عندما طرد الاحتلال الصهيوني آلاف الفلسطينيين من مدنهم وقراهم المحتلة عام 1948، تدفّق قسم منهم إلى غزة، وأصبح يعيش فيها فئتان من السكان، الأولى هم الذين عاشوا في غزة قبل حرب 1948 وظلوا فيها بعد الحرب، وقد بلغ عددهم حتى عام 1948 حوالي 80 ألف نسمة، والثانية هم اللاجئون الذين طُردوا من أرضهم ولجأوا إلى غزة ولا يزالون يعيشون فيها حتى اليوم، وقد بلغ عددهم حتى عام 1948 حوالي 200 ألف لاجئ.
ومع زيادة أعداد اللاجئين في غزة؛ تضخّم عدد سكانها، الأمر الذي رأت فيه “إسرائيل” تهديدًا استراتيجيًّا، وفي ذلك الوقت كانت غزة واقعة تحت الحكم المصري كمرحلة مؤقتة إلى حين تحرير فلسطين، فعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون سرًّا في عام 1951 شراء غزة من مصر، وإعادة توطين اللاجئين في سيناء، لكن تجاهل النظام المصري عرضه.
جُدّد العرض على قيادة الضباط الأحرار، وعلى الفور وقّع النظام المصري الجديد مع وكالة الغوث في يوليو/ تموز 1953 على مشروع شمالي غربي سيناء لتوطين لاجئي غزة، وتمّ بالفعل استصلاح 200 ألف دونم شمال غرب سيناء وتوصيل المياه إليها من نهر النيل استعدادًا للتهجير، وخُصّص لتنفيذ ذلك المشروع الذي حظيَ بدعم الإدارة الأميركية آنذاك 30 مليون دولار.
لكن ثار الفلسطينيون في المخيمات والقرى ومدينتَي غزة وخان يونس ضد الحكومة المصرية، وكانت انتفاضة عارمة أدّت إلى إجبار الحكومة المصرية على إلغاء مشروع التوطين في عام 1955، واضطر عبد الناصر إلى الذهاب بنفسه إلى غزة لتهدئة وطمأنة الفلسطينيين، وهكذا سقطت أولى مشاريع التوطين.
ومنذ النكبة، ظلَّ عدد سكان غزة يرتفع، ثم مع هزيمة 1967 احتل الصهاينة غزة، وعلى الفور شرع الاحتلال في عزلها وفصلها عن الضفة الغربية، كما أقام مستوطنات فيها وبدأ الاحتلال الذي استمر قرابة 40 عامًا.
وفي محادثات كامب ديفيد بين “إسرائيل” ومصر بأواخر السبعينيات، جدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عرض بن غوريون، لكن هذه المرة تأخذ مصر كل غزة، لكن السادات رفض العرض، وما زال الصهاينة حتى اليوم يعتبرون أن تصفية القضية الفلسطينية تبدأ من تصفية غزة.
2008-2005: أذيال الخيبة
بالنسبة إلى الاحتلال، كانت تكلفة البقاء البشرية والاقتصادية في غزة تزداد سوءًا كل يوم، وسئم شارون من الدفاع عن مستوطنات غزة وطريق فيلادلفيا الذي يبلغ طوله 14 كيلومترًا، ويمتد على طول الحدود بين مصر وغزة، والذي يتعرض فيه الجنود الإسرائيليون لهجمات مستمرة.
لذا خلص شارون إلى أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على احتلال غزة، ورأى أن ثمن البقاء لا يستحق، وقبل أن تنسحب قوات الاحتلال من غزة، حشد شارون 55 ألف جندي إسرائيلي بهدف إخراج ما يزيد على 8 آلاف مستوطن في غزة.
والواقع أن انسحاب قوات الاحتلال من غزة صدم العديد من الإسرائيليين، وبعضهم اعتبره قرارًا كارثيًّا، لذا تكثر النقاشات حاليًّا حول تداعيات هذا الانسحاب، وبعض المسؤولين الإسرائيليين يعتبرونه سبب الكارثة التي تعيشها “إسرائيل” الآن.
ثم بعد أن باتت غزة خالية من الجيش الإسرائيلي ومن المستوطنين، فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية في العام التالي، ما أدّى إلى توترات مع حركة فتح، لكن استطاعت حماس في يونيو/ حزيران 2007 التغلب على قوات السلطة الفلسطينية التي درّبتها الولايات المتحدة.
ومنذ سيطرة حماس على غزة عام 2007، فرضت “إسرائيل” حصارًا ما زال مستمرًّا حتى الآن، إذ يسيطر الاحتلال على البنية التحتية بغزة، كالكهرباء والماء، والغذاء والطاقة، وعلى الحدود والمعابر، بجانب استباحة المجال الجوي ومراقبة البلد بأحدث المنظومات التجسُّسية.
وبالتالي، فرض الاحتلال قيودًا مشددة على حركة التجارة، وحرم أهل غزة من الاحتياجات المعيشية الأساسية ومن حرية الحركة والصيد والاستيراد، بجانب فرض تصريحات خاصة لعبور نقاط التفتيش.
وعلى مدى الـ 15 عامًا التالية، ستشنّ “إسرائيل” سلسلة من الحروب ضد غزة، تراوحت أهدافها ما بين القضاء على حركة حماس، وتدمير قدرات فصائل المقاومة والقضاء على الأنفاق، ووقف إطلاق الصواريخ من غزة وتحرير جنودها الأسرى.
2009-2008: الفرقان/ الرصاص المصبوب
الزمان: 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008-18 يناير/ كانون الثاني 2009.
المكان: غزة.
الهدف: إنهاء حكم حماس – ووقف الهجمات الصاروخية ضد المستوطنين – والوصول إلى مكان الجندي الأسير لدى المقاومة جلعاد شاليط.
مدة الحرب: 22 يومًا.
في الساعة 11:30 من صباح يوم السبت 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008، شنّت “إسرائيل” حربًا واسعة أطلقت عليها اسم “الرصاص المصبوب”، واجهتها المقاومة بمعركة “الفرقان”، بدأ الهجوم بقصف جوي مكثَّف على جميع أنحاء غزة، عبر طائرات مقاتلة إسرائيلية من طراز إف-16 ومروحيات أباتشي وطائرات من دون طيار.
ثم في 3 يناير/ كانون الثاني 2009، اجتاح الجيش الإسرائيلي غزة من الشمال والشرق، إذ تقدم 10 آلاف جندي إسرائيلي داخل غزة، كما قصفت البحرية الإسرائيلية غزة من البحر، تزامن ذلك مع تشديد الحصار الذي شارك فيه النظام المصري، ورفض الرئيس المخلوع مبارك فتح معبر رفح وحمّل حماس مسؤولية العدوان.
كانت شراسة الهجوم على مدار الأيام التالية من الحرب لم يسبق لها مثيل منذ أكثر من 6 عقود، وكالعادة لم يميّز الاحتلال بين الأهداف العسكرية والمدنية، واستعمل الأسلحة الكيميائية كالفسفور الأبيض وفقًا لتحقيق منظمة العفو الدولية عام 2009، وعلى مدار 3 أسابيع أسقطت القوات الإسرائيلية حوالي مليون كيلوغرام من المتفجّرات على غزة.
كما شهدت غزة خلال هذه الحرب تدميرًا واسعًا للبنية التحتية، واستهدافًا متعمّدًا لخزّانات المياه والمستشفيات والمنازل والمساجد والمدارس والمباني الحكومية ومراكز الشرطة، وحتى الجامعة الإسلامية التي زعمت “إسرائيل” أن المقاومة تستخدمها كمختبر للقنابل، ووصفتها “بي بي سي” بأنها “الرمز الثقافي لحماس”.
ويشير الجنرال في جيش الاحتلال والسفير السابق في واشنطن، مايكل أورين، إلى أنه بحلول نهاية الأسبوع الثالث من الحرب، كان باراك أوباما على وشك تنصيبه، وآخر شيء أراده الأمريكيون أن ينتقل الرئيس الجديد من مراسم أداء اليمين إلى غرفة العمليات في البيت الأبيض.
