قامت الليبرالية الدينية على فكرة نسبية الحقيقة، أي الدعوة إلى عدم التقيّد بقواعد ولا مرجعية، بل تدعو إلى حرية الاستناد لحرية اختيار المعبود وترفض احتكارية الصواب المُطلق، ومن هنا خرجت الليبرالية الدينية كأداة فاعلة عن الليبرالية السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية، ذلك لأنها تهدم القواعد وتزيل الحواجز.
في كتابه الصادر عام 1922 بعنوان “اللاهوت السياسي Politische Theologie”، يؤكد الفيلسوف الألماني الشهير كارل شميدت أن في العلاقة بين الدين والدولة ما يشبه علاقة هيكلية تماثلية بين المفاهيم السياسية والمفاهيم الدينية اللاهوتية، وهذا يعني أن الإطار الهيكلي للمفاهيم السياسية القانونية يتقارب إلى حد التشابه مع الإطار الهيكلي للمفاهيم الدينية اللاهوتية.
إن لهذا الرأي تبريرات تاريخية، فالتبرير التاريخي يبين أن هناك تقارب ما بين “الإيمان بالمعجزة لاهوتيًا” وفكرة “الاستثناء والضرورة سياسيًا”، وهذا التقارب يعتبر تمهيدًا ومدخلاً لتبرير بعض الشيوخ والدعاة لكل استبداد وطغيان الديكتاتورية برزت من خلاله فكرة الحكم المطلق الذي يشرف على كل تفاصيل الحياة السياسية.
ليس جديدًا علينا توظيف العامل الديني في العملية السياسية، ففي الوقت الذي يوفر فيه الدين أساسًا للإصلاح الاجتماعي، فإن بإمكانه دعم مكونات ومؤسسات السلطة، فحتى بعد بزوغ نموذج الدولة الحديثة بعد الثورة الفرنسية، لم يكن غريبًا استدعاء سلطة الدين لتنمية الولاء المطلق لسلطة الدولة.
يقول الكاتب الإسلامي “فهمي هويدي” في مقال له: “الاتجاهات الليبرالية موجودة في الساحة الإسلامية التي شهدت تطورات إيجابية بالغة الأهمية خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وهذه التطورات لم تكن فقط استجابة للواقع، لكنها كانت أيضًا رد فعل على موجات التشدد والعنف التي انتسبت إلى الإسلام وأساءت إليه في تلك الفترة”، بل إن هناك من يعتبر توجهات جماعة الإخوان نفسها مؤخرًا، وبالذات في تونس، هي توجهات نحو مزيد من الليبرالية.
هناك تقارب ما بين “الإيمان بالمعجزة لاهوتيًا” وفكرة “الاستثناء والضرورة سياسيًا”، وهذا التقارب يعتبر تمهيدًا ومدخلاً لتبرير بعض الشيوخ والدعاة لكل استبداد وطغيان الديكتاتورية
ترسيخ الدين من أجل القبول الأعمى للسلطة
لم يكن ترسيخ الدين في السياسة من سمات العصور القديمة فحسب، بل يحدث يوميًا، فعلى سبيل المثال استمر نظام حسني مبارك في استخدام الدين والمشاعر القومية، من أجل ترسيخ القبول الأعمى لسلطة الدولة، وهو ما أدى إلى تحول جذري في البيئة السياسة، كان فيها الأقباط والمفكرون العلمانيون وذوو الآراء الدينية وحتى بعض من الشيوخ و الدعاة جزءًا لا يتجزأ من ذلك النظام، بل وأحد أذرعه التي تترأس قواه الناعمة بشكل غير مباشر.
كان استخدام العامل الديني في العملية السياسية وسيلة من قبل السلطات الحاكمة في العالم العربي لقمع أي محاولة معارضة مشروعة، كان نتاجها إقصاء أغلب فئات الشعب عن العملية الديموقراطية من قِبل الحكام خوفًا من وصول “الجماعات الإسلامية المُتزمتة” إلى كرسي الحكم.
