بعد انتهاء المصلين من أداء صلاة الظهر وبينما نحن خارجون من المسجد إذ بشاب في العقد الثالث من عمرة وقد استقل سلمًا من أجل تركيب “زينة” رمضان، وقتها شعرنا بفرحة غامرة لا سيما نحن في اليوم الأول من هذا الشهر، فاقتربنا منه لنهنئة بقدوم الشهر فإذا به ممسكًا بزجاجة مياه، فتعجبنا، وقلنا له ألست صائمًا؟ فأومأ برأسه أي لا، فقلنا: فلماذا تعلق زينة رمضان إذًا وأنت لا تصوم؟ فأجاب: اعتدنا كل عام أن نحتفل بهذا الشهر بصرف النظر عن صيامه أو لا…” بهذه الكلمات أجاب أحمد عن سؤال وجهناه له بشأن كيفية الاحتفال بشهر رمضان من قبل الصائمين وغير الصائمين.
الكثير في رمضان يتعامل مع هذا الشهر ليس بمنظور أنه شهر عبادات وصوم وصلاة وزكاة وتقرب إلى الله، بل إنه في مخيلته موسمًا سنويًا له طابع خاص، كونه تقليدًا تراثيًا له طقوسه المعتادة، وممارساته التي تحمل في معظمها مظاهر احتفالية أكثر منها تعبدية، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: هل رمضان شهر عبادة أم عادة؟
كيف كان يحتفل السلف برمضان؟
كثير من الناس يعتقد أن سلف الأمة ورعيلها الأول ما كان يحتفل برمضان وما كان لديه طقوس خاصة بهذا الشهر، وهو ما ينافي الحقيقة ويجافي التاريخ بصورة كبيرة، حيث كان لهذا الشهر المبارك منزلة عظيمة في نفوسهم ونفوس تابعيهم.
تمثلت أبرز طقوس الاحتفال بشهر رمضان عند السلف بالدعاء والإكثار من الصلوات والقيام والصدقات، كذلك التزاور بين المسلمين بعضهم البعض، فضلاً عن انتشار مظاهر التكافل بين نسيج المجتمع، فلا تجد فقيرًا في هذا الشهر ولا محتاجًا، إذ إن الأمة كلها كانت على قلب رجل واحد لئلا يكون بينهم محتاج.
إلا أنه وكما تقول كتب التاريخ فلم يرد عن السلف أن قاموا ببعض الطقوس الغريبة في الاحتفال بهذا الشهر، فالأمر كان يقتصر على الطقوس التعبدية فقط، كتبادل التهاني بين المسلمين وامتلاء المساجد وتبادل الطعام والشراب بين أغنياء المجتمع وفقرائه، وكثرة حلق القرآن والذكر.
الطقوس المختلفة التي يحييها المسلمون في رمضان تختلف من دولة لأخرى، ومن شعب لآخر، إلا أن الرابط بينها إشعاع نور الفرحة والبهجة الذي يتسلل بين خيوطها
ماذا عن الاحتفال الآن؟
مع تطور الأزمنة ومر العصور استحدث المجتمع المسلم في شتى بلدان العالم الإسلامي طقوسًا متعددة للاحتفال بشهر رمضان، وقد تباينت هذه الطقوس من بلد لآخر، فهناك الفانوس والمسحراتي وموائد الرحمن والسهرات الرمضانية وحفلات الموسيقى التراثية والتواشيح والزجل وغير ذلك من الطقوس المستحدثة.
“نون بوست” في تقرير له كشف عن أبرز الطقوس المختلفة التي يحييها المسلمون في رمضان، والتي تختلف من دولة لأخرى، ومن شعب لآخر، إلا أن الرابط بينها إشعاع نور الفرحة والبهجة الذي يتسلل بين خيوطها، حيث ينتظر المسلمون قدوم هذا الضيف على أحر من الجمر، ليس لكونه موسمًا دينيًا تعبديًا فقط، بل أيضًا لما يضفيه على المجتمع من معاني الوحدة والتكاتف والتماسك، وما يبثه في النفس من طمأنينة وسكينة وراحة بال.