ولذا بعد 22 يومًا من الحرب، أعلنت “إسرائيل” وقف إطلاق النار وسحبت قواتها من غزة، وأعقب ذلك وقف إطلاق النار من قبل المقاومة، ثم تم التوصُّل إلى اتفاق برعاية مصرية، وانسحب آخر جندي إسرائيلي من غزة قبل يوم واحد من تنصيب أوباما.
أسفرت هذه الحرب عن استشهاد أكثر من 1430 فلسطينيًّا، منهم أكثر من 400 طفل و240 امرأة و134 شرطيًّا و80 مقاتلًا، إضافة إلى أكثر من 5 آلاف و400 جريح، كما دمّر الاحتلال أكثر من 10 آلاف منزل، وتضررت 700 شركة و324 مصنعًا وورشة، وقدّر تقرير للأمم المتحدة تكلفة الخسائر والأضرار في غزة بنحو 1.1 مليار دولار، أما خسائر الاحتلال فقد صُرّح بمقتل 11 من جنوده و3 مدنيين وإصابة 300 من بينهم 120 جنديًّا.
على مدار 22 يومًا من هذه الحرب، فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه، ونجا معظم قادة حماس، كما أن سيطرة الحركة على غزة لم تكن مهدَّدة، مع العلم أن المقاومة في هذه الحرب لم يكن لديها أسلحة ثقيلة، ورغم أن الحرب انتهت في 18 يناير/ كانون الثاني 2009 بتوقيع اتفاق هدنة تضمن رفع الحصار عن غزة، لكن لم ترفع “إسرائيل” الحصار وخرقت الهدنة أكثر من مرة، وعلى مدى السنوات الـ 12 التالية سيكرر الاحتلال سيناريو معركة “الفرقان”.
2012: حجارة السجيل/ عمود الدفاع
الزمان: 14-21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012.
المكان: غزة.
الهدف: وقف هجمات المقاومة الصاروخية – وتدمير منصات إطلاق الصواريخ ومخزونات فصائل المقاومة.
مدة الحرب: 8 أيام.
في الحقيقة لم تتعافَ غزة من حرب عام 2008، إضافة إلى معاناة البلاد المستمرة من الاختناق بسبب الحصار، الذي حال دون إعادة إعمار البنية التحتية التي دُمّرت خلال حرب 2008.
وزاد الأمر سوءًا استمرار الاشتباكات بين الاحتلال والمقاومة على مدار 20 شهرًا بعد معركة “الفرقان”، حيث لم تخفِ فيها “إسرائيل” نيتها بشنّ حرب جديدة، ورغم اتفاق الهدنة السابق اغتال الاحتلال في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 القائد العسكري لكتائب القسام، أحمد الجعبري، ما أدّى إلى رد من المقاومة، فأُطلقت صواريخ تجاه تل أبيب والقدس المحتلة.
ردَّ الاحتلال بإطلاق حرب على غزة سمّاها “عمود الدفاع”، بينما خاضت المقاومة المعركة تحت اسم “حجارة السجيل”، واستمر القتال على مدار 8 أيام، أطلقت المقاومة حوالي 1500 صاروخ، وظهر خلال هذه الحرب صاروخ جديد هو إم-75 الذي وصل مداه إلى 80 كيلومترًا، وللمرة الأولى وصلت هذه الصواريخ إلى تل أبيب وكادت أن تصل إلى القدس المحتلة.
عدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة على الاحتلال خلال حرب 2012:
14 نوفمبر/ تشرين الثاني: 75 صاروخًا.
15 نوفمبر/ تشرين الثاني: 316 صاروخًا.
16 نوفمبر/ تشرين الثاني: 228 صاروخًا.
17 نوفمبر/ تشرين الثاني: 237 صاروخًا.
18 نوفمبر/ تشرين الثاني: 156 صاروخًا.
19 نوفمبر/ تشرين الثاني: 143 صاروخًا.
20 نوفمبر/ تشرين الثاني: 221 صاروخًا.
21 نوفمبر/ تشرين الثاني (حتى الساعة 9 مساء): 130 صاروخًا.
