ترجمة وتحرير: نون بوست
قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، بصوت منخفض بينما كان يجلس بجوار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في قاعة المؤتمرات بفندق في تل أبيب يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر، إن “الأمر يبدو كما لو أنه قد تم من قبل الفريق الآخر، وليس من قبلك”. وقبل 24 ساعة، وقع انفجار ضخم في المستشفى الأهلي في مدينة غزة أسفر عن مقتل وجرح المئات – بما في ذلك النازحين من غزة الذين كانوا يبحثون عن ملجأ من الهجمات الإسرائيلية الحالية.
في أعقاب ذلك مباشرة، كان بايدن على استعداد للإشارة إلى دعمه لإسرائيل من خلال إلقاء اللوم بشكل حاسم على حماس. وحتى الآن، بعد مرور أسابيع، لا يزال انعدام إمكانية وصول المحققين المستقلين إلى غزة يجعل من المستحيل تحديد ما إذا كان صاروخ فلسطيني فاشل أو غارة جوية إسرائيلية هي التي تسببت في الانفجار.
بعد يوم واحد من خطاب بايدن المتسلط، ردد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ما قاله في تصريحات بدت أكثر ملاءمة للتعليق الرياضي المباشر من الاعتراف بالعنف السياسي واسع النطاق، حيث أخبر نتنياهو أن إسرائيل لديها الحق في “ملاحقة حماس” وأنه “يريدهم أيضًا أن يفوزوا”.
في هذه الأثناء، ناقش براين كيلميد، المذيع المشارك في برنامج “فوكس آند فريندز”، الحرب بحماس كما لو كان يشاهد فيلم كرة قدم مثير مستخدما عبارات حول “اللاعبين الأقوياء الذين يحاربون إسرائيل” وشرع في تسمية دول الشرق الأوسط مثل الرياضيين الذين كانوا على وشك دخول ملعب مزدحم.
تكشف اللغة التي يستخدمها أولئك الذين يمارسون السلطة في إسرائيل والغرب عن موضوع شامل، فصل العنف الإسرائيلي عن عواقبه المميتة، حيث يوصف المدنيون الفلسطينيون في كثير من الأحيان بأنهم “يموتون” من الغارات الجوية بدلا من “قتلوا”. ويسبق هذا التطبيع للعنف هجوم حماس الأولي في السابع تشرين الأول/ أكتوبر، ويستمر من خلال ثلاثة أنماط لغوية متداخلة ظهرت خلال آخر 75 سنة من قيام الدولة والاحتلال الإسرائيلي: اللغة الشبيهة باللعبة، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتجريد فلسطين من التاريخ كدولة.
لتتبع أصول اللعبة اللغوية التي تم تفعيلها حول معاملة إسرائيل لغزة، يتعين علينا أن نفحص النهج الذي تتبعه الدولة الإسرائيلية في التعامل مع الحرب، الذي تم تنميته على مدار عقود من الزمن.
في كل سنة، يُطلب من حوالي 150 ألف فرد من وحدات المشاة في جيش الدفاع الإسرائيلي أن يتدربوا بشكل روتيني على أجهزة محاكاة عالية التقنية ويشاركوا في ألعاب حربية تعيد، بدقة كبيرة، إنشاء مواقع غالبًا ما تكون تمثيلًا واقعيًا للقرى في جنوب لبنان. وقد وصف مراسل من موقع “واي نت” (النسخة الإلكترونية لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، وهي أكبر صحيفة إسرائيلية من حيث المبيعات والتوزيع)، الذي رافق قوات الجيش الإسرائيلي في تدريب لمحاكاة “منطقة حزب الله” في صحراء النقب، كيف تم تعليم الجنود كيفية دخول النماذج بالحجم الطبيعي من المنازل اللبنانية، وطبخ وجبات الطعام بأنفسهم بالإمدادات الغذائية على أراضي العدو واستخدام أنواع الأسلحة التي يستخدمها حزب الله. وقد نشر الجيش الإسرائيلي نفسه تدوينة في شهر أيار/ مايو بعنوان “الممارسة تصنع الكمال” حول أهمية هذه المحاكاة في تحسين “مستوى أداء ودقة” جنوده.
