هل تساءلت يومًا ما هي معايير الرقابة في وسائل التواصل الاجتماعي؟ كيف يتم حذف المنشورات أو تقليل ظهورها؟ في العادة تتم مراقبة المحتوى من خلال خورازمية كل منصة وطريقة برمجتها بمراقبة كلمات معينة أو محتوى معيّن، أو من خلال الرقابة البشرية، ويتم ذلك بالطبع عن طريق موظفي تلك المنصات، أو عن طريق خبراء يعملون مع تلك المنصات.
يفترض أن يكون هؤلاء الخبراء محترفين ومحايدين، بحيث تتم رقابة المحتوى بموضوعية بعيدًا عن سيطرة الدولة وأجهزتها وأجندتها، وقد تبدو الاستراتيجية ناجحة، إلا أنها تعرضت للاختراق بدورها.
تظهر وثائق سابقة والمعروفة بـ”وثائق تويتر”، كيف أن وكالة الأمن القومي الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية قد جنّدت عناصر في المنصة، لمحاربة محتوى بعينه من خلال حذفه أو تقليل ظهوره، فضلًا عن حذف حسابات بأكملها أو تقليل وصولها على المنصة.
في فضيحة جديدة، أظهرت ملفات تعرَف بـ CTIL كيف أن وكالة الأمن القومي جنّدت هذه المرة فريقًا يقوم بمراقبة شاملة على المحتوى، لكن تحت إطار مكافحة المحتوى المضلل.
CTIL هي اختصار لـ Cyber Threat Intelligence League، أي “رابطة مكافحة التهديدات السيبرانية”، وهي مجموعة من المتطوعين وخبراء الأمن السيبراني، الذين ظهروا للعيان كمتطوعين في مكافحة الأخبار المضللة خلال جائحة كورونا، لمكافحة الأخبار الخاطئة والحملات المضادة للقاح وغيرها.
لاحقًا، توسّع عمل الفريق ليشمل محتوى سياسيًّا واجتماعيًّا يتناول كمية كبيرة من البيانات، ثم اتضح أن هذه المجموعة لها صلات حكومية بوكالة الأمن القومي الأمريكي والأجهزة الاستخباراتية البريطانية، ولعبت دورًا كبيرًا خلال فترة باراك أوباما وجو بايدن، إضافة إلى ملف البريكست في بريطانيا.
وتم فضح كل هذا من خلال وثائق نشرها الصحفي مايكل شيلنبرغر، بعدما حصل عليها من أحد مسرّبي البيانات في الداخل.
المجمع الصناعي للرقابة
حفاظًا على حرية التعبير، يمنع الدستور الأمريكي الذي كتبه الآباء المؤسِّسون، الوكالات الحكومية من فرض الرقابة على الناس أو حجب آرائهم، وهكذا فإن القانون في الولايات المتحدة يمنع الأجهزة الاستخباراتية من حذف الآراء بمختلف أماكن نشرها، سواء في الصحافة أو وسائل التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة تعبير أخرى.
كشفت الوثائق التي نشرها شيلنبرغر، أنه في عام 2019 قام متعاقدون من القطاع الخاص مع الجيش والاستخبارات الأمريكية والبريطانية -وهو ما يطلق عليه اصطلاحًا المجمع الصناعي للرقابة- بقيادة باحثة الدفاع البريطانية السابقة، سارة جاين تيرب، بتطوير إطار جديد للرقابة الشاملة.
في ربيع عام 2020، بدأت CTIL في تتبُّع المحتوى “غير المرغوب فيه” على وسائل التواصل الاجتماعي والإبلاغ عنه
يتم ذلك من خلال الرقابة غير المباشرة، عن طريق مجموعات ثانوية غير رسمية من المتطوعين، وقد شارك هؤلاء المقاولون في قيادة CTIL التي دخلت في شراكة مع وكالة الأمن القومي الأمريكي في ربيع عام 2020.
في الحقيقة، بدأ بناء المجمع الصناعي للرقابة حتى قبل ذلك، في عام 2018، وتُظهر رسائل CTIL الداخلية تيرب وزملاءها ومسؤولين من وزارة الأمن الداخلي وفيسبوك، وهم جميعهم يعملون معًا بشكل وثيق في عملية الرقابة.
تبيّن لاحقًا أن هذا التنسيق كان مجرد بذور لما ستطبّقه كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في عامَي 2020 و2021، بما في ذلك إخفاء الرقابة داخل مؤسسات الأمن السيبراني وأجندات مكافحة التضليل، والتركيز الشديد على وقف الروايات غير المرغوب فيها، وليس فقط الحقائق الخاطئة، والضغط على منصات التواصل الاجتماعي لإزالة المعلومات، أو اتخاذ إجراءات أخرى لمنع انتشار المحتوى على نطاق واسع.
تضم البيئة الداخلية لفريق CTIL مسؤول المخابرات الإسرائيلية السابق أوهاد زيدنبرغ
في ربيع عام 2020، بدأت CTIL في تتبُّع المحتوى “غير المرغوب فيه” على وسائل التواصل الاجتماعي والإبلاغ عنه، مثل الروايات المناهضة للإغلاق خلال الجائحة، مثل حملة “جميع الوظائف ضرورية” و”لن نبقى في المنزل” و”افتحوا أمريكا الآن”.
أنشأت CTIL قناة لإنفاذ القانون للإبلاغ عن المحتوى كجزء من هذه الجهود، وأجرت المنظمة أيضًا بحثًا عن الأفراد الذين ينشرون علامات التصنيف المناهضة للإغلاق، واحتفظوا بجدول بيانات يحتوي على تفاصيل من السيرة الذاتية الخاصة بهم على تويتر، وناقشت المجموعة أيضًا طلب “عمليات الإزالة” والإبلاغ عن نطاقات مواقع الويب للمسجلين.
تكشف البيانات أيضًا أن نهج CTIL تجاه “التضليل” هو أبعد من الرقابة، وتُظهر الوثائق أن المجموعة انخرطت في عمليات هجومية للتأثير على الرأي العام، ومناقشة طرق الترويج لـ”الرسائل المضادة”، واستغلال الوسوم، وتمييع الرسائل غير المرغوب فيها، وإنشاء حسابات جورب (عدة حسابات وهمية يديرها شخص واحد)، والتسلل إلى مجموعات خاصة يتم الدخول إليها من خلال دعوة خاصة من المشرفين.
من الدفاع إلى الهجوم
يشير أحد المبلغين عن الوثائق إلى أن بين 12 و20 شخصًا من الفريق ومديرته كانوا على صلة وثيقة بوكالة الأمن القومي الأمريكي، وأن برنامج توزيع المهام سلاك (Slack) كان يضم أحيانًا حسابات تابعة لوكالة الأمن القومي، كما أن مديرة الفريق، سارة تيرب، جملت في وقت ما بطاقة تعريف خاصة بالوكالة، ما يبيّن مدى التنسيق الكبير بين الفريق والوكالة.
إضافة إلى ذلك، كان لتيرب وبابلو بروير، وهو زعيم آخر في CTIL، ومسؤول المخابرات الإسرائيلية السابق أوهاد زيدنبرغ، تعاملات ذات خلفية عسكرية، وقد عملوا معًا في مشروع سوفويركس (SOFWERX)، وهو “مشروع تعاوني لقيادة القوات الخاصة الأمريكية ومعهد دوليتل”، ويقوم الأخير بنقل تكنولوجيا القوات الجوية، من خلال مختبر موارد القوات الجوية، إلى القطاع الخاص.
تمضي الملفات بالكشف عن البيئة الداخلية للفريق واجتماعاته والتقارير التي يقدمها، وكيف أن عناصر عسكرية من القوات الخاصة كانت تشارك فيه.
يُظهر أحد التقارير التي قدمتها مجموعة Misinfosec، وهي مجموعة تابعة للمجمع الصناعي للرقابة، دعوة صريحة إلى فرض رقابة حكومية شاملة ومكافحة ما أسمته المعلومات المضللة، ويقول المؤلفون إنهم خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2019، قاموا بتحليل مجموعة من “الحوادث” وطريقة تغطيتها في الإعلام ووسائل التواصل، ووضعوا نظامًا للإبلاغ عنها، وشاركوا رؤيتهم الرقابية مع “العديد من الدول والمعاهدات والمنظمات غير الحكومية”.
كان الغريب أن العامل المشترك لكل الحوادث، أن ضحاياها كانوا من اليسار السياسي، وكان من بينهم باراك أوباما وجون بودستا وهيلاري كلينتون وإيمانويل ماكرون، وكان التقرير منفتحًا بشأن حقيقة أن دافعه لمكافحة المعلومات المضللة كان الزلزالَين السياسيَّين المزدوجَين في عام 2016: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب.
كتبت تيرب والمؤلفون المشاركون معها في التقرير ما نصّه: “إن دراسة سوابق هذه الأحداث تقودنا إلى إدراك أن هناك شيئًا ما غير طبيعي في مشهد المعلومات لدينا، فهناك تأثير كبير للكتّاب وعملاء الطابور الخامس الذين استفادوا جدًّا من التكنولوجيا الحديثة والبوتات، حيث تسبُّبوا بشكل كبير في في هندسة الرأي العام وإثارة الغضب وزرع الشك وتقويض الثقة في مؤسساتنا، والآن أدمغتنا هي التي يتم اختراقها”.
أحد أنشطة فريق CTIL كان ترميز معلومات معينة على أنها معلومات مضللة وخاطئة، دون أن تكون بالضرورة كذلك.
ركّز تقرير Misinfosec على المعلومات التي “تغير المعتقدات” من خلال “روايات الأحداث وتغطيتها”، وأوصى بطريقة لمواجهة المعلومات الخاطئة في الرواية أو جزء من الرواية، كي تفقد مصداقيتها.
وفي إحدى فقراته، والتي يعتبرها الصحفي شيلنبرغر هي الأخطر، يعرب التقرير عن أسفه لأن الحكومات ووسائل الإعلام الخاصة بالشركات لم تعد تتمتّع بالسيطرة الكاملة على المعلومات: “لفترة طويلة، كانت القدرة على الوصول إلى الجماهير مملوكة للدولة (على سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية عبر ترخيص البث من خلال قنوات ABC وCBS وNBC)”.
ومع ذلك، سُمح الآن بأن تنتقل السيطرة على الأدوات المعلوماتية إلى شركات التكنولوجيا الكبرى، التي كانت متواطئة في تسهيل وصول مشغّلي المعلومات إلى الجمهور بجزء بسيط ممّا كان سيكلفهم في وسائل أخرى، ودعا المؤلفون إلى مشاركة الشرطة والجيش والاستخبارات في الرقابة في دول “العيون الخمسة” (أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزلندا)، بل اقترحوا مشاركة الإنتربول أيضًا.
يكشف التقرير أمرًا خطيرًا آخر، حيث تقول تيرب إن المعلومات التي يكافحها الفريق ليست خاطئة بالضرورة، إنما هي معلومات صحيحة موضوعة في إطار خاطئ، وهو ما يعني نيّة الفريق التأثير على الرأي العام وفق طريقة معينة برؤية معينة تخدم هدفًا معينًا، وليس مكافحة معلومات خاطئة تسبّب الضرر للجمهور.
يُظهر أحد أنشطة فريق CTIL كيفية إنهاء الحملات المناهضة لحظر التجوال والإغلاق خلال فترة الجائحة، حيث كان ببساطة يقوم بترميز تلك المعلومات على أنها معلومات مضللة وخاطئة، دون أن تكون بالضرورة كذلك.
كما أنه أيّد مجموعة من المعلومات ليتمَّ نشرها بطريقة أوسع من غيرها، مثل بعض المخاوف حول الفيروس أو موضوع ارتداء الكمامة، وتقول الملفات أن الفريق كان دائمًا يتداول مقولة: “التكرار يصنع الحقيقة”.
لا تظهر الوثائق مزيدًا من المعلومات حول المحتوى الرقمي الذي تمّت معالجته في ملفات أخرى، مثل جرائم الكراهية أو معاداة السامية أو الإسلاموفوبيا، لكن تحقيقات في الكونغرس مع مجموعة من قادة هذا الفريق، تحقق في الآليات المتبعة في الملفات الأخرى، خاصة أنه من المرجّح أن هذه المجموعة لعبت دورًا خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، في ظل حظر شامل على كثير من المعلومات والمنشورات في فيسبوك وإكس (تويتر سابقًا)، والسماح بعرض أخرى رغم أنها تخضع لنفس معايير المنع والتحريض.