حشد الاحتلال عددًا من قوات الاحتياط، ونشر قوات برية بطول حدود غزة استعدادًا للغزو، لكن تدخّلَ الرئيس محمد مرسي بشكل حازم وظلَّ معبر رفح مفتوحًا، كما زار رئيس الوزراء المصري هشام قنديل غزة يوم الجمعة 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، وتحت الضغوط وافقت “إسرائيل” على قبول وقف إطلاق النار وفتح جزئي للمعابر إلى غزة، وتم إعلان اتفاق تهدئة من القاهرة في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012.
أسفرت هذه الحرب عن تدمير 450 منزلًا ومنشأة صحية ومدرسة وجامعة ومسجدًا ومركزًا إعلاميًّا، واستشهد 164 فلسطينيًّا، في حين بلغ عدد المصابين 1222؛ أما من جانب الاحتلال، فقد قُتل 6 أشخاص، 4 مدنيين وجنديان، وجُرح 240، وفشل الاحتلال في تحقيق أهدافه في هذه الحرب.
2014: العصف المأكول/ الجرف الصامد
الزمان: 8 يوليو/ تموز 2014 – 26 أغسطس/ آب 2014.
المكان: غزة.
الهدف: تدمير شبكة أنفاق حماس.
مدة الحرب: 51 يومًا.
لم تدُم فترة الهدوء النسبي التي عاشتها غزة بعد معركة السجيل، وواجهت المقاومة هذه المرة ضغطًا سياسيًّا واقتصاديًّا قويًّا بحلول عام 2014، فقد بدأ النظام المصري الجديد بهدم الأنفاق بين مصر وغزة، ليحرم أهلها من أي متنفّس.
ولم يمضِ سوى عامَين على آخر حرب، حتى شنّت “إسرائيل” الحرب الثالثة في 7 يوليو/ تموز 2014، والتي كانت الأشرس والأطول من المعارك السابقة، وقد خاض الاحتلال الحرب تحت اسم “الجرف الصامد”، بينما خاضتها المقاومة تحت اسم “العصف المأكول”.
بدأت الحرب في فجر يوم الاثنين 7 يوليو/ تموز، عندما قتل الاحتلال 6 أشخاص من حركة حماس، فردّت المقاومة بإطلاق صواريخ استهدف بعضها مدن حيفا وتل أبيب والقدس، وتسبّبت في إيقاف الرحلات في مطار تل أبيب.
فبدأ الاحتلال عملية عسكرية واسعة، استدعى 40 ألف جندي احتياط، وقد تألفت هذه المعركة من مرحلتَين، بدأت الأولى بحملة جوية من 8 إلى 16 يوليو/ تموز، ثم المرحلة الثانية بالتوغُّل البري بداية من 17 يوليو/ تموز، ووفقًا للعمليات التي وثّقها فريق الأورومتوسطي الميداني، فقد شنَّ الاحتلال 60 ألفًا و664 غارة جوية وبرية وبحرية على غزة.
واللافت أنه رغم شراسة هذه الحرب مقارنة بالحروب السابقة، ومشاركة النظام المصري في حصار غزة والوقوف إلى جانب الاحتلال، فقد ظهر تطور كبير في قدرات المقاومة العسكرية، إذ ظهرت 3 نماذج من الطائرات دون طيار تحت اسم أبابيل-1، كما استخدمت المقاومة صاروخًا محلي الصنع أطلقت عليه اسم آر-160، ويصل مداه إلى 160 كيلومترًا، حيث ضرب حيفا في 8 يوليو/ تموز.
أسفرت هذه الحرب التي استمرت لـ 7 أسابيع عن تدمير منازل ما يقرب من 108 آلاف إنسان، وتدمير 171 مسجدًا، كما دُمّرت البنية التحيتة بشكل شبه كامل عبر تدمير محطة توليد كهرباء، و9 محطات لمعالجة المياه، و18 منشأة كهربائية، و19 مؤسسة مالية ومصرفية، و372 مؤسسة صناعية وتجارية، و29 مستشفى ومركزًا صحيًّا، و222 مدرسة، و6 جامعات، و48 جمعية خيرية.