مارس جيش الدفاع الإسرائيلي حرب المدن في مستوطنة اصطناعية مصممة لتبدو تمامًا مثل مدينة غزة. وتتكوّن “غزة المصغرة”، كما يسميها الجيش الإسرائيلي، من 500 مبنى مكتمل وزقاق مليء بالجداريات والكتابات على الجدران والملصقات التي تحمل شعارات فلسطينية من أجل الحرية. ويتدرب المجندون في الجيش الإسرائيلي هناك أيضًا في جهاز محاكاة يعيد إنشاء الأحياء السكنية في غزة، التي تزدحم بالناس الذين يقضون يومهم، أو يذهبون إلى العمل أو المسجد أو المدرسة. وقبل ثلاث سنوات، تحدثت شركة المحاكاة الإسرائيلية “باجيرا سيستمز” عن الاهتمام بالتفاصيل في بناء جهاز محاكاة غزة، وعناية خاصة لمحاكاة “الفضاء الحضري المزدحم والمدخن”.
في الفترة التي سبقت هجماتها في السابع تشرين الأول/ أكتوبر في إسرائيل، قامت حماس بالمثل ببناء مدينة إسرائيلية وهمية في غزة، وتدربت بشكل متكرر داخلها على مرأى من المخابرات الإسرائيلية. لا تقتصر مناطق الحرب المحاكية على الحرب الإسرائيلية الفلسطينية، إذ تدرب الجيش الأمريكي في منشآت في أمريكا وأوروبا مصممة لتبدو وكأنها قرى في أفغانستان والعراق، مكتملة بالمساجد ورجال يرتدون ملابس “محلية”.
هناك جهاز محاكاة آخر شائع الاستخدام من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي يقدم للجنود موقفًا يقوم فيه فلسطيني عند نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية بسحب سكين ويبدأ في طعن أحد قادتهم. ويقوم الاختبار على معرفة مدى سرعة رد فعل المتدرب في الجيش الإسرائيلي عند إطلاق النار على المهاجم الفلسطيني. وقد تزايد انتظام هذه المحاكاة بعد أن قام عبد الفتاح يسري الشريف، وهو رجل فلسطيني، بطعن ضابط في الجيش الإسرائيلي في كتفه في مدينة الخليل الفلسطينية في سنة 2016. وبعد عشر دقائق من نزع سلاح الشريف وإصابته وإجباره على الاستلقاء على الأرض، أطلق جندي آخر النار عليه في مؤخرة رأسه.
مع أن الجيش الإسرائيلي قال إن الجنود لا يجوز لهم اللجوء إلى الذخيرة الحية إلا “لإبطال تهديد فعلي وفوري للحياة، كخيار أخير في إجراءات إيقاف المشتبه به”، فإن الواقع أن الجنود الإسرائيليين – كما أفادت تقارير دولية بما في ذلك منظمة العفو الدولية و”هيومن رايتس ووتش” – أطلقوا النار على فلسطينيين وقتلوهم دون أن يشكلوا أي تهديد لحياتهم. وبغض النظر عما يمليه بروتوكول الجيش الإسرائيلي، من المعروف أن القادة يقولون للمجندين إنهم “يستطيعون إطلاق النار على الأطفال إذا تجاوزوا سن 14 سنة”.
على نحو مماثل، كانت شيرين أبو عاقلة، الصحفية الفلسطينية الأمريكية التي قُتلت برصاص الجيش الإسرائيلي سنة 2022 أثناء تغطيتها لغارة إسرائيلية على مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية، ترتدي سترة صحفية عليها علامات واضحة ولم تكن مسلحة. وقد زعمت إسرائيل في البداية أنه كان هناك تبادل لإطلاق النار مع المسلحين الفلسطينيين وأن شيرين، التي كانت تعمل في قناة الجزيرة، أصيبت عن طريق الخطأ. لكن الأدلة التي كشفت عنها منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم”، وكذلك منظمات غير حكومية مستقلة أخرى، تظهر أنه لم يكن هناك إطلاق نار قبل أن تطلق القوات الإسرائيلية النار على الصحفيين الفلسطينيين الذين كانوا يغطون الغارة وتقتل أبو عاقلة في هذه العملية.
حتى الآن، لم يتم تقديم الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في الغارة إلى العدالة. وتتعمد تدريبات المحاكاة إعطاء الجنود الإسرائيليين إحساسًا متزايدًا بالعدوان الفلسطيني، في حين أن الفلسطينيين الذين يقابلونهم يوميًا عند نقاط التفتيش من المدنيين الذين لا يحملون أسلحة وعُزّل. إن الخطوط الفاصلة بين الواقع وهذه المحاكاة الواقعية المفرطة تصبح غير واضحة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن التوغلات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية الفعلية كانت تحدث كل يوم تقريبا حتى السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر. وقد تم تنفيذ الكثير من هذه الغارات في مخيمات اللاجئين المكتظة، التي تتوفر لديها بالفعل الكهرباء والماء. وتقطع إسرائيل إمدادات المياه بشكل روتيني.
وصف سكان هذه المخيمات، الذين يعيشون تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية اليومية، وطنهم بسخرية بأنه “ساحة لعب” بالنسبة لإسرائيل. وجد الأكاديميون في جامعة بيركلي، كاليفورنيا، في سنة 2017 أنه في بعض المخيمات، مثل عايدة في الضفة الغربية، تعرض 100 بالمئة من السكان للغاز المسيل للدموع – “أكثر من أي سكان آخرين شملهم الاستطلاع على مستوى العالم”. لكن تم تجاهل السبق المحتمل لاستخدام إسرائيل الأخير للفسفور الأبيض في غزة.
من المفيد أن ننظر إلى ما هو أبعد من إسرائيل لنرى كيف يمكن أن يؤدي تشجيع السلوك الشبيه باللعبة تجاه العنف إلى عواقب مدمرة تتكشف أحيانًا على مدى عقود وفي بيئات جغرافية مختلفة تمامًا. ومن المهم بنفس القدر ملاحظة كيفية ممارسة هذا العنف لفظيًا وجسديًا – وغالبًا ما يكون ذلك جنبًا إلى جنب.
يعد التاريخ الدائم لميم “إزالة الكباب” أحد الأمثلة على ذلك. اشتُقّ هذا الميم في الأصل من أغنية دعائية صربية تحتفل بإبادة مسلمي وأتراك البوسنة خلال حروب يوغوسلافيا، حيث كان الكباب جزءًا من مطبخهم، وكان أحد مستخدمي الإنترنت الأتراك أول من استخدم عبارة “إزالة الكباب”. لكن سخريته ضاعت عندما اكتسبت الميم شعبية بعد عقود في صفوف لاعبي اليمين المتطرف في ألعاب الحرب الافتراضية الذين دافعوا عن استئصال المسلمين من المجتمعات الغربية.
في سنة 2019، اعترف المسلح الذي يقف وراء الهجمات الإرهابية على مسجدين في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا، بأنه تم تعريفه سياسيًا على أنه “مزيل كباب”، وأنه وجد مصدر إلهام لرهابه من الإسلام في منتديات المناقشة اليمينية في “فورتشان” و”8 تشان”. نحن نرى كيف يمكن إحياء اللغة العنيفة والمجردة من الإنسانية خارج سياقها الأصلي وتظهر في شكل جديد لاذع بنفس القدر.
