أزمة حراك الريف وتداعياتها المستقبلية تعبر عن واقع اجتماعي عميق في دلالاته، خاصة أنه يعتبر من ضمن أشكال الاحتجاج السلمي أو التظاهرات الاجتماعية التي يمكن وصفها أنها طرحت زاوية جديدة عن العلاقة بين الانتفاضات والمجالات الحضرية أو إشكالية العلاقة بين السلطة والمجتمع أو من منطلق التحولات التي تعرفها المجتمعات الإنسانية وعلاقتها بالمجال السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى تراكمات عميقة يغلب عليها الجانب التاريخي والنفسي ووجود أزمة الثقة بين ساكني الريف والسلطة.
فالمتأمل لجراحات الريف وحراكه الشعبي الذي ترجم على الأرض كشكل من أشكال الاحتجاج السلمي ظل يتصاعد في إطار محلي بسبب انتشار هذا الاحتقان الناجم عن انسداد آفاق المستقبل أمام منطقة تعاني التهميش والفقر لسنوات، وفي ظل غياب مشاريع تنموية واقتصادية باعتبارها منطقة عسكرية تحظى بسخط من السلطة.
ونظرًا لوجود اختلالات تاريخية على مستوى العلاقة بين المجتمع والدولة في ظل حقد هذه الأخيرة على منطقة الريف التي كانت تنظر إليها كأنها مصدر إزعاج وقلاقل منذ سنة 1958، بالإضافة إلى بروز نخبة مالية واقتصادية تفتقد للمشروعية التاريخية والاجتماعية تحتكر ثروات البلاد وتشكل عائقًا أمام أي مشروع نهضة تنموي في العديد من المناطق المهمشة في المغرب.
فمنذ مقتل محسن فكري – رحمه الله – يوم 28 من أكتوبر 2016، في مدينة الحسيمة اشتعلت شرارة حركة احتجاجية واسعة لتمتد بعد ذلك إلى تماسينت وأمزورن ومناطق شمال المغرب كافة التي غفلت عنها السلطة وانشغلت بحالة البلوكاج الحكومي ووضع العراقيل أمام مشاروات بنكيران.
لمدة ستة أشهر والحراك الجماهيري يتصاعد وخطورته تتجلى حسب درجة تطور مجال التعبير المطلبي وسط غياب تام للأدوار التي تقوم بها بعض الأحزاب السياسية
في الوقت الذي كان هذا الحراك يمتد لمدة ستة أشهر، وأصبحت مطالبه تتجاوز السقف يومًا بعد يوم ويعرف وتيرة تصاعدية من المطالبة بالقصاص من الجناة ومحاكمتهم الى إنشاء مستشفى جامعي ثم بناء مؤسسة جامعية إلى ربط إقليم الحسيمة بخط السكة الحديدية إلى إلغاء ظهير قانوني رقم 1.58.3815 يعتبر فيها الحسيمة منطقة عسكرية ثم رفض آليات الوساطة المشكوك في نزاهتها والذين هم ـ في نظر أهل الريف ـ عبارة عن (حيتان) نهبت ثروات البلاد وتفتقد لأي مشروعية ثم التفاوض بشكل مباشر مع الملك، ولا تزال المطالب في تصاعد تدريجي وسط التجاهل المقصود من قبل السلطة والاستمرار في تعنت وضعها في حالة اختبار عسير.
لمدة ستة أشهر والحراك الجماهيري يتصاعد وخطورته تتجلى حسب درجة تطور مجال التعبير المطلبي وسط غياب تام للأدوار التي تقوم بها بعض الأحزاب السياسية وغيرها من قنوات الوساطة التي تقوم بها في تأطير المواطنين والتي أضعفتها السلطة يوم 7 من أكتوبر وعدم ثقة المتظاهرين في آليات وساطة كهذه، بالإضافة إلى التأطير الجماهيري المحكم للحراك الريفي بشكل عام كتنظيم اللجان كلجنة القرار ولجنة الرصد ولجنة الإعلام ولجنة اللوجستيك واللجنة التنظيمية وأساليب التكتيك والمناورة التي توظفها هذه اللجان في التأطير الجماهيري كاللجان التطوعية غير الثابتة التي تارة ما تتصدر الصفوف وتارة تتراجع إلى الوراء في أساليب تكتيكية وإقصاء المنتمين من الأحزاب والنقابات ومشاركتهم في الاحتجاجات بصفة شعبية وليست حزبية.
إلا أن هناك ملاحظات على بعض الأحداث البارزة يجب التلميح إليها في هذا الحراك:
– لم يحدث منذ ثورات تونس ومصر وليبيا سنة 2011 وحركة 20 من فبراير في المغرب أن كان لهذه الثورات والانتفاضات أو أساليب الاحتجاج الشعبي، قيادة كاريزمية بخطاب موحد وملف مطلبي موحد استطاع أن يلتف المحتجون حوله مثل هذا القدر من الالتفاف الشعبي حول شخصية ناصر الزفزافي.
