مدينة يهودية بالكامل.
أصابتني القدس بالصدمة لجمالها المادي وإحساسها المبهج بالتاريخ مقابل علامات الهيمنة والمستوطنات اليهودية والتعديات على الجانب الشرقي من المدينة.
خلال أيام الانتداب البريطاني، قامت الهاغاناه والإرغون، وهما الجناحان العسكريان للحركة الصهيونية، بزرع الرعب بين الفلسطينيين، مما أدى إلى طرد 700 ألف فلسطيني خلال نكبة سنة 1948. قبل الحرب، أرسل جدي الأكبر ابنه -أي جدي – لدراسة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت مركزًا للخريجين الفلسطينيين لسنوات عديدة. قرّر جدي، الذي كان طبيبًا ممارسًا بحلول سنة 1948، البقاء في مدينة طولكرم في الضفة الغربية – حيث عاش مع جدتي وأطفالهما – لرعاية الجرحى أثناء الحرب وبعدها. ثم أرسل عائلته إلى بيروت، مسقط رأس جدتي اللبنانية.
لقد سمعت قصصًا عن رفض الدكتور أديب أخذ أجره من عائلات الفلاحين الفقيرة، وامتنانًا منهم أحضروا دجاجًا حيًا وحيوانات أخرى إلى منزله، مما أثار استياء جدتي. عندما طرقت أبواب طولكرم لأجد قطعًا من طفولة والدتي، تذكرت سيدة عجوز الطبيب الذي كان يعطيها حقنة عندما كانت طفلة وأرشدتني إلى المنزل. لقد أصبح الآن مبنى مهجورًا، وسرعان ما سيتم هدمه واستبداله بمركز تسوق.
في سنة 1950، أُجبر جدي على مغادرة فلسطين والتحق بأسرته في بيروت حيث توفي سنة 1963. وفي بيروت سنة 1952، أسست جدتي وديعة قدورة خرطبيل، إحدى قادة النشاط النسائي الفلسطيني، اتحاد المرأة العربية الفلسطينية وهو أول اتحاد عام للمرأة الفلسطينية في المهجر. كانت أيضًا عضوًا في المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول الذي انعقد في القدس أواخر أيار/ مايو 1964، والذي أصبح فيما بعد المجلس الوطني الفلسطيني الذي تأسست فيه منظمة التحرير الفلسطينية. تقدم مذكراتها، التي نُشرت سنة 1995، وصفًا غنيًا وتاريخًا للحركة النسوية والمقاومة الفلسطينية على مدار نصف قرن، وحياة مناصرة لدعم القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة.
لقد أصابتني القدس بالصدمة لجمالها المادي وإحساسها المبهج بالتاريخ مقابل علامات الهيمنة والمستوطنات اليهودية والتعديات على الجانب الشرقي من المدينة. علمت في القدس الشرقية أن أسلافي من جهة والدي، الذين سافروا من القدس إلى دمشق قبل حوالي 500 سنة، حصلوا على الوصاية على قبر داود على جبل صهيون في القدس من قبل صلاح الدين الأيوبي مكافأة لهم لشجاعتهم في قتال الصليبيين. لتجسيد هذا الشرف، تم تغيير اسم العائلة من بيت الدجاني إلى بيت داود.
إن فكرة تكريم المسلمين بحماية آخر رفات نبي يحظى باحترام مماثل من قبل المسلمين والمسيحيين واليهود تبدو مناسبة تمامًا لهذا المكان المميز للغاية. مع ذلك، كانت التوترات واضحة في كل زاوية وفي كل يوم. ولم أطق الانتظار حتى أغادر المدينة بوجودها العسكري القمعي ومستوطنيها.