كما قال الفيلسوف وعالم المنطق النمساوي، لودفيج فيتجنشتاين، “إن الاستخدام ليس له حدود حادة”. حتى لو كان من الصعب إثبات أن التعرض للغة عنيفة يولد العنف، فإن المشاركة عن طيب خاطر في استخدامها تجعل المرء متواطئًا في الترويج للعنف.
إذن، متى يُترجم الكلام إلى عنف، وكيف يحدث ذلك؟ تعتمد لين تيريل، الفيلسوفة التي درست على نطاق واسع خطاب الكراهية المناهض للتوتسي والذي ازدهر في وقت الإبادة الجماعية في رواندا، على مفهوم فيتجنشتاين “لعبة اللغة” للقول إن السلوكيات اللغوية يمكن أن تكون قوية في خلق ارتباطات مهينة. ومن ثم تجعل هذه الارتباطات مقبولة اجتماعيًا للمجتمعات لتجريد مجموعة كاملة من الأشخاص من إنسانيتهم من خلال أفعالهم.
إن الواقع الاجتماعي الذي تم إنشاؤه من خلال لعبة اللغة هو واقع منحرف ومقلوب. وتؤكد تيريل أن الألعاب يُنظر إليها على أنها سخيفة، في حين أنها يمكن أن تكون أكثر جدية بكثير مما تبدو عليه، و”تدربنا على طرق الوجود، وأنماط القوة، وأنماط الفعالية”. وفي اللعبة اللغوية التي يلعبها مرتكبو أعمال العنف الجماعي الأقوياء، لا يُعتبر الضحايا بشرًا، ولا تؤخذ آلامهم بعين الاعتبار.
أشار الناقد الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد إلى أن “الحقائق لا تتحدث جميعها عن نفسها، ولكنها تتطلب سردًا مقبولًا اجتماعيًا لاستيعابها والحفاظ عليها وتعميمها”. إن “الحقائق” التي كان سعيد يكتب عنها هي النتائج التي توصلت إليها لجنة دولية مكونة من ستة قانونيين من كندا وفرنسا وإيرلندا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة. حققت اللجنة في الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ووجدت أن إسرائيل مذنبة بارتكاب أعمال تنتهك القانون الدولي. وشملت هذه الانتهاكات استخدام الأسلحة والأساليب المحرمة والقصف المتعمد والعشوائي للأهداف المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، والقصف الممنهج للقرى والبلدات ومخيمات اللاجئين، والترحيل والتشتيت القسري للسكان المدنيين.
أكّد أربعة من أعضاء اللجنة أيضًا أن إسرائيل مذنبة بمحاولة “الإبادة العرقية” و”الإبادة الجماعية” للشعب الفلسطيني – وهو تناقض حاد مع روح جيش الدفاع الإسرائيلي المفترضة المتمثلة في “طهارة السلاح”، التي توصي باستخدام القوة فقط لقضية عادلة وفي الدفاع عن النفس. وسرعان ما تم نسيان الحقائق التي توصلت إليها هذه اللجنة، ونادرا ما يتم الإبلاغ عنها، وعادة ما يتم إنكارها في الصحافة. كما أنه لم يتم التعليق عليها مطلقًا من قبل الداعمين الأقوياء لإسرائيل مثل الولايات المتحدة.
وثّق سعيد كيف أن الرواية الإسرائيلية، من خلال التكرار والتراكم، تقلل وتمحو الوجود الفلسطيني، إلى جانب حقوق الفلسطينيين في الحياة والأرض والأمة والتاريخ. وبعد مرور 41 سنة، وبينما تقوم إسرائيل بإسقاط قنابل الفسفور الأبيض على المناطق المدنية المكتظة بالسكان في غزة وتعترف علنا بشن غارات جوية على سيارات الإسعاف، لا يزال يقال لنا إن هذه أعمال دفاع عن النفس يقوم بها “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” – وكأن هذا ادعاء لم يُسمع به من قبل. ويتم تفعيل جزء جوهري من اللعبة اللغوية عندما يتم الإشارة ضمنًا، مرارًا وتكرارًا، إلى أن حياة الفلسطينيين إلى أنها دون البشر.