التقرير تناول أيضًا كيفية الاحتفال بهذا الشهر في بلاد غير المسلمين سواء في أوروبا أو أمريكا أو بعض دول أسيا، وكيف أن لرمضان مكانة عالية بين هذه الدول حتى وإن كان غالبية سكانها لا يدينون بالإسلام، وهو ما يعيدنا للسؤال الذي استهللنا به التقرير: هل رمضان عادة؟
موائد الرحمن أبرز مظاهر رمضان
ما بين العادة والعبادة
على رغم من تعدد وتباين طقوس رمضان من دولة لأخرى، ومن مجتمع لآخر، فإن المسلمين في استقبالهم واحتفالهم وممارساتهم اليومية في رمضان ينقسمون إلى شقين.
الأول: المسلمون الصائمون العابدون الذين يتعاملون مع هذا الشهر الكريم كونه شهر عبادة وطاعة، فتراهم صوامين في النهار قوامين في الليل، ذاكرين الله طول اليوم، مهللين بحمده ومسبحين له، يعلنون في هذا الشهر حالة “الطوارئ” القصوى التي تستوجب التخلي عن معظم ملذات الحياة العادية في غير رمضان من أجل الوصول لهدف واحد وهو تحصيل تقوى الله عز وجل.
الثاني: المسلمون غير الصائمين، وهم كثر في بعض البلدان، إذ إن الصوم عندهم لا يعتد به كفريضة واجبة، ورمضان بالنسبة لهم لا يعدو كونه شهرًا للاحتفلات وإقامة الولائم والسهرات والحفلات الموسيقية التراثية، فتجد بعض المسلمين ممن لا يصومون رمضان وقد كرس يومه من أجل الاحتفال بهذا الشهر لكن على طريقته الخاصة.
هذا الصنف من المسلمين يتعامل مع رمضان كمحفل ثقافي تراثي فني مميز، تكثر فيه الفعاليات في ظل امتلاء المقاهي والميادين والشوارع بالمارة لا سيما في الليل، وهو ما يعد فرصة سانحة لقيام مثل هذه الفعاليات كما هو الحال في بيت السناري ومنطقة الحسين والسيدة زينب بوسط القاهرة والتي تقام فيها الحفلات والسهرات كل ليلة حتى الفجر، علمًا بأن معظم المشاركين في هذه الحفلات ليسوا بصائمين، بحسب شهادات بعض المقربين منهم.
كما يلاحظ أيضًا انتشار الخيم الرمضانية في الفنادق والمنتجعات والقرى السياحية، والتي لا تتغير فيها طبيعة الحياة في رمضان عن غيره فيما يتعلق بالطعام والشراب وغير ذلك من الأمور الأخرى، لكن في المساء تجد معظم النزلاء ملتفين حول تلك الخيم يتمتعون بطقوس رمضان المبهرة رغم إفطارهم.
ومن الأمور الملفتة للنظر أن أكثر المجتمعات التي تقيم طقوس رمضان واحتفالاته الليلية وولائمه التي لا تتوقف تلك التي لا يصوم معظم مسلميها، إذ تجد السهرات الرمضانية الجميلة وطقوسها المميزة في الوقت الذي يفطر فيه غالب سكان هذا البلد، وهو ما أثار جدلاً في بعض الأوقات، مما دفع الكثيرين إلى اليقين أن شهر رمضان عادة أكثر منه عباده لدى كثير من المجتمعات
علاوة على ما سبق فإن إقامة طقوس رمضان ومظاهره الاحتفالية لا تقتصر فقط على المسلمين سواء كانوا صائمين أو غير صائمين، بل كثير من غير المسلمين يحتفلون بمثل هذه الطقوس، فترى المسيحين مثلاً أكثر رواد سهرات رمضان في بعض مناطق وسط البلد بالقاهرة، كذلك تراهم أول المهنئين لجيرانهم من المسلمين في بلاد غير المسلمين، ومن الملفت للنظر بحسب شهادة عدد من المسلمين في أوروبا وأمريكا أن كثيرًا من المسيحين في هذه البلدان يحتفلون برمضان بتعليق الزينة وفانوس رمضان في شرفات منازلهم مشاركة للفرحة مع المسلمين.
صنف من المسلمين يتعامل مع رمضان كمحفل ثقافي تراثي مجتمعي فني مميز، تكثر فيه الفعاليات في ظل امتلاء المقاهي والميادين والشوارع بالمارة لا سيما في الليل، وهو ما يعد فرصة سانحة لقيام مثل هذه الفعاليات
تظاهرات تونسية للمطالبة بتشريع يجيز الإفطار في رمضان
المجاهرة بالإفطار
وصل تجاهل بعض المسلمين لفريضة الصوم في الوقت الذي يمارسون فيه طقوس رمضان كاملة من احتفالات وسهرات وغيرها إلى حد المطالبة بتشريع يبيح لهم الإفطار في نهار رمضان وهو ما حدث في بعض المجتمعات خلال السنوات الأخيرة لعل أبرزها تظاهرات الأمس بتونس.