كان أحد اجتماعاتي التي لا تنسى مع خليل التفكجي، مدير قسم رسم الخرائط (المعروف رسميًا بقسم رسم الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية) في جمعية الدراسات العربية، وهي منظمة فلسطينية غير حكوميّة يقع مقرّها في بيت الشرق، التي تعد مؤسسة فلسطينية بارزة في القدس الشرقية دأبت السلطات الإسرائيلية على غلقها. احتفظ التفكجي بسجلات وخرائط دقيقة للوجود الفلسطيني في القدس – للمجتمع الذي يواجه عمليات الإخلاء والمضايقات من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين الذين يحتلون الجزء الشرقي من المدينة – وعلى نطاق أوسع حول نمو المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
حثّني على جمع أي “أوراق طابو” وإرسالها إليه، وهي سندات تسجيل الأراضي التي تعود إلى العصر العثماني والتي أنشأت حقوق ملكية الأراضي للفلسطينيين قبل سنة 1948، والتي لا تزال مملوكة لعائلتي والعديد من اللاجئين الفلسطينيين. وفي سنة 2017، أغلقت قوات الاحتلال الدائرة، واقتحمت منزل التفكجي واعتقلته، وصادرت خرائطه ومجموعات أخرى. واتهموه رسميًا بـ”انتهاك السيادة” لجمعه معلومات في القدس لصالح السلطة الفلسطينية. أطلق سراحه، ولكنه اعتُقل مرة أخرى في سنة 2020.
أعطتني لقاءات أخرى في القدس مع نشطاء وصحفيين إسرائيليين الأمل في إمكانية التعايش بين الشعبين، تمامًا كما تمهد المعارضة النشطة ضد الحرب في غزة التي أعربت عنها اليوم الجماعات اليهودية والإسرائيلية، مثل “الصوت اليهودي من أجل السلام” و”إيف نوت ناو”، بشعارها “ليس باسمنا” الطريق للسلام الحقيقي والمساواة.
أخبرني ميشيل فارشوفسكي، الزعيم السابق للمجموعة الماركسية المناهضة للصهيونية “ماتزبين” (كومباس) ومؤسس مركز المعلومات البديلة، وهي منظمة غير حكومية فلسطينية إسرائيلية مشتركة، أنه كان يقود بانتظام الزوّار من الخارج إلى مستوطنات الضفة الغربية حتى يتمكّنوا من رؤية واقع الاحتلال. أخبرتني الصحفية في صحيفة “هاآرتس” أميرة هاس، المدنية الإسرائيلية الوحيدة التي تعيش بين الفلسطينيين في الضفة الغربية – وابنة الناجين من المحرقة – أن بعض زملائها الإسرائيليين رفضوها بسبب تقاريرها عن الدمار الذي سببه الاحتلال.
تبدو رام الله وكأنها عمان الجديدة، حيث تصطف على جانبيها المقاهي ذات الطراز الغربي. لقد جسدت هيمنة إسرائيل في مرحلة ما بعد أوسلو متنكرة في ثوب السلام. من خلال تفاعلاتي مع العديد من المفاوضين في مجال المياه، أدركت مدى قبول الهيمنة ومأسستها من خلال ما يسمى بعملية السلام. ألزمت اتفاقية أوسلو الثانية، الموقعة في سنة 1995، الفلسطينيين بتقديم مخططات مشاريع المياه المقترحة إلى السلطات الإسرائيلية، التي اشترطت منح التصاريح بربط مستوطناتهم غير القانونية بالبنية التحتية الفلسطينية. كما طلبت السلطات الإسرائيلية قائمة بأسماء المفاوضين الفلسطينيين، لكنها رفضت الكشف عن أسماء مفاوضيها، حتى لا يعرف الفلسطينيون الجهات العميلة.
كانت “أموال السلام” المقدمة من الاتحاد الأوروبي والجهات المانحة الأخرى تعني أن قلة مختارة من الفلسطينيين sيعيشون في منازل باهظة الثمن ويقودون سيارات فاخرة. ولكن على بعد أميال فقط من العاصمة الفعلية لفلسطين، كان الواقع مختلفًا تمامًا. قدمت قرية بلعين تناقضًا حادًا، حيث كان الصغار والكبار، المحليون والدوليون، والحضريون والريفيون يتظاهرون بانتظام ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويواجهون جنودًا إسرائيليين مدججين بالسلاح.
كانت غزة مدينة مهيبة حملت آثار تاريخها الطويل من الثقافات والإمبراطوريات، من قدماء المصريين إلى الآشوريين والفلسطينيين والرومان والبيزنطيين والعرب.