في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، أشار نتنياهو إلى العهد القديم عندما وصف حماس بأنها “عماليق”، وهي أمة بدوية كانت عدوة لإسرائيل القديمة. حث قائلًا “هاجم العماليق… اقتلوا الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير”. ومع أن طاقم نتنياهو زعم في وقت لاحق أنه كان يتحدث فقط عن حماس وليس عن الفلسطينيين، فإن دعوته إلى ذبح العدو كما لو كانوا وحوشًا تحمل عبئًا يؤدي إلى شيئين. أولاً، إنه يتبع نمطًا تاريخيًا لإسرائيليين بارزين، مثل رئيس الوزراء الراحل مناحيم بيغن والسفير لدى الأمم المتحدة دان غيلرمان، الذين يستخدمون الاستعارات الحيوانية لإهانة الفلسطينيين. وهذا يعزز فكرة وجود عالم ينبغي فيه معاملة الفلسطينيين مثل الحيوانات. ثانيًا، تدعو لهجة خطاب نتنياهو الجمهور الأوسع إلى الانضمام إلى انتشار لغة مشتركة، لغة تولد التساهل حول الضرر الذي يلحق بالفلسطينيين.
من المؤكد أن هذا ليس تكتيكًا جديدًا. ففي الفترة التي سبقت نيسان/ أبريل 1994، كانت محطات البث الإذاعي التي تمولها الدولة في رواندا تنقل بلا هوادة الرسالة إلى المستمعين الذين يهيمن عليهم الهوتو، مفادها أن التوتسي -أحد ثلاث شعوب تعيش في منطقة البحيرات العظمى الأفريقية – كانوا “إينينزي” أو صراصير. يمكن القول إن الارتباط العقلي بين شعب التوتسي والصراصير أصبح واضحًا عندما ارتكب الهوتو لاحقًا إبادة جماعية باستخدام المناجل أو الهراوات بدلاً من الأسلحة النارية.
كان اختيار الأسلحة مهمًا لأنه حوّل فعل القتل إلى فعل عاطفي بشكل مرعب، ويذكرنا بالطريقة التي يمكن بها قتل الحشرات المنزلية الصغيرة بأشياء غير حادة. وفي كمبوديا، وصف الخمير الحمر مواطنيهم بأنهم “ديدان” و”طفيليات”. ولعل المثال الأكثر شهرة هو الدعاية النازية التي اجتاحت أوروبا في الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية، التي صورت الشعب اليهودي على أنه فئران وقمل موبوءة بالأمراض، حتى أن النازيين أشاروا إلى اليهود باسم “أونترمينشن”، أي أقل من البشر.
في نفس الوقت تقريبًا الذي ألقى فيه نتنياهو خطاب “عماليق” وبعد أسبوعين من وصف وزير الدفاع يوآف غالانت سكان غزة بأنهم “حيوانات بشرية”، كثف الإسرائيليون العاديون أشكالاً مختلفة من المعاملة العدائية تجاه الفلسطينيين. ظهر اتجاه جديد على تطبيق تيك توك حيث يرتدي الإسرائيليون زي الفلسطينيين، وأحيانًا يرتدون ملابس بنية اللون، للسخرية منهم بسبب تعرضهم للقصف وقطع الكهرباء والمياه والغاز عنهم تمامًا. يكشف لعب الأدوار هذا عن إنكار متعمد للواقع، مع التلميح الكامن وراءه إلى أن معاناة سكان غزة خيالية ومجرد مادة للكوميديا.
في جميع مقاطع الفيديو هذه، يبتسم منشئو المحتوى ويضحكون ويرقصون على الموسيقى. وعند مشاهدة الأطفال الإسرائيليين الصغار الذين يتم تصويرهم كجزء من الاحتفالات القاسية، من الصعب تصديق أنهم يعيشون على بعد 40 ميلاً فقط من قطاع غزة حيث قُتل عدد من الأطفال في الأسبوع الأول من القصف الإسرائيلي أكبر من عدد الأطفال الأوكرانيين في الأشهر الثمانية عشر الماضية التي تلت بدء الغزو الروسي.
