بعد فشل أو “إفشال” محادثات جنيف التي وصلت إلى مرحلتها السادسة، في التوصل إلى حل وسط يُنهي الأزمة السورية ويُرضي أطرافها الفاعلة، اتجهت روسيا التي كان لها الدور الأكبر في إفشال تلك المحادثات، نحو بدء عقد محادثات جديدة في أستانة، لتضمن لذاتها إمكانية وازنة في توجيه الأمور وفقًا لرؤيتها.
تضم أستانة تركيا وروسيا وإيران كدول راعية وضامنة لعملية الحل، ولعل حيازة هذه الدول على الضمانة العسكرية والسياسية يعود إلى كعبها العالي في مسارات الأزمة السياسية والميدانية منذ ظهورها للسطح، وفيما تداوم الولايات المتحدة على الانضمام إلى أستانة على مستوى منخفض، يشارك الأردن، أحيانًا، ربما كممثل عن دول الخليج، في المؤتمر.
على الرغم من مواظبة الدول الراعية للمؤتمر على حضوره، والتوقيع على مخرجاته، تختلف في رؤى الحل عن بعضها البعض، فبعد التأمل في تحركات الدول الراعية والفاعلة في القضية السورية، نستطيع استنباط رؤيتها للحل وفقًا للسيناريوهات التالية:
الشيشنة
يُستخدم مفهوم الشيشنة للإشارة إلى عملية الحل التي انتهت بها الأزمة الشيشانية، حيث انتهت حرب الشيشان الثانية التي وقعت في 26 من آب/أغسطس 1999، بإنهاء استقلال الشيشان الفعلي “غير الرسمي” الذي حصلت عليه إبان حرب الشيشان الأولى التي دارت رُحاها لعامين “1994 ـ 1996”.
بالتزامن مع توليه مقاليد الحكم في روسيا نهاية عام 1999، عمد الرئيس فلاديمير بوتين، إلى استخدام استراتيجية مزدوجة لتخليص روسيا من الحرب في الشيشان، الأولى تقوم على ضبط القادة العسكريين الروس الموجودين هناك، وتشديد ارتباطهم بالقيادة السياسية الروسية بشكل مباشر، والثانية تقوم على “شيشنة” الصراع بتحويله من قتال شيشاني روسي إلى صراع شيشاني داخلي يؤدي، في نهاية المطاف، إلى إحكام روسيا قبضتها على زمام الأمور.
جاء تعريف الشيشنة على يد السفير الأمريكي في موسكو نيكولاس بيرنز، الذي أرسل في أيار/مايو 2006، برقية إلى إدارة بلاده، يستخدم فيها هذا المفهوم ويوضح معالمه، وقد تم تسريب هذه البرقية من قبل موقع ويكيليكس.
قام مفهوم الشيشنة على أساس تسليم الشيشان إلى أمراء حرب ذوي نفوذ، مقابل الاستفادة من ولائهم وقدراتهم، شرط بقائهم في إطار الفيدرالية الروسية
لقد قام مفهوم الشيشنة على أساس تسليم الشيشان إلى أمراء حرب ذوي نفوذ، مقابل الاستفادة من ولائهم وقدراتهم، شرط بقائهم في إطار الفيدرالية الروسية، وكان الرجل الذي أوكلت له هذه المهمة هو أحمد حجي قديروف الذي كان يشغل منصب مفتي المتمردين الشيشانيين والقيادي العسكري السابق، ويعتبر إِحداث انقسام داخلي بين المتمردين إلى أن يقوى المتمرد الموالي لها على المتمرد غير الموالي، المفتاح الأساسي لهذه السياسة.
وتشابه هذه المقاربة إلى حدٍ كبير السياسة الفرنسية القائمة على أساس “فرق تسد”، ولكن الفارق الأساسي هنا يكمن في أن روسيا تحافظ على سيطرتها في جغرافيا موحدة، وليست جغرافيا منقسمة كما في المثال الفرنسي.
وفي حين تأملنا بالسياسة الروسية المُطبقة في سوريا، نجد أنها تحاكي إلى حدٍ كبير هذه النظرية، وذلك عبر مؤشرات عدة:
ـ تأسيس تيارات باسم “معارضة الداخل” أو “المعارضة الوطنية” تبقى تحت عباءتها، وتُمثل جناحها المعارض الموازن للنظام، والمُحكم لسيطرتها السياسية داخل سوريا، والمحدث لانقسام داخل صفوف المعارضة أو فصائل الثورة المسلحة، ومن الأمثلة على ذلك، الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير بقيادة قدري جميل، و”معارضة قاعدة حميميم” بزعامة إليان مسعد.
ـ تأسيس جهات أمنية تابعة لها داخل الدولة أو ما يعرف باسم “التوغل المؤسساتي الأمني”، كالفيلق الخامس، لضمان أكبر قدر ممكن من الولاءات الداخلية لها.
ـ إجراء محادثات واتفاقات مع العشائر العربية في الشرق السوري، كالتشاورات التي تمت مع مشايخ العقل في السويداء.
ـ دعوة بعض الفصائل إلى محادثات أستانة لإحداث شقوق داخل صفوف المعارضة، فهي تريد تطبيق الشيشينة من خلال تصفية أكبر قدر ممكن من الفصائل المسلحة عبر إعلانها إرهابية لا تقبل بالحل السياسي، وخفض حجم الخطر الذي تشكله الفصائل الأخرى بإغماسها والدول الداعمة لها في عمليات حل تحاكي رؤيتها، أي روسيا.
ـ الإصرار على تحويل نفسها إلى وسيط وليس متورط أو طرف في الأزمة، أملًا في جذب أكبر قدر ممكن من قوى المعارضة السياسية والعسكرية إلى جانبها.
وفيما يتعلق بالعوائق الأساسية التي قد تحول دون إحراز روسيا لهذه الأهداف بالشكل الذي تريد، يمكن رصد العوامل التالية:
ـ المنافسة الإيرانية، تعتبر إيران الأقوى ميدانيًا في سوريا، وتقيّم إيران جميع قوات المعارضة المُسلحة على أنها جماعات إرهابية، كما أنها ترمي إلى التمسك بشخص الأسد وطائفته كسلاح يوطد كلمتها في سوريا، فضلًا عن موازاة برامج السيطرة الروسية ببرامج مماثلة كتأسيس الفيلق الرابع بامتيازات أفضل، وفي ضوء هذه العوامل، قد تواجه روسيا بعض الصعوبات في تحقيق ما تصبو إليه.
ـ تحقيق القوى السياسية السورية دعم دولي وتوافق سياسي يعيقان تحويل بلادهم إلى فيدرالية يحكمها أمراء تابعين لسوريا.
ـ النفوذ التركي والأمريكي الفعلي في بعض المناطق السورية.
العرقنة أو اللبننة
بإيجاز العرقنة أو اللبننة تعني بناء سلطة مركزية توحد الطوائف والقوميات المختلفة في إطار مؤسساتي يعتمد على المحاصصة، وفي إطار نظام المحاصصة تعتمد طائفة أو قومية معينة على توسيع نطاق توغلها المؤسساتي ونفوذها الأمني وسيطرتها الاقتصادية بدعمٍ ممول من دولة خارجية ترمي إلى إحكام سيطرتها عبر وكيل داخلي، ولعل المثالين العراقي واللبناني اللذين يعكسان هذا النموذج خير مثال تجريبي على ذلك.
تمتلك إيران السيطرة الميدانية الأكبر في سوريا، وهذا ما يجعلها توافق مشروعها مع مشروع روسيا التي تملك الكلمة السياسية الأكبر في حل الأزمة السورية
ويتضح أن إيران التي ترفض التفاوض مع الفصائل المسلحة، وتأبى التخلي عن نظام الأسد أو تنحيه، وتصر على تنفيذ مشروع “الطوق الشيعي أو العلوي حول دمشق” المماثل لمشروع “الطوق الشيعي حول بغداد” مع إبقائها على مشاركة بعض المواطنين السنة والمسيحيين في بعض المناصب مشاركةً رمزية، وتؤكد ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا بشكلها الذي كانت عليه قبل 2011، تحاول ترسيخ نظام العرقنة أو اللبننة في سوريا.
في الحقيقة، تمتلك إيران السيطرة الميدانية الأكبر في سوريا، وهذا ما يجعلها توافق مشروعها مع مشروع روسيا التي تملك الكلمة السياسية الأكبر في حل الأزمة السورية، عبر القبول “بالشيشنة” لكن مع الحرص على جعل أمراء المناطق المقربين من روسيا مقربين منها أيضًا، ومع الحرص على إبقاء مناطق نفوذها الحيوية كدمشق، والحدود العراقية السورية، والحدود اللبنانية السورية، وبعض مناطق الساحل في يدها.
وفي هذا الإطار، لا يرتكس المشروع الإيراني، إلا من خلال موقف حازم للولايات المتحدة حيال نفوذها، ولكن هل يمكن لمن سلم العراق إليها على طبقٍ من ذهب، أن يحول دون تدشينها لنفوذها المنشود في سوريا؟
الأيلولة القبرصية
يُقتبس هذا المفهوم من السياسة التركية حيال جزيرة قبرص التي تضم في كنفها مواطنين روم وأتراك، تبلور هذا المفهوم من خلال عقد كل من بريطانيا وتركيا واليونان اتفاقية لندن التي منحت كل منهم حق الضمانة العسكرية للسلام في الجزيرة عام 1959.
بناءً على هذه الاتفاقية، حُددت مناطق السيطرة، عُرفًا، على نحو أن مكان وجود المواطنين الأتراك يتبع للضمانة التركية، والمواطنين الروم للضمانة اليونانية، وبريطانيا تضمن الطرفين عبر الوقوف على الخط الأخضر الواصل بين منطقتي سيطرة الطرفين.
في عام 1961، بدأت القومية الرومانية التي كان لها سيطرة سياسية وأمنية أوسع على الجزيرة، بمهاجمة المواطنين الأتراك، وواصلت تركيا استنكارها لهذه الهجمات حتى عام 1974، حيث تدخلت عسكريًا وفقًا لاتفاقية الضمانة العسكرية، وطبقًا لمبدأ “بلغ السيل الزبى”.
منذ عام 1974 وإلى يومنا هذا، وتركيا تسيطر على البقعة الجغرافية التي يوجد بها المواطنون الأتراك، وعلى الرغم من إعلان قبرص الشمالية التركية كدولة مستقلة عام 1984، فإن لا أحد من الدول اعترف باستقلالها سوى تركيا.
وانطلاقًا من هذا الطرح، نرى أن الأيلولة القبرصية تعني أن يكون هناك تقسيمًا جغرافيًا عسكريًا للمنطقة الواحدة، حيث تُقسم هذه المناطق على الدول ذات الفاعلية، لكن تبقى هذا المنطقة على صعيد السياسة الدولية معترف بها كوحدة واحدة.
تشابه الأيلولة القبرصية الأيلولة الإسبانية التي تعني حرب الوراثة الإسبانية التي اندلعت عام 1701، واستمرار حتى 1714، بين فرنسا والنمسا وإنجلترا وروسيا على وراثة الملك تشارلز الثاني الذي كان يُمثل آخر ملوك إسبانيا من سلالة الهابسبورغ
وفي سياق ذلك، قد تشارك المناطق المُقسمة في السلطة المركزية، كمشاركة المواطنين الأتراك القبارصة في السلطة حتى عام 1974، وقد لا تشارك مع بقاء وجود الارتباط السياسي بين مواطنين هذه الدولة هزيلة السيطرة قائمًا، كحال قبرص الجنوبية والشمالية في وقتنا الحالي، وهنا يتحرك المواطنون المنقسمون جغرافيًا داخل بلادهم، لكن لا يعيشون تحت سيطرة مركزية أو فيدرالية رسمية، بل تحت سيطرة فعلية للدول الفاعلة.
وتشابه الأيلولة القبرصية الأيلولة الإسبانية التي تعني حرب الوراثة الإسبانية التي اندلعت عام 1701، واستمرار حتى 1714، بين فرنسا والنمسا وإنجلترا وروسيا على وراثة الملك تشارلز الثاني الذي كان يُمثل آخر ملوك إسبانيا من سلالة الهابسبورغ.
لقد تنازعت الدول الأوروبية المذكورة على العرش الإسباني، لأنها كانت تعلم أن سيطرة دولة واحدة سيغير موازين القوة الأوروبية، وانتهت الحرب التي استمرت طويلًا باتفاقية “راشتات” عام 1714، بتقسيم إسبانيا وممتلكاتها بين المتنازعين، حفاظًا على موازين القوى الأوروبية حسبما ينقل مروان قبلان في مقاله الأيلولة السورية.
وربما ينتهي المصير السوري بدولة واحدة مستقلة، ومحايدة في علاقتها بالقوى المتنافسة التي ستتقاسمها جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.