ما بين مُتهم لتلك الجماعات الإسلامية بالإرهابية، ومؤيد لها وللإسلام السياسي، ظهر ذلك التسييس الديني بشراسة مع الربيع العربي، فخرج مجموعة كبيرة من العلماء ورجال الدين والدعاة بسياسة “التطبيل” للحاكم على حساب دماء الشعوب، من أجل تعزيز الولاء المطلق، والخضوع الأعمى دون مرجعية دينية، والتي من المفترض أن تكون مرجعية أشخاص بمكانتهم.
لم يكن ترسيخ الدين في السياسة من سمات العصور القديمة فحسب، بل يحدث يوميًا، فعلى سبيل المثال استمر نظام حسني مبارك في استخدام الدين والمشاعر القومية، من أجل ترسيخ القبول الأعمى لسلطة الدولة
موقف الشيوخ والدعاة من حصار قطر
مفتي المملكة: القرارت ضد #قطر فيها مصلحة للمسلمين#قطع_العلاقات_مع_قطر#البيان_القارئ_دائما#السعوديةhttps://t.co/ik1RmNXK2s pic.twitter.com/e6E5a5Gcs3
— صحيفة البيان (@AlBayanNews) June 11, 2017
كما كان الحال في مصر، خرج مجموعة من أكبر الدعاة والشيوخ في حديث إعلامي ترويجي لانقلاب الحكم في مصر، مستغلين مكانتهم الدينية مسلمين وأقباط للترويج للانقلاب العسكري، طالبين الدعم الشعبي لـ”محاربة الإرهاب”.
لم يأبه الشيوخ والقساوسة لأرواح ضحايا الانقلاب، ولا للمظلومين نتاج تبعات ما حدث في الداخل المصري، واستمروا في ترويجهم الديني للسلطة، مستغلين مكانتهم الدينية لإخضاع الناس وتبرير القتل بالدين.
لم تكن تلك المرة الأخيرة التي اُختزل فيها هيبة الدين لمجرد سلاح ناعم في يد السلطة، الأمر الذي زعزع ثقة الكثير من الشعوب بعلماء وشيوخ الأمة، بل وزعزع ثقته بالمصادر التي يتلقى منها الدين عمومًا، لتظهر تلك الموجة من الحرب الدينية بين مؤيد ومعارض خلال الأزمة القطرية الخليجية.
مقاطعة قطر حرام شرعًا
الجبهة التنسيقية لعلماء أهل السنة
صرحت “الجبهة التنسيقية لعلماء أهل السنة”، يوم السبت الماضي، أن مقاطعة دولة قطر وحصارها “حرام شرعًا، والمشاركة فيه لا تجوز بأي وجه من الوجوه”، كان ذلك بيانًا قويًا ردًا على موجة الاتهامات الصارمة التي شنّها أيقونات دينية معروفة من كل من الجانب السعودي والإماراتي دعمًا لقرار قطع العلاقات مع قطر وترويجًا لسياسة حكامهم.
عقدت الجبهة التنسيقية لعلماء أهل السنة مؤتمرها الأخير بمدينة إسطنبول في تركيا، معلنة فيه بيانها الشرعي موقفها من قطع العلاقات مع دولة قطر، ووقع على ذلك البيان أكثر من 100 عالم من مختلف دول العالم.
العريفي مع محمد بن سلمان
ركز العلماء الموقعون على ذلك في بيانهم على حرمانية إيقاع الأذى بشعب كامل دون أسباب شرعية، حيث أكدوا تحريم ذلك في النصوص المتواترة تحريمًا قطعيًا، وبينت الهيئة أن رفع الإثم الواقع بالشعب القطري أمر واجب على الأمة الإسلامية، وإن لم يحدث ذلك، سيكون التأثير سلبيًا على انتماء الشباب المسلم لقضايا أمته.
جاء ذلك البيان ردًا على قائمة “الإرهاب” الصادرة قبل ثلاثة أيام من قِبل السعودية والإمارات والبحرين بإدراج أفراد وكيانات بعينها متهمة إياها بالكيانات “الإرهابية” التي تمولها قطر، كان على رأسها يوسف القرضاوي ووجدي غنيم.