تصاعد عنف المستوطنين والعسكريين في الضفة الغربية المحتلة وسط انتشار لغة الإبادة الجماعية. في 28 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد أن قُتل مزارع فلسطيني يُدعى بلال صالح برصاص أربعة مستوطنين أثناء قطفه الزيتون في أرضه، أشاد نائب رئيس بلدية القدس أرييه كينغ – وهو نفسه مستوطن – بالجناة لأنهم فعلوا “الشيء الصحيح تمامًا”. وأضاف كينغ، مرددًا لغة العنف اللاإنسانية التي تبناها العديد من السياسيين الإسرائيليين، أن صالح “ليس إنسانًا”. ولم يتم انتقاد كينغ، وهو أيضًا ناشط يميني، بسبب ما قاله. ووجدت بتسيلم أيضًا أن المستوطنين أطلقوا حملات تحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي، كانت مليئة بالتهديدات الصريحة بقتل الفلسطينيين وتخريب ممتلكاتهم.
زادت الهجمات على الفلسطينيين مثل صالح حيث تضاعفت من أعلى مستوى لها منذ 15 سنة في الأشهر التي سبقت 7 تشرين الأول/ أكتوبر، مع مقتل أكثر من 130 شخصًا وتشريد ما يقرب من 1000 قسريًا. حتى 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، ورغم قول بايدن إنه يجب محاسبة المستوطنين على هذه الحوادث، فقد تم القبض على مستوطن واحد فقط بتهمة قتل صالح، ليتم إطلاق سراحه بعد خمسة أيام. واعتقل اثنان آخران دون تهمة. بينما قد يكون ذلك نذيرًا لأحداث أسوأ في المستقبل، تعهد وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي قال ذات مرة إن حقه في الحياة يفوق حق الفلسطينيين في التنقل في الشوارع، بمنح 10 آلاف بندقية لـ “فرق الأمن المدنية” في الضفة الغربية. لذلك من المحتمل أن تتزايد عمليات استجواب وتعذيب الفلسطينيين على يد الإسرائيليين، مثل أولئك الذين تعرضوا للضرب في قرية وادي السيق حيث تعرض الرجال للجلد والقفز على ظهورهم وهم مستلقون على الأرض.
بالتوازي مع هذه الهجمات، كثّفت إسرائيل أيضًا حصاراتها داخل الضفة الغربية حيث أغلقت بلدات ومدنا بأكملها من خلال استخدام نقاط التفتيش والكتل الإسمنتية والبوابات الحديدية. وقد أدى هذا إلى حرمان الفلسطينيين من سبل عيشهم في اقتصاد يواجه بالفعل الاختناق بسبب سنوات من القمع الإسرائيلي. أفاد المزارعون والتجار بأن أعمالهم منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر لم تتجاوز 1 في المائة مما كانت عليه. وهذا التطور الأخير هو مجرد تفاقم للعنف اليومي عند 645 حاجزًا ماديًا للدخول تم بناؤها حول الضفة الغربية. وأكدت العديد من الشهادات التي نشرها ضباط جيش الدفاع الإسرائيلي المخضرمون الملتزمون بتثقيف الجمهور حول الحياة اليومية في الأراضي المحتلة أن إهانة الفلسطينيين بشكل روتيني من خلال الكلام والاعتداء الجسدي كان أمرًا معتادًا للجنود عند نقاط التفتيش.
امتدت موجة العنف إلى ما هو أبعد من حدود إسرائيل وفلسطين. في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، توفي وديع الفيوم، وهو صبي فلسطيني مسلم يبلغ من العمر 6 سنوات ويعيش في إحدى ضواحي شيكاغو، بعد أن تعرض للطعن عشرات المرات من قبل مالك منزله. غضب الأخير، الذي اتُهم بالقتل وجرائم الكراهية، بعد أن قالت والدة الفيوم إنه يجب عليهم الصلاة من أجل السلام. وفي حديثه إلى وسائل الإعلام، وجه عم الصبي نداءً مفاداه أنه لا ينبغي لأي إنسان أن ينطق: “نحن لسنا حيوانات، نحن بشر”.
بالعودة إلى سعيد، إذا كانت الحقائق بحاجة إلى سرد لدعمها كحقيقة فإن اللغة المستخدمة في وسائل الإعلام الغربية لنقل حقائق هذه الحرب قد فعلت العكس في الغالب، من خلال تجريدها من سياقها. لقد أطلقت معظم وسائل الإعلام البريطانية على هذه الحرب اسم “إسرائيل- حماس”، وهي تسمية لا تشير إلى المنطقة التي تتعرض للقصف، ولا تحث على التفكير في الأشخاص المتأثرين الذين لا ينتمون إلى حماس. بينما سبق وصف حروب مماثلة فيما يتعلق بالأراضي التي يتم غزوها، على سبيل المثال الغزو الأمريكي لأفغانستان، أو الغزو الروسي للشيشان، فإن التركيز هنا ينصب فقط على حماس مما يمحو وجود السكان المدنيين الفلسطينيين وانتمائهم إلى المنطقة التي تتعرض للهجوم.
اللغة ليست مشبعة بالمنطق الاستعماري فحسب، بل تعتمد أيضًا على خطاب الإسلاموفوبيا الذي يستخدمه مؤيدو الحرب العالمية على الإرهاب والأحزاب اليمينية والجماعات الشعبوية.
في الآونة الأخيرة، بدأت بعض وسائل الإعلام – بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وصحيفة نيويورك تايمز – في الإشارة إلى الحرب باسم “إسرائيل – غزة”، وهو ما يقدم إحساسًا جغرافيًا أوضح للمنطقة التي يتعرض للهجوم، لكنه لا يقدم أي صلة بالتاريخ الأطول والجغرافيا السياسية للأراضي الفلسطينية المحتلة. إن غزة ممثلة هنا، ويتم الحديث عنها، بمعزل عن الضفة الغربية والقدس الشرقية، مع القليل من الاهتمام لوحدة الشعب الفلسطيني والقضية التي تربط هذه الأماكن ببعضها البعض. كما أن مصطلح “إسرائيل- غزة” تفشل في الاعتراف بكيفية ارتباط العنف في إحدى المناطق ارتباطًا وثيقًا والشعور به في المنطقة الأخرى. ويتجاهل مصطلح “إسرائيل – غزة” حقيقة أن هذه السنة كان الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ أكثر من عقد من الزمن.
في حين أن لغة التقارير تمحو التاريخ من خلال عدم تقديم أي روابط فإن الخطاب الأوسع حول الحرب يزيد من نزع التاريخ عن طريق إخفاء وإضفاء الشرعية على العنف من خلال تطبيق الاستعارات الحضارية. ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك الطريقة التي تم بها تبرير التوسع الاستعماري الأوروبي وتفسيره باعتباره وسيلة لنشر “الحضارة” ــ بما في ذلك قيم التنوير في الفكر العقلاني ــ إلى أجزاء أقل تطورًا من العالم.
في المقابل، تم تصوير المجموعات المستعمرة على أنها “همجّية” أو “متوحشة” غير قادرة على العقلانية أو السيطرة على طبيعتها الشريرة بالفطرة. وهيمن منطق مماثل بين “الأخلاق” و”المعقول” في مقابل “اللاأخلاقي” و”غير العقلاني” على اللغة التي بررت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق. ومن خلال إعلان إيران والعراق وكوريا الشمالية “محور الشر” الثلاثي، نجح الرئيس السابق جورج بوش في تحويل “الحرب العالمية ضد الإرهاب” إلى حملة صليبية لتخليص العالم من المفسدين والأشرار. واستخدامه للغة لم يبرر أعمال العنف اللاحقة فحسب بل أخفى أيضًا التاريخ المعقد للتدخل الأمريكي في هذه المناطق، مما ساعد في إنتاج القيادة السياسية التي أرادت الولايات المتحدة الآن مهاجمتها.