أما الخسائر البشرية، فقد استشهد 2189، 81% منهم من المدنيين وفي حالات عديدة شمل القتل عائلات بأكملها، بجانب إصابة 10 آلاف و870، كما نزح داخليًّا 500 ألف شخص، ما يعادل %28 من سكان غزة، ومن اللافت أن 56% من الفلسطينيين الذين استشهدوا في هذه الحرب هم من لاجئي نكبة 1948؛ أما خسائر الاحتلال فقد كانت أكبر من الحروب السابقة، إذ قُتل 71 إسرائيليًّا، منهم 66 جنديًّا و5 مدنيين، بجانب 720 جريحًا.
ورغم أن خسارة غزة كبيرة في هذه الحرب التي تشبه حرب 2009 في شراستها، إلا أن العدو فشل أيضًا في تحقيق أهدافه، بل تركت الحرب جنودًا أسرى بأيدي المقاومة، وكالعادة رغم اتفاق الهدنة، فقد خرقها الاحتلال أكثر من مرة، وظلت حماس تطالب الاحتلال الالتزام بما وقّع عليه على مدار السنوات السابقة، لكنه استمر في سياسة القيود المستمرة على تدفق البضائع إلى غزة، وظلت الاشتباكات مستمرة بين مدّ وجزر.
2021: سيف القدس/ حارس الأسوار
الزمان: 10-21 مايو/ أيار 2021.
المكان: غزة.
الهدف: وقف هجمات المقاومة الصاروخية – وتدمير مخزونات وقدرات فصائل المقاومة – واستعادة قوة الردع الإسرائيلية.
مدة الحرب: 11 يومًا.
في مايو/ أيار 2021 اقتحمت قوات الاحتلال المسجد الأقصى، واستولى مستوطنون عنوة على بيوت مقدسيين في حي الشيخ جراح، فأعلنت المقاومة إمهال الاحتلال مدة معينة للكفّ عن اعتداءاته في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، بجانب المطالبة بالإفراج عن كافة المعتقلين خلال هبّة القدس الأخيرة.
لم يكترث الاحتلال لتحذير المقاومة واستمرت الاعتداءات، ومع انتهاء المهلة التي حددتها المقاومة، أُطلقت بالفعل رشقات صاروخية تجاه تل أبيب وضواحيها لتكون هذه بداية الحرب.
فأعلنت “إسرائيل” في 11 مايو/ أيار 2021 شنّ معركة تحت اسم “حارس الأسوار”، فقابلتها المقاومة بـ”سيف القدس”، ومن اللافت أن إدارة بايدن قدمت خلال هذه الحرب صفقة سلاح بقيمة 735 مليون دولار لـ”إسرائيل”.
لكن رغم أن عدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة في معركة “سيف القدس” كان صغيرًا مقارنة بالحروب السابقة، إلا أنها كانت نقلة نوعية في قدرات المقاومة، إذ أصابت مواقع حسّاسة من بينها محطة الطاقة في عسقلان، ومطارات وقواعد عسكرية للاحتلال، بجانب استهداف بارجة إسرائيلية في عرض البحر قبالة شواطئ غزة.
كما وصل مدى الصواريخ أبعد من السابق، إذ استخدمت المقاومة خلال هذه المعركة صاروخ عياش-250 قصفت به مطار رامون، ويعدّ الصاروخ الأبعد مدى حتى الآن، والأهم في خلال هذه الحرب أن القبّة الحديدية التي تفاخر الاحتلال بها فشلت في اعتراض الكثير من صواريخ المقاومة.
وقد ركّز الاحتلال في هذه الحرب على قصف المدنيين وتدمير الأبراج السكنية، وتركّز هجومه الأساسي على ضرب معظم المصالح التجارية والبنية التحتية، خاصة آبار المياه والمرافق العامة.