#السديس: الإجراءات ضد قطر "سديدة" وهذه فئة ضالة
لم يُسقط الأمة في الذل والهوان والفرقة
غير فتاوى علماء السلاطينhttps://t.co/fTi5lcItgO— نحو الحرية (@hureyaksa) June 11, 2017
وفي محاولة تلك الدول تصوير “حماس” بالكيان الإرهابي، شددت أن مقاومة المحتل حق قررته كل الأديان وجميع القوانين، ولا يجوز خذل هذه المقاومة من العرب والمسلمين، فضلاً عن العلماء، أو وصفها بما لا يصح أن توصف به، في إشارة لإدراج حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على قوائم الإرهاب السعودية والبحرينية والإماراتية.
ركز العلماء الموقعون على ذلك في بيانهم على حرمانية إيقاع الأذى بشعب كامل دون أسباب شرعية، حيث أكدوا على تحريم ذلك في النصوص المتواترة تحريمًا قطعيًا
اللهم احفظ وطننا واحمه من شر الفتن،
اللهم سدد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وولي ولي عهده. pic.twitter.com/j5KpFmgYEQ— د. عائض القرني (@Dr_alqarnee) June 9, 2017
شدد البيان على أن كل من أيد الحصار والقطيعة من الدعاة والأئمة والشيوخ ما لهم علاقة بالفقه ولا بالشريعة بصلة، مشيرين في ذلك إلى الحرب الدينية التي قام بإعلانها شيوخ السلطة على قطر، مزعزعين بذلك ثقة الجماهير بهم، جاعلين موقفهم مبهمًا بين علماء الحق وعلماء السلطة.
كان على الجانب الآخر ردة فعل شيوخ المملكة مثل مفتي المملكة والسُديس صادمة للكثيرين، إذ خرج أولئك الشيوخ من عباءة الدين مهللين لقرارت حكامهم، واصفين تلك القرارت بالصائبة، على الرغم من غضب المغردين على مواقع التواصل الاجتماعي من تدخل الشيوخ والدعاة في الأزمة متحيزين إلى جانب بشكل عنصري ومتحيز لا مرجعية دينية سليمة له.
“أحمد الريسوني” نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بينما خرج أحمد الريسوني، نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، داعيًا العلماء والعقلاء رفض الحصار المفروض على قطر، ومطالبًا كذلك الدول المقاطعة إلى إتيان دليل واضح على تورط قطر فيما نُسب إليها من اتهامات، حيث دعا العلماء والعقلاء وقادة الرأي وأهل الغيرة على أمتهم، إلى تمزيق وثيقة الحصار على قطر، والسعي بالسبل المتاحة لإنهاء الحصار، لإنقاذ أهل قطر مما سيَلُم بهم من المصاب الجلل، وكذا الأمة مما سيصيبها من مزيد من الفرقة والوهن أمام أعدائها.
تساءل “الريسوني” كيف يكون حكم الشريعة إذًا في حصارِ شعب بأكمله، وإلحاق الضرر بمئات الآلاف من المسلمين، وما يترتب على ذلك من فساد عام يحدث في مصالحهم ومعايشهم وقطيعةٍ لأرحامهم، بمنعهم من صلتها بحجزهم في بلادهم بقطع الطريق عليهم، وما ينتج عـن ذلك من اضطراب كبير في مناحي الحياة يضـرُّ العموم من أهل الإسلام.
بعد رسم الحدود ما بين الدولة والدين بهدف ألا يهدم أحدهما الآخر، لم يصبح الآن في خضم الأزمة الحالية أي حدود، بل صار الدين هو الآخر جزءًا لا يتجزء من التبعية والولاء الأعمى للحاكم، بلا أي مرجعية صلبة ولا قواعد محددة للفصل بينهما، الأمر الذي سيزعزع ثقة الكثير من الشباب في ولائه للشيوخ ولقضاياه الأمة الإسلامية.