ففي سابقة هي الأولى من نوعها تظاهر العشرات في العاصمة التونسية الأحد استجابة للدعوة التي أطلقتها حركة “موش بالسيف” للمطالبة بالحق في الأكل والشرب جهارًا خلال أوقات الصوم في شهر رمضان، والاحتجاج على اعتقال اشخاص وسجنهم بجرم الافطار علنًا خلال الشهر المبارك، علمًا بأنه لا يوجد في القانون التونسي ما يمنع من الإفطار جهارًا خلال رمضان، لكن الجدل بخصوص هذه المسألة يعود الى الواجهة سنويًا خلال شهر الصوم.
المتظاهرون رفعوا عدد من اللافتات كتبت عليها شعارات من بينها “ما الذي يضيرك إذا صمت أنت وأكلت أنا” و”لا لاعتقال المفطرين” و”اعتقلوا الإرهابيين ودعوا المفطرين وشأنهم”، مع الإشارة إلى أن الدستور التونسي ينص على “الدولة كافلة لحرية المعتقد والضمير”، لكنه ينص أيضًا على “الدولة تلتزم (..) بحماية المقدسات ومنع النيل منها”.
تظاهر العشرات في العاصمة التونسية الأحد استجابة للدعوة التي أطلقتها حركة “موش بالسيف” للمطالبة بالحق في الأكل والشرب جهارًا خلال أوقات الصوم في شهر رمضان
جدير بالذكر أن محكمة ولاية بنزرت (شمال شرق) قضت في مطلع حزيران/يونيو الحاليّ بسجن أربعة تونسيين لانهم أكلوا ودخنوا في حديقة عامة خلال نهار رمضان، وهو ما أثار حفيظة بعض المنظمات الحقوقية التي وصفت هذا الحكم بأنه غير دستوري.
تونس ليست الدولة الوحيدة التي تجرم الإفطار جهرًا في نهار رمضان، حيث أصدرت العديد الدول العربية قوانينًا تعاقب المفطرين جهرًا، تتفاوت عقوباتها من بلد لآخر، حال تم ضبط شخص يخالف هذه القوانين.
ففي المغرب يعد الإفطار جهرًا جريمة قد تُدخل صاحبها السجن من شهر إلى 6 أشهر وغرامة من 12 إلى 120 درهمًا، بينما في مصر تشن السلطات حملات مفاجئة وتعتقل مواطنين في الشارع موجّهةً إليهم تهمة “الجهر بالإفطار”، وفي السعودية تتفاوت العقوبة بين السجن والجلد، إضافة إلى الإبعاد من المملكة إذا كان الفاعل أجنبيًا، أما الكويت فيعاقب القانون بالحبس لمدة لا تتجاوز شهرًا أو غرامة لا تتجاوز 100 دينار أو بإحدى العقوبتين.
وفي الإمارات يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على شهر أو بغرامة لا تتجاوز 2000 درهم، بينما في قطر يعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز 3 أشهر وبغرامة لا تزيد على 3000 ريال أو بإحدى العقوبتين، وفي عمان يعاقَب بالسجن تقديرًا أو الغرامة من ريال إلى 5 ريالات أو بإحدى العقوبتين، بينما في البحرين يعتبر القانون الإفطار العلني جنحة عقوبتها قد تزيد على 3 أشهر.
وفي العراق يعاقب المفطر جهرًا بالسجن 5 أيام، إلا أنه يستثني المرضى والمسافرين، وفي الأردن يعاقب بالحبس لمدة شهر وغرامة مالية بقيمة 25 دينارًا، أما الصومال فقد جرّمت المحاكم الإسلامية حين سيطرت على مناطق بالدولة عام 2006 الإفطار جهرًا، وتصل العقوبة في بعض الأحيان إلى القتل.
ومن ثم فإن نظرة المسلمين لشهر رمضان ليست واحدة، وليس شرطًا حين تحتفل بهذا الشهر وتقيم طقوسه أن تكون صائمًا، فكثير من رواد ومقيمي هذه الطقوس ليسوا بصائمين، إذ إن هذا الشهر في مخيلة البعض موروثًا ثقافيًا ومجتمعيًا أكثر منه شهر طاعة وعبادة.