اليوم، بينما تقوم إسرائيل بإزالة الأحياء والمباني في غزة فإنها لا تقتل المدنيين من الرجال والنساء والأطفال فحسب فهي تدمّر أيضًا الحق الثقافي في الذاكرة
ولا يوجد مثال أوضح لاستخدام إسرائيل للغة مماثلة من وصف نتنياهو لغزو غزة بأنه “صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، وبين الإنسانية وشريعة الغاب”. إن اللغة ليست مشبعة بالمنطق الاستعماري فحسب بل تعتمد أيضًا على خطاب الإسلاموفوبيا الذي يستخدمه مؤيدو الحرب العالمية على الإرهاب والأحزاب اليمينية والجماعات الشعبوية. في هذا التمثيل، يتم تصوير الفلسطينيين على أنهم همجيون، بلا أي حضارة أو ثقافة، وبالتالي لا يستحقون الاعتبار كبشر. وتشير المعركة بين “النور” و”الظلام” إلى صراع خالد، ومن المفارقة أنها تزيل أي إحساس بالزمن والخصوصية التاريخية. إن ذلك يجعل الأمر يبدو كما لو أن الشعب اليهودي والمسلم يقفان ضد بعضهما البعض منذ زمن سحيق وأن الحرب الحالية تعكس هذه الكراهية المتأصلة.
إن العداءات التي نراها اليوم تأتي من تحول محدد للغاية نحو اليمين المتطرف الذي بدأ يحدث في إسرائيل منذ أكثر من 20 سنة وبلغ ذروته في الحكومة الحالية. يُمحى هذا التاريخ عندما يتم الحديث عن الحرب من حيث أنها معركة خالدة بين “النور” و”الظلام”. إن العداءات التي نراها اليوم تأتي من تحول محدد للغاية نحو التطرف غير المقبول، وهو التاريخ الذي شمل دائمًا أصواتًا إسلامية ومسيحية ويهودية متنوعة، وكان مدعومًا بشبكات التضامن المناهضة للاستعمار والعنصرية على المستوى الدولي.
في سنة 1970، عندما كانت الناشطة السياسية الأمريكية السوداء أنجيلا ديفيس في السجن في الولايات المتحدة، قام السجناء الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بتهريب رسالة إلى عائلاتهم تم إدخالها بعد ذلك إلى زنزانتها. ومنذ أن بدأت هذه الحرب الحالية، نظمت الجماعات اليهودية في جنوب إفريقيا تجمعات مناهضة للإبادة الجماعية في الأماكن العامة، تضامنًا مع الفلسطينيين وانتقادًا للإجراءات الإسرائيلية. وتتصرف النقابات العمالية في بلجيكا، التي رفضت التعامل مع أي شحنات أسلحة مرسلة إلى إسرائيل، بما يتماشى مع التاريخ العالمي الطويل للعمال الذين يعبّرون عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية. إن لغة نتنياهو لا تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم فحسب بل تحاول أيضًا محو تاريخهم.
لا يشمل العنف الأجساد فحسب، بل أيضا القلوب والعقول والذاكرة الشخصية والتاريخية. واليوم، بينما تقوم إسرائيل بإزالة الأحياء والمباني في غزة فإنها لا تقتل المدنيين من الرجال والنساء والأطفال فحسب فهي تدمّر أيضًا الحق الثقافي في الذاكرة. ومع محو عائلات بأكملها وأنسابها وتدمير المعالم المادية، يتم طمس ماضي غزة – والحق الثقافي في التذكر – بشكل منهجي، مما يسمح بقتل ونسيان الفلسطينيين وفلسطين.