لقد رسخت تركيا بعملية “درع الفرات”، وتحديد مناطق نفوذها إلى جانب مناطق نفوذ روسيا وإيران على الساحل ومحيط دمشق، ومناطق نفوذ الولايات المتحدة في الشمال السوري، الأيلولة القبرصية المُجزئة لسوريا، وفي إطار ذلك، تبقى منطقة الشرق السوري المحطة الجديدة لهذا التقاسم.
وفي الحقيقة، لا نرى لهذا السيناريو عائقًا سوى الاعتراض الروسي الإيراني على تقسيم سوريا لمقاطعات جغرافية، لكن هل تستطيع هاتان الدولتان إقناع تركيا بعملية حل سياسي يحقق الشيشنة أو العرقنة، وهل تستطيع التخلص من النفوذ الأمريكي في الشمال السوري والنفوذ البريطاني في جنوب شرقي سوريا؟
الكونفيدرالية
الاختلاف الأساسي بين الكونفيدرالية والفيدرالية يكمن في وجود دول مستقلة إداريًا داخليًا وسياسيًا خارجيًا في النموذج الكونفيدرالي الذي يسمح للدول الموجودة في إطاره اتخاذ قرارات مستقلة، ولكن في حين كان هناك قرارًا مشتركًا يتم التنسيق بين دوله، أما الفيدرالية فيكون هناك سلطة مركزية تتخذ القرارات الحساسة، إلا أن الحكومة المركزية تتقاسم، دستوريًا، إدارة الأقاليم مع الوحدات المحلية التي لا تستطيع إبرام اتفاقيات خارجية منفصلة عن تقدير الحكومة المركزية.
يمكن اعتبار هذه السيناريوهات الأكثر اتضاحًا عن مستقبل سوريا، وبالنظر إلى التحركات الجارية في سوريا، نستطيع القول إن سيناريو “الأيلولة القبرصية” الأكثر رجحانًا، حيث يصبح لكل طرف فاعل في الأزمة (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا)، مناطق نفوذ جغرافية معروفة تحفظ توازن القوى بينها
تتحلى دول الاتحاد الكونفيدرالي بسيادة كاملة، وعادةً يتم اتخاذ قرارات مشتركة في مجالات الدفاع والشؤون الخارجية، وقد يتم تحديد سلطة مركزية تأخذ موافقة جميع دول الاتحاد، ويبدو أن الولايات المتحدة قد تحاول بناء هذا الاتحاد لعدة عوامل، لكن أهمها يكمن في رغبتها في تثبيت نفوذها في شمال سوريا، وتدعيمه عبر اتحاد كونفيدرالي معترف دوليًا بدوله، لا سيما الدولة الكردية التي إن استقلت، ستمنح الولايات المتحدة النفوذ الجيو ـ سياسي والعسكري الوثيق الذي يوازن النفوذ الروسي والصيني والإيراني في سوريا المجاورة لـ”إسرائيل”، ومن سيمنع الولايات المتحدة عن القيام بذلك؟
في الختام، يمكن اعتبار هذه السيناريوهات الأكثر اتضاحًا عن مستقبل سوريا، وبالنظر إلى التحركات الجارية في سوريا، نستطيع القول إن سيناريو “الأيلولة القبرصية” الأكثر رجحانًا، حيث يصبح لكل طرف فاعل في الأزمة (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا)، مناطق نفوذ جغرافية معروفة تحفظ توازن القوى بينها.
إلى جانب ذلك، يبدو، استنادًا إلى التحركات السياسية والميدانية الجارية، أن سيناريو “الشيشنة” مع بعض من ملامح سيناريو “اللبننة” هما الأكثر رجحانًا للتنفيذ في مناطق سيطرة النظام الآخذة في الاتساع جنوبًا وشرقًا، على أن تحوّل الولايات المتحدة، في حين أرادت الحفاظ على نفوذها “الأيلولة الكردية” إلى دولة مستقلة فيدرالية أو كونفيدرالية تحددها الحاجة.
وقد تبقى سوريا على هذه التجزئة إلى أن يحقق الشعب السوري وحدته الوطنية الحقيقية، ومن ثم يدخل مرحلة الصراع السياسي وسلبياتها بشكلٍ حقيقي، إلى أن يصل إلى مرحلة الاتفاق الوطني التي يبدو أنها ستحتاج إلى وقتٍ طويل.