دخلت حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة يومها الـ 58 وسط تكثيف همجي لعمليات القصف التي تستهدف المدنيين، مما أسفر عن استشهاد قرابة 16 ألف شخص، أكثر من 70% منهم أطفال ونساء، فضلًا عن إخراج عشرات المناطق عن الخدمة بعدما باتت غير قابلة للحياة.
منذ اليوم الأول لتلك الحرب التي جاءت انتقامًا من عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وضع الاحتلال عدة أهداف رئيسية من وراء عملياته العسكرية والتغول البري في القطاع، على رأسها: القضاء على حركة المقاومة حماس وتدمير بنيتها التحتية بجانب تحرير الأسرى والمحتجزين والبالغ عددهم أكثر من 240 شخصًا (قبل الإفراج عن قرابة 110 إثر اتفاق الهدنة الأخير).
https://twitter.com/BelalNezar/status/1730951686921891953
وبعد شهرين من الحرب التي خاضتها قوات الاحتلال مدعومة بمساعدات عسكرية ولوجستية من جيوش الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وتوفير غطاء سياسي لها من تلك القوى، لم تنجح في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنت عنها بداية المعركة، ما وضع الكابينت وجنرالات الكيان في مأزق أمام الشارع الإسرائيلي وحلفاءهم في الخارج.
وأمام هذا الفشل لم يجد جيش الاحتلال سوى الاستئساد على الأطفال والنساء وكبار السن من المدنيين، وهو الخيار السهل في الغالب أمام المهزوم، وذلك عبر اتباع سياسة الأرض المحروقة، مدمرًا بطائراته وبوارجه ودباباته الأخضر والياس، الحجر والشجر، محولًا قطاع غزة إلى مدينة أشباح.. فما هي مقارباته من ذلك؟
سياسة الأرض المحروقة
على مدار الخمسين يومًا الماضية مارس جيش الاحتلال كل أنواع التدمير والتنكيل، مستخدمًا ما لديه من إمكانيات عسكرية متطورة، وما قدمه الحلفاء الغربيون من أسلحة ذات قوة تدميرية هائلة، حيث بلغ حجم المتفجرات التي قصف بها قطاع غزة ما يعادل قنبلتين نوويتين وفق التقديرات غير الرسمية لوكالة “رويترز” استنادًا إلى صور أقمار صناعية التقطتها للقطاع بعد التدمير.
وأسقط هذا القصف قرابة 3 % من سكان قطاع غزة بين شهداء وجرحى ومفقودين، فيما اضطر نحو 80% من السكان للنزوح من مناطقهم هربًا من الهجمات التي لا تتوقف ليل نهار، فيما لم يعد هناك مكان آمن في غزة بأكملها بحسب التقارير الرسمية وغير الرسمية وشهود العيان.
كما أسفرت الهجمات البربرية عن تدمير 60% من المباني، حيث تعرضت نحو 46 ألف وحدة سكنية لتدمير شامل، مقارنة بـ 234 ألف وحدة تعرضت لهدم جزئي، فيما جرى تدمير 103 مقار حكومي بشكل شبه كامل، وخرجت عن الخدمة بالكلية.
المستشفيات والمدارس ودور العبادة لم تسلم هي الأخرى من قصف الاحتلال، حيث استهدفت قرابة 226 مدرسة تعرضت لأضرار بالغة، وأخرجت نحو 26 مستشفى و55 مركزًا صحيًا عن الخدمة، وفي الوقت ذاته دمرت 3 كنائس تدميرًا كليًا وعشرات المساجد.
الجيش الإسرائيلي يطبق سياسة الأرض المحروقة في #غزة.. تدمير لمناطق الشمال وتوعد بشن حرب في مناطق الجنوب@AhDarawsha pic.twitter.com/rSeVrJO0z3
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) December 2, 2023
وتحولت معظم مناطق ومدن شمال القطاع إلى مناطق طاردة للسكان وغير قابلة للحياة، بعدما دُمرت بنيتها التحتية، وفقدت مقومات العيش بالكلية، في ظل خطة ممنهجة لدفع السكان لمغادرة منازلهم والتوجه إلى مربعات أخرى بدعوى أنها آمنة، وما أن يحتموا بها حتى يتم استهدافها هي الأخرى مما يُضطرون للمغادرة والذهاب لمربع أخر، وهكذا يواصل الاحتلال استراتيجية تفريغ القطاع من سكانه عبر سياسة “المربعات”.
سياسة المربعات تظهر جلية في خرائط الإخلاء التي نشرها جيش الاحتلال لمختلف مناطق قطاع غزة
حتى ورقة الضغط التي تمتلكها المقاومة، وهي الأسرى، وبعد فشل الكيان المحتل في تحريرهم بالقوة والقتال، تراجع هذا الملف لدى قائمة أولوياته، وبات لا يمانع في قتلهم جميعًا حتى لا يكونوا أداة ضغط بيد المقاومة، ولولا الضغوط التي تمارسها عائلات الأسرى بجانب الإدارة الأمريكية بشأن هذا الملف، لما كان له أهمية بالنسبة لنتنياهو وجنرالاته استنادًا إلى بروتوكول “هانيبال” الذي أقره الاحتلال عام 1985 وكُشف عنه لأول مرة عام 2001، ويقر بأن “عملية الخطف يجب أن تتوقف بكل الوسائل، حتى لو كان ذلك على حساب ضرب قواتنا وإلحاق الأذى بها”، وعليه فإن الجندي الميت أفضل من الجندي الأسير، وفق هذا البروتوكول، حتى لا يتحول إلى ورقة ضغط بأيدي المقاومة.
أهداف الاحتلال البديلة
يهدف الاحتلال من وراء سياسة الأرض المحروقة التي يمارسها ضد قطاع غزة طيلة الخمسين يومًا الماضية إلى تحقيق حزمة أهداف بديلة بعدما فشل في تحقيق أهدافه الرئيسية الأولية:
أولا: البحث عن انتصار وهمي.. يحاول الاحتلال من خلال صور التدمير الوحشية وأرقام الضحايا المرتفعة أن يصدر للداخل الإسرائيلي نصرًا وهميًا يداري به فشله في تحقيق أهدافه العسكرية التي لأجلها شنً عمليته البرية، حتى لو كان جل تلك الأرقام من النساء والأطفال والعجزة.
لا يجد المحتل أي حرج على الإطلاق في التفاخر بتلك الخسائر البشرية في صفوف المدنيين الفلسطينيين، في ظل دعم دولي مطلق، وصمت فاضح لحلفاءه من قوى الغرب، ممن لا تحركهم صور أشلاء الأطفال والنساء التي تتناثر هنا وهناك، ولا تؤلمهم صرخات الثكالي والأمهات، ولا تلفت أنظاره جحافل النازحين من الشمال للجنوب بعدما خسروا كل شيئ.
ثانيًا: الضغط على حماس.. تحاول حكومة الكابينت ممارسة الضغط على حماس من خلال رفع فاتورة الحرب البشرية وارتفاع أرقام الضحايا في صفوف الفلسطينيين، بما قد يدفع المقاومة إلى تقديم بعض التنازلات لوقف شلالات الدماء التي تثار.
#عاجل | خبراء إسرائيليون للإذاعة الإسرائيلية: حماس ما تزال بعيدة عن الانكسار ومستعدة لمواصلة القتال لفترة طويلة#حرب_غزة pic.twitter.com/T97cCXXrDi
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 3, 2023
ثالثًا: زرع الفتنة بين المقاومة وسكان القطاع.. يرتكز الخطاب الإعلامي الإسرائيلي والمنشورات التي يلقيها المحتل على أهالي غزة على تحميل المقاومة مسؤولية الحرب وأنها السبب فيما وصلت إليه أوضاع الغزيين، وأنها المسؤول الأول والأخير عن تشريد الملايين وقتل الأطفال والنساء، ولولاها ما كانت الأمور كالتي عليه، في محاولة لزرع الفتنة بين حماس وأهل القطاع وإفقادها ظهيرها الشعبي.
رابعًا: تعزيز الرؤية الإسرائيلية فيما يتعلق بالوضع السياسي في غزة بعد الحرب.. يهدف الكيان المحتل من خلال التدمير الكلي للقطاع لفرض معادلة جديدة على طاولة النقاش لبحث مستقبل القطاع ما بعد انتهاء الحرب، تلك المعادلة التي قد تلقى تناغمًا لدى بعض الأنظمة العربية بما فيها السلطة الفلسطينية ذاتها.
وتقوم تلك المعادلة على قبول حماس بدخول شركاء جدد لإدارة وحكم القطاع، شركاء يتم إعدادهم داخل المطبخ الأمريكي الإسرائيلي، بما يمهد نحو التفكيك الطوعي للمقاومة وخروجها عن المشهد شيئًا فشيئًا.
#عاجل تمهيدًا للمراحل المقبلة من الحرب ينشر جيش الدفاع خريطة مناطق الاخلاء ("البلوكات") في قطاع غزة: تقسيم أرض القطاع على مناطق حسب التقسيم على الأحياء المعروفة من أجل السماح لسكان غزة بالتوجه وفهم التعليمات والانتقال من أماكن معيّنة في حال طلب منهم القيام بذلك حفاظًا على… pic.twitter.com/HsziUyrU2v
— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) December 1, 2023
ومن جانب آخر، فإن تدمير القطاع بهذا الشكل، سيجبر أي سلطة مهما كانت، على التركيز أولًا وأخيرًا على مسالة إعادة التعمير التي ستصبح ضرورة ملحة، فيما يتراجع التفكير مرحليًا عن الإعداد العسكري والتسليح وفرض فصائل المقاومة لسلطتها وإصابتها بحالة من التشتت بين الإعمار والتسليح، هذا بخلاف هيمنة وسيطرة الاحتلال على ميزانية إعادة الإعمار، حيث يمنحها لجهات يثق في ولائها لهذا المشروع، وعدائها الأيديولوجي لحماس وبقية الفصائل، وهو ما يضع الأخير في مأزق حقيقي أمام مسؤولياته في القطاع.
غير أن كل تلك الأهداف تظل رهينة صمود المقاومة على الأرض، إذ أن استمرارها في التصدي والمواجهة بما لذلك من تداعيات على مستوى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وإرباك حسابات النخبة بشقيها، العسكرية والسياسية، في تل أبيب، تزامنا مع زخم الرأي العالم العالمي، كل ذلك من شأنه إفشال هذا المخطط لاسيما وأن الانتخابات الأمريكية على الأبواب ويخشى بايدن من الارتدادات السلبية لتلك الحرب -حال استمرارها- على حظوظه في الفوز بولاية جديدة في ضوء تصاعد الاحتقان والغضب الأمريكي والدولي بسبب دعمه المطلق لحكومة الاحتلال.