ثم في 21 مايو/ أيار تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وأسفرت هذه الحرب عن استشهاد 250 فلسطينيًّا وأكثر من 5 آلاف جريح، أما من جانب الاحتلال فقد قُتل 12 إسرائيليًّا وأُصيب نحو 330 آخرين، وفشل الاحتلال في تحقيق أي أهداف، في حين خرجت المقاومة منتصرة وأرست معادلات ردع جديدة.
ما قبل الطوفان
“معركتنا الحالية ابتدأت من حيث انتهت عملية “سيف القدس”.. كنا حريصين على إخفاء النوايا والتدريبات والتحركات قُبيل تنفيذ “طوفان الأقصى”.. لقد آثرنا رغم التغول الصهيوني أن نُمرر جزئيًّا بعض المعارك بين العدو وفصائل المقاومة لكسب الوقت للتجهيز للمعركة”.. أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام.
شهد عام 2021 و2022 سلسلة من الاشتباكات بين المقاومة والاحتلال تدلّ على أن الأمور كانت مرشحة لحرب جديدة، وفي الواقع كانت معركة “سيف القدس” مقدمة لـ”طوفان الأقصى” الحالية، لقد كان الجميع بعد معركة “سيف القدس” على قناعة بأن الحرب القادمة هي مسألة وقت ومن الذي سيفاجئ الطرف الآخر، كما أن غالبية المراقبين ومراكز الأبحاث تكلموا عن مواجهة شرسة يحضّر لها الجانب الإسرائيلي.
يبدو أن حماس كانت على علم بتحضيرات الاحتلال، لذا مكرت المقاومة في الحرب الأخيرة، وتلقى الاحتلال مفاجأة لم يكن يتوقعها، فلم يسبق أن فوجئ الاحتلال واُخترقت الحدود واُستهدفت مواقع وتحصينات عسكرية للعدو بريًّا وبحريًّا وجويًّا بهذا الشكل، بجانب أن نخبة القوات الاسرائيلية اُعتقلت لدى حماس في الأنفاق، لذا الكثير من الأوهام انهارت بعد الطوفان.
في المجمل، تكشف هذه السلسلة من الحروب على اختلاف مسمياتها، مدى هشاشة المشروع الصهيوني، فرغم أن الاحتلال بنى جهازًا أمنيًّا ضخمًا وعسكرَ مجتمعه بالكامل ليحافظ على جيش دائم، بجانب الحماية والمساعدات المالية والعسكرية الأمريكية، وكل بضع سنوات يخوض حربًا أخرى ويدمّر غزة مرة بعد أخرى، رغم كل ذلك لم تحقق أي من هذه الحروب أهدافها، وفشل الاحتلال في تحقيق أمن حقيقي وما زال معرضًا للخطر.
ومن اللافت أن سياسة الاحتلال طوال هذه الحروب ظلت ثابتة لم تتغير، بجانب الاعتماد المستمر على سياسة الدمار الهائل التي ظنَّ أنها بمثابة ردع نهائي، لكن في كل مرة تسقط رهاناته وأهدافه.
في المقابل، ورغم اختلال ميزان القوة، وندرة المعادن اللازمة لتصنيع السلاح، مع كل حرب خاضتها المقاومة، حتى الحروب التي أُجبرت على خوضها، والخسارات التي تعرضت لها في جولاتها العسكرية المتعاقبة؛ تعلمت العديد من الدروس بشقّ الأنفس، وأبدت قدرة استثنائية على الصمود، والأهم أنها تطورت بشكل مستمر على صعيد التقنية والتصنيع العسكري، وحققت تحسُّنًا ملحوظًا في الساحة الإعلامية.
لذا من اللافت أن سلسلة هذه الحروب قد قوّت المقاومة وخرجت من كل حرب أكثر صلابة، كما تعززت شعبيتها ومكانتها في أعين الشعب الفلسطيني، مع ذلك تظل مشكلة المقاومة الأساسية في كل حروبها ضد الاحتلال هي الحصار والضغوط السياسية والاقتصادية المحيطة بها، ويبدو أن غزة ستظل عقدة الكيان الصهيوني غير القابلة للحل، ففي نهاية المطاف ما زالت “إسرائيل” غارقة في المستنقع وتنزف إلى أجل غير مسمّى.