من مكرمات عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الانتقامية التي يشنّها الاحتلال ضد قطاع غزة، أنها حركت المياه الراكدة في ملف الوعي العربي بالقضية الفلسطينية، فأعادت ترميم الوعي القديم وفق المتغيرات الراهنة، وخلقت وعيًا جديدًا مشكَّلًا بطريقة معمّقة، حيث التعايش مع الحدث بالصوت والصورة.
وفي الوقت الذي كان يشكو فيه رواد الاجتماع السياسي أصحاب التوجهات القومية العروبية، من حالة الانفصام المتطرفة بين القضية الأمّ (فلسطين) والأجيال الناشئة صغيرة السن، التي نشأت على مرتكزات مغايرة شكلًا ومضمونًا للمرتكزات القومية الوطنية، إذ بالمعادلة تنقلب رأسًا على عقب خلال الشهرَين الماضيَين.
أسابيع قليلة نجحت فيها تطورات المشهد في غزة في تشكيل وعي تلك الأجيال المعروفة باسم “جيل الألفية” أو “جيل زد”، وهي التي نشأت بين منتصف التسعينيات وحتى منتصