مع دخول الـ800 يوم ونيف لعاصفة الحزم التي تقودها المملكة العربية السعودية لإعادة الرئيس هادي إلى اليمن، لم تستطع الرياض حلحلة الأزمة اليمنية سياسيًا أو عسكريًا، نتيجة لتعدد الأهداف المختلفة لبعض أعضاء التحالف في هذه الحملة، والفشل العسكري المتواصل في عدد من الجبهات، إضافة إلى الضغط الروسي على المملكة العربية السعودية بعدم فتح جبهة جديدة في محافظة الحديدة لأن النتيجة ستكون كارثة أمنية واقتصادية وإنسانية بحتة.
حجة الروس ووقوفهم بقوة ضد فتح التحالف جبهة جديدة في الحديدة، أن المدينة ستلحق بمحافظات يقول التحالف العربي إنه حررها كالمحافظات الجنوبية التي استولت عليها جهات انفصالية تابعة للإمارات وإيران، وأخرى جماعات جهادية تمولها الرياض، ويبدو أن حجة الروس قوية وتخوفهم منطقي، كون أن السواحل اليمنية شرقها وغربها وجنوبها مع قيادات جهادية وجماعات لا تؤمن إلا بالخلافة، من شأنه تهديد أمن الملاحة الإقليمية بشكل عام، والمصالح الغربية في المنطقة بشكل خاص، ولهذا لا يمكن لروسيا وبعض الدول الإقليمية أن تجازف بذلك عدا الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبح رئيسها دمية بيد الرياض لأول مرة في التاريخ.
استطاعت المملكة العربية السعودية السيطرة على “القرار الأمريكي” لأول مرة منذ تأسيس أمريكا في 4 من يوليو 1776، نتيجة شغف ترامب بالمال الخليجي، وعدم جديته في محاربة الإرهاب وإنهاء أزمات الشرق الأوسط، وبالتالي لم تعد أمريكا عقبة أو مخيفة للأسرة الحاكمة في الرياض لمد نفوذها في المنطقة العربية والعبث بأمنها واستقرارها، لكنها تخشى فقط الروس الذين بدأوا بتمديد نفوذهم في منطقة الشرق الأوسط إما دبلوماسيًا أو عسكريًا أو بالتأثير على بعض القادة في المنطقة، ولهذا لجأت الرياض إلى دغدغة مشاعر الروس ماليًا علها تظفر بالرضى الروسي وصمته وليكون مساعدة لأن يلتهم آل سعود المنطقة.
بدأت الرياض تتحرك على مستوى رفيع نحو روسيا، لذا جاءت زيارة محمد بن سلمان في بداية يوليو الحاليّ إلى موسكو تحت هذا لإطار، لكن يبدو أنها أمام جدار صعب اختراقه بالمال.
بعد زيارة محمد بن سلمان، قالت وسائل إعلام تدعمها الرياض، إن الأخيرة توصلت مع موسكو لتفاهمات مهمة عن الأحداث في سوريا وإيران واليمن، وهو إعلان لا يبدو منطقيًا على الأقل في الوقت الحالي.
روسيا جاءت بعد فشل السعودية في استخدام طاقاتها المالية والاقتصادية للضغط على موسكو للقبول بالتسوية السورية وفقًا لأجندة المملكة، وتصاعد الرفض الروسي في السماح للرياض بمضاعفة الأزمة الاقتصادية والإنسانية في اليمن
ولو بالفعل حدث هناك تفاهمات، لكانت الرياض زحفت نحو العاصمة اليمنية صنعاء بكل ثقلها العسكري عبر ميناء الحديدة، وصعدت من موقفها ضد إيران، وأمرت ترامب بغزو سوريا، إلا أن ذلك الإعلان يبدو في خانة الحرب النفسية.
زيارة محمد بن سلمان إلى روسيا جاءت بعد فشل السعودية في استخدام طاقاتها المالية والاقتصادية للضغط على موسكو للقبول بالتسوية السورية وفقًا لأجندة المملكة، وتصاعد الرفض الروسي في السماح للرياض بمضاعفة الأزمة الاقتصادية والإنسانية في اليمن، ولهذا جاء التحرك السعودي على أعلى المستويات، يتبعه تحرك الحكومة المنفية في الرياض لإقناع الروس بالسماح للتحالف باقتحام الحديدة.
ولذا جاء استقبال الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للسفير الروسي لدى اليمن فلاديمير ديدوشكن في الرياض تحت هذا البند، لكن وفقًا لمصادر حضرت الاجتماع، فإن السفير الروسي أبلغ هادي بأن بلاده لا يمكن أن تقبل بأزمة إنسانية جديدة في اليمن، وعلى الرئيس اليمني الدفع بعملية السلام.
هادي يلتقي بسفير روسيا لدى اليمن
وكان رد الرئيس اليمني على حديث ديدوشكن بأن عملية السلام متوقفة على استسلام الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح وفقًا لمرجعيات القرار الأممي 2216 ومبادرة مجلس التعاون الخليجي ومخرجات الحوار اليمني، وهي شروط لا يمكن أن تحل الأزمة في اليمن عسكريًا أو سياسيًا، والجولات السابقة من محاولة المبعوث الأممي إلى اليمن تكشف أنه لا يمكن أن يكون هناك تسوية سياسية في اليمن إلا بضغوط دولية على الحكومة اليمنية للقبول بتقديم تنازلات لا سيما أن الرئيس هادي فترته الانتقالية انتهت في 2014 وفقًا للاتفاقية التي وقعت عليها أطياف الصراع اليمني في 2012.
لماذا تعارض روسيا اقتحام ميناء الحديدة؟
قبل الخوض في تفاصيل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن الرياض لديها أهداف استراتيجية وأمنية لاقتحام ميناء الحديدة، وهي متحمسة أكثر من القوات الإماراتية التي تتسابق على الجزر اليمنية المطلة على البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب، بهدف استراتيجي بعيد المدى، غير أن السعودية تسعى للسيطرة على الحديدة لأسباب عدة منها:
السبب الأول.. ميناء الحديدة يستقبل 70% من واردات البلاد من الغذاء والدواء والوقود، إضافة إلى أن العائدات الجمركية من الميناء يستغلها الحوثيون في تمويل عملياتهم الحربية وفقًا لاتهامات القوات الحكومية والتحالف العربي، والسيطرة عليه يقطع أهم مورد اقتصادي على الحوثيين، إضافة إلى خنق اليمنيين أكثر وحصارهم، على أمل الانتفاضة ضد الحوثيين للمطالبة برواتبهم أو بقوت يومهم، لكن هذا قد يجعل غالبية اليمنيين الذين لا يجدون قوت يومهم لهم ولأولادهم يلجأون إلى التنظيمات الإرهابية التي ستستغل كثيرًا منهم لخدمة أهدافها وأجندتها مستقبلًا في البلاد.
ميناء الحديدة ومدينة الحديدة بشكل عام قريب جدًا من جازان السعودية ذات القبائل المتداخلة والمتقاربة والأنساب المختلطة
السبب الثاني.. ميناء الحديدة ومدينة الحديدة بشكل عام قريب جدًا من جازان السعودية ذات القبائل المتداخلة والمتقاربة والأنساب المختلطة، وهي تخشى أن سيطرة الحوثيين على الحديدة يساعدهم على نشر المذهب الزيدي أو الشيعي في محافظات الجنوب السعودية، وهو ما قد يهدد أمنها مستقبلًا، وتريد أن تسيطر على الحديدة لمنع تسريب مثل هذا إلى داخل أراضيها حتى لا يكون هناك ثغرة لتمدد المذاهب التي تعادي المذهب الوهابي.
السبب الثالث.. تريد المملكة العربية السعودية أن تكون مساهمة أيضًا في المراقبة على الممرات الدولية، وتفكر بمنافسة الإمارات العربية السعودية في بناء أساطيل عسكرية في عمق البحار، وتكون من الدول التي تتحكم بمصير الملاحة الدولية لأهداف بعيدة المدى.
ووفقًا لمصدر غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام حضر اجتماع هادي، فإن السفير الروسي، حث أيضًا الرئيس هادي على ضرورة تبني خطوات عملية وعاجلة لكسر الوضع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني والكارثي الذي يعانيه اليمن، وسرعة العودة إلى طاولة المفاوضات، وهو ما يعني دعوة صريحة للحكومة اليمنية بإعلان التنازل عن مطالبها الثابتة باستسلام كامل للحوثيين والرئيس اليمني السابق.
تفكر موسكو وطهران في دخول الأزمة اليمنية، لأن ذلك سيخفف الضغط الذي تعانيه من أطراف مدعومة خليجيًا في سوريا
وهذا ليس الموقف الروسي الأول، بل ما زالت روسيا تعارض أي اقتحام لمدينة الحديدة ومينائها الاستراتيجي، وقد وضعت ذلك خطًا أحمر أمام التحالف العربي، ويبدو أن لها خيارات عديدة في حال تجاوز التحالف العربي ذلك، بما في ذلك الورقة الإيرانية، وربما قد يكون سببًا في التدخل الروسي في اليمن، أو على الأقل دفع إيران لتوسع نفوذها.
ويبدو أن زيارة محمد بن سلمان إلى موسكو، وتبادل الحديث مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين عن سوريا وربطه باليمن، هو المقصود أو ما تتطلع إليه روسيا الاتحادية وحليفتها إيران، لتفعيل أوراقهما الضاغطة على أصدقاء سوريا ودول مجلس التعاون الخليجي، للخروج من الأزمة بنصرٍ مكتمل الأركان “عسكريًا وسياسًا”، وتكون روسيا وإيران قد حققتا أهم خطوة نحو التمدد في المنطقة العربية وتعاظم دورهما.
وتفكر موسكو وطهران في دخول الأزمة اليمنية، لأن ذلك سيخفف الضغط الذي تعانيه من أطراف مدعومة خليجيًا في سوريا، وستدفع إيران بروسيا إلى اليمن وإغرائها في جعلها البديل الأول لمحاربة الإرهاب بعد أن أصبحت أمريكا مجرد دمية سعودية، وكذا يعاني رئيسها من مشاكل داخلية قد تطيح به من الحكم، وبالتالي هي فرصة لفرض الهيمنة الروسية في منطقة الشرق الأوسط، وهذا لن يتحقق إلا بمصالح يبدو أن طهران تعرف صناعتها جيدًا في الوقت الحالي مستغلة التهور السعودي ونقاط ضعفهم.
الموقف الإماراتي من التحرك السعودي
بعد أن اشتعلت الأزمة الخليجية التي تقودها الإمارات غالبًا، تراجع دعمها بشكل مؤقت للجماعات الانفصالية في اليمن (أو ربما انشغلت عن ذلك)، ودعم الجهات التي تعرقل تقدم القوات الموالية للرئيس اليمني في محافظة تعز اليمنية، ولهذا كانت النتائج في المحافظة سريعة، فخلال الأزمة الخليجية تمكنت القوات الموالية لهادي والسعودية من السيطرة على مناطق مهمة في محافظة تعز.
ستفوق الإمارات من هذه الأزمة بخسارة في اليمن، وربما خسارة من محيطها الجغرافي نتيجة تحركاتها المشبوهة في المنطقة
لذا ستفوق الإمارات من هذه الأزمة بخسارة في اليمن، وربما خسارة من محيطها الجغرافي نتيجة تحركاتها المشبوهة في المنطقة، لكنها قد تتحرك بعد انتكاستها في تعز بخطوط متوازية.
أولاً: الإمارات العربية المتحدة لا تريد أن تكون المملكة العربية السعودية القوة المسيطرة في المنطقة أو الدولة المحورية، لهذا تعمل على الدفع برجلها الأول في المملكة محمد بن سلمان للاستيلاء على الحكم، وتعمل على تشكيل لوبي داخل الإدارة الأمريكية لدعمه وتعبيد الطريق أمامه، وبوصول ابن سلمان إلى العرش الملكي، سيكون من السهل السيطرة على القرار السعودي.
تعمل الإمارات على دعم الجماعات الجهادية في تعز لضرب القوات الموالية لهادي والسعودية وتمكنها من السيطرة على المحافظة، حتى لا تسمح للرياض بتنفيذ أجندتها في اليمن على حسابها
ثانيًا: قد تعمل الإمارات على دعم الجماعات الجهادية في تعز لضرب القوات الموالية لهادي والسعودية وتمكنها من السيطرة على المحافظة، حتى لا تسمح للرياض بتنفيذ أجندتها في اليمن على حسابها، على اعتبار أن أبو ظبي تخشى من سيطرة الإخوان المسلمين على محافظات استراتيجية يمنية، والقوات الموالية التي تقاتل مع الرئيس هادي في تعز، تتشكل بنحو 85% من الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح اليمني)، ولهذا لن ترضى الإمارات بالتقدم الأخير.
ثالثًا: إطالة الحرب في اليمن، يخدم الإمارات العربية المتحدة لتنفيذ أجندتها في بناء القواعد العسكرية والسيطرة على الجزر اليمنية، وسيطرة الرياض على الحديدة أمر يخالف أجندة أبو ظبي، ولهذا ستتحرك من خلف الكواليس لدعم الموقف الروسي بمنع الرياض من التقدم نحو ميناء الحديدة، لكنه يبقى تحت أعينها إلى حين استكمال السيطرة الكاملة على ميناء المخا الاستراتيجي.
الخلاصة
يتضح من التحركات السعودية والأفعال الإماراتية والمواقف الروسية، أن محافظة الحديدة ربما تكون نقطة لالتقاء المصالح، أو تنفيذ الأجندة في حال الهجوم عليها، فإذا هجمت المملكة العربية السعودية، فإن النتيجة ستكون عكسية، وربما ذلك يعقد المشهد اليمني، أو قد يغير المواقف الدولية نتيجة لما ستشهده البلاد من مآسٍ إنسانية واقتصادية، وليس من المستبعد أن تحرك روسيا إيران للتدخل في اليمن، أقلها لزعزعة المنطقة عبر أدواتها “الشيعة” سواء في الرياض أو البحرين أو العراق، وربما يكون ذلك هدف موسكو للانتقام من الرياض التي حاولت أن تعبث باقتصادها، وقبلها عملت على المساهمة في تفكيك الاتحاد السوفيتي.