هذا الشخص الذي تحول إلى أيقونة رمزية وشخصية كاريزمية قادرة على الحشد والترويج لرؤية اجتماعية واقتصادية يتبناها الشارع الريفي، بل إن معظم ثورات الربيع العربي كانت عبارة عن ائتلافات شبابية أو تنسيقيات تفتقد إلى القيادة الموحدة والقوة الخطابية التي لم تتوفر إلا في قائد حراك 2017 بالمغرب ناصر الزفزافي، والذي تحول في ظرف ستة أشهر إلى أيقونة لهذا الحراك الشعبي ورفعت لافتات صوره في احتجاجات المدن المغربية كافة.
– في هذا الحراك لم تعد للسلطة أي قدرة على التماسك داخل المجتمع بعد أن استنفدت جميع أوراقها وتبخرت جميع الإيديولوجيات والنخب البديلة والقوى السياسية والاجتماعية التي تتخذ كقنوات وآليات وساطة لإنجاز التغيير وامتصاص الغضب الشعبي بطرق بديلة، حيث إن المطالب لا تخرج عن كونها مطالب تنموية واقتصادية، ولم يتبق للسلطة سوى العنف وتفعيل المقاربة الأمنية للقضاء على هذا الحراك الشعبي، وهذا يدل على مدى الإفلاس وضعف قدرات المواجهة التي وصل إليها النظام السياسي في المغرب.
الحراك المحلي في منطقة الريف بدأت تداعياته تمتد إلى سائر المدن المغربية كالوقفات الاحتجاجية في قلعة السراغنة وتاونات وتافراوت وطنجة ووجدة وغيرها، ليرتفع سقف المطالب إلى التغيير الجذري في إعادة توزيع الثروة والتفاوت الطبقي والتخلف الاقتصادي وأزمة التنمية
هذا الحراك المحلي في منطقة الريف بدأت تداعياته تمتد إلى سائر المدن المغربية كالوقفات الاحتجاجية في قلعة السراغنة وتاونات وتافراوت وطنجة ووجدة وغيرها، ليرتفع سقف المطالب إلى التغيير الجذري في إعادة توزيع الثروة والتفاوت الطبقي والتخلف الاقتصادي وأزمة التنمية وهو ما يعيد إلى الأذهان انتفاضات 23 من مارس 1965 و20 من يونيو 1981 وأحداث يناير 1984 حين بلغ الاحتقان الاجتماعي ذروته ليمتد إلى سائر المدن المغربية.
وهنا نسجل حالة من أوجه التشابه بين حركة مارس 1965 وحراك الريف مايو 2017 خاصة في الملف المطلبي المتعلق بالتعليم، حين أصدر وزير التربية الوطنية أنذاك يوسف بلعباس قرارًا بعدم توجيه التلاميذ المزدادين قبل 1948 إلى السلك الثانوي، لتبدأ بعد ذلك وزارة الداخلية أيام الجنرال أوفقير بالقيام بحملة لشرح منشور وزارة التربية الوطنية عبر اللقاء بأولياء التلاميذ، وهذا تمامًا ما نشهده من تقوية لدور وزارة الداخلية حين التقي وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت أولياء وآباء التلاميذ وجمعيات منظمات المجتمع المدني في الحسيمة عن الملف المطلبي الخاص بالتعليم، مما يدل على أن السلطة تسعى لحل شكلي وليس جذري للأزمة وتفعيل المقاربة الأمنية في التعاطي مع الاحتجاجات.
– تقوية البيئة الحاضنة أو التعزز المناطقي عند أهل الريف ودور هذه البيئة في تعزيز هذا الحراك الريفي، وبروز مظاهر الحاضنة الشعبية حتى على مستوى الخارج، واللجان التي تشكلت فيإاسبانيا وهولندا وبلجيكا لدعم هذا الحراك، هذا الأخير الذي استفاد من الظروف الإجتماعية والموضوعية لتكتسي هذه القضية طابعًا شبه دولي.
ويبقى الحديث أن التجاهل التام من طرف السلطة واستعمال العنف كأداة شبه وحيدة في التعاطي مع أحداث الريف من خلال الاعتقالات وحالات الاختطاف التي طالت العديد من النشطاء والصحفيين وقادة لجان الحراك كناصر الزفزافي ومحمد جلول ونبيل أحمجيق في الحسيمة وأمزورن، بالإضافة إلى ما تعرضوا له من تعنيف ومواصلة اعتقال نشطاء الحراك، يدل على أن جماهير الحراك ستستمر في الرفع من سقف مطالبها واحتجاجاتها لتضع السلطة في مزيد من الاختبارات العسيرة أمام الرأي العام الإقليمي والدولي ووضع سجله في مجال حقوق الإنسان موضع شك.