لقد حضرت إحدى تلك المظاهرات، حيث شعرت بألم استنشاق الغاز المسيل للدموع والخوف من مواجهة الجنود الذين جاءوا لفض الاحتجاجات السلمية. ومن مسافة آمنة، أطلق القوات الإسرائيلية الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي على المتظاهرين العزل، مما أدى إلى إصابة شاب بجروح خطيرة في جبهته. لا أعرف ما إذا كان قد نجا. ظلت أمامي سيدة فلاحة عجوز، ترتدي ثوبها الفلسطيني التقليدي، تتقدم نحوهم بشجاعة، وهي تضع منديلا على أنفها وفمها.
على بعد مبنى واحد من مدينة رام الله المرموقة، استمرت المستوطنات الإسرائيلية في النمو بوتيرة سريعة. مرّ المستوطنون عبر المدن والبلدات الفلسطينية وهم يلوحون ببنادق هجومية على أكتافهم. “هذا ما نحن هنا من أجله”، هذا ما قاله لي الجندي الإسرائيلي الذي كان يحرس إحدى المستوطنات اليهودية ذات يوم، عندما اقترب من سيارتي بينما كنت ضائعة في طريق عودتي إلى القدس الشرقية. ومن الطبيعي أن يفترض أن المرأة التي تقود سيارتها بمفردها عند الغسق هي مستوطنة يهودية تحتاج إلى حمايته، خاصة أنني كنت أقود سيارة تحمل لوحة ترخيص صفراء واضحة.
تمر رحلاتي اليومية عبر المناظر الطبيعية الخلابة بين القدس الشرقية ورام الله وعبر ما يسمى بنقاط تفتيش “الشخصيات المهمة” حيث مُنح المنتسبون إلى المنظمات الدولية، وكذلك المسؤولين في السلطة الفلسطينية، “امتياز” العبور بسرعة بينما كانت حشود الفلسطينيين والعمال والزوار عند نقاط التفتيش الأخرى ينتظرون السماح لهم بالدخول لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة. أعطت مكانة كبار الشخصيات السيئة هذه السلطة الفلسطينية مظهرا من الأهمية في موقف خالٍ من الفاعلية (وفي نظر الفلسطينيين بدا الكثيرون وكأنهم خونة).
عند زيارتي لقرية بتير الفلسطينية الجميلة، وهي أحد مواقع التراث العالمي البيزنطية والعثمانية التابعة لليونسكو والتي تتميز بأنظمة الري القديمة والمدرجات، رأيت كيف تُصبّ مياه الصرف الصحي الخام القادمة من منازل المستوطنين في التلال العليا مباشرة إلى القرية، مما أدى إلى تلويث المصدر الرئيسي للمياه. وفي الخليل، اشتكى السكان المحليون أيضًا من القمامة التي يلقيها عليهم المستوطنون اليهود المصممون على طردهم من المدينة.
أخيراً ذهبت إلى غزة. يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدة “الصمت من أجل غزة”:
لأن الزمن في غـزة شيء آخر.. لأن الزمن في غـزة ليس عنصرا محايدا
إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل. ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة.
الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالا في أول لقاء مع العدو..
لقد كان الزمن مختلفا بالفعل في غزة. كان المشي وحيدة عبر المعبر الطويل الفارغ يشبه المشي بحركة بطيئة على الموسيقى التصويرية الرائعة لفيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان “التدخل الإلهي”، وهو تصوير هزلي وسريالي وساخر للاحتلال الإسرائيلي.
كان أسطول السلام التركي قد حاول للتو كسر الحصار الإسرائيلي على غزة عن طريق جلب المواد الغذائية والإمدادات عن طريق البحر. في ذلك اليوم، أطلقت إسرائيل النار على تسعة من نشطاء السلام العزل الذين كانوا على متن السفينة وقتلتهم. أخذني أصدقاء وزملائي من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في جولة حول مدينة غزة – بنيتها التحتية، وأشجارها المزهرة الجميلة وطرقاتها الواسعة، بين الأنقاض التي كانت تحمل علامات الغارات الجوية الإسرائيلية في سنة 2006 ثم في الفترة 2008-2009.
كانت غزة مدينة مهيبة حملت آثار تاريخها الطويل من الثقافات والإمبراطوريات، من قدماء المصريين إلى الآشوريين والفلسطينيين والرومان والبيزنطيين والعرب. يعد الفلسطينيون في غزة من بين الأشخاص الأكثر دفئًا ولطفًا الذين التقيت بهم خلال رحلتي. هم يملكون شكلاً خاصًا من الارتباط بقطعة الأرض الصغيرة المتبقية لهم. في نهاية يوم شاق، لعب الأطفال بسعادة في البحر، وهو الملعب الرئيسي المتاح لهم. وبينما كانوا يسبحون، شاهدت خطًا من مياه الصرف الصحي الخام يتدفق مباشرة إلى المياه الواقعة على بعد أمتار قليلة منهم. إن الحصار البري والبحري والجوي الإسرائيلي المفروض على غزة منذ حزيران/ يونيو 2007 جعل من المستحيل إجراء أي تحسينات ضرورية للبنية التحتية لشبكة المياه والصرف الصحي.
مارست إسرائيل كل الأساليب الاستعمارية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة التي تشبه تلك التي استخدمتها القوى الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر، والتي أفقرت دولًا كانت مزدهرة ذات يوم
اليوم، اختفت هذه المدينة التي كانت مليئة بالجمال والبهجة والحياة رغم البؤس المحيط بها، تقريبا. لا يسعني إلا أن أتساءل عن مصير مخيم اللاجئين على أطراف المدينة، الذي يغيب اسمه عن ذهني وأنا أكتب، مكان صاخب لكنه مهجور والمياه تجري في الشوارع. هل كان مخيم جباليا هو الذي دمرته إسرائيل بالكامل مؤخراً وقتلت مئات المدنيين؟ استغرق الوصول إلى هذا المستوى من الدمار في سوريا أربع سنوات.
في وقت كتابة هذا التقرير، قُتل أكثر من 15 ألف شخص منهم ما يقارب 6 آلاف طفل، وربما أكثر من ذلك بكثير في عداد المفقودين، بسبب القنابل الإسرائيلية التي مولها دافعو الضرائب الأمريكيون (بما فيهم أنا)، في حين نزح 1.7 مليون شخص دون إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة أو المنازل أو الخدمات الصحية. وبالإضافة إلى قطع المياه والغذاء، سيترك استخدام إسرائيل للفسفور الأبيض – وهو جريمة حرب وفقاً للقانون الدولي – ركاماً ساماً لأجيال قادمة.
من جانب آخر، يعاني أصدقائي، الذين كانوا محظوظين لأنهم فروا إلى الجنوب وما زالوا على قيد الحياة، من العطش الشديد والجوع. كما أنهم يواجهون خطر الإصابة بالأمراض. ويرسلون صوراً لمحاولاتهم خبز قطعة صغيرة من الخبز على الفحم لعائلة مكونة من 16 فردا.
لقد أعلن المفكّر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد للعالم حق السكان الأصليين في الرد. واليوم، يتحد السكان الأصليون وغير الأصليين للتحدث ضد الإفلات من العقاب والمطالبة بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، وإنهاء سياسة الفصل العنصري التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي الطويل وقتل وتشريد الشعب الفلسطيني. تقول الكاتبة الفلسطينية يارا الغضبان إن “الإبادة الجماعية البطيئة” بدأت منذ سنوات.
مارست إسرائيل كل الأساليب الاستعمارية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة التي تشبه تلك التي استخدمتها القوى الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر، والتي أفقرت دولًا كانت مزدهرة ذات يوم مثل الصين والهند وإثيوبيا، وأنشأت ما بات يسمى بالعالم الثالث.
إن الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال في غزة والضفة الغربية يُجرّدون من إنسانيتهم بالطريقة ذاتها. ويمكن قتل أطفالهم وتشويههم وتجويعهم على هوى المحتلين، ويمكن طرد سكانهم حسب الرغبة، مرارا وتكرارا، وإسكات الجاليات المغتربة وأنصارهم. بعد أن أثيرت عبارة “حالما نعود إلى فلسطين” ومن ثم رؤية مدى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري، تتمثل الكارثة الحالية بالنسبة لي وللآخرين – سواء داخل فلسطين أو لدى الجالية المغتربة – علامة فارقة جديدة في تاريخ النكبة الطويل سنتذكره كواحد من أكثر الفصول مأساويةً.
المصدر: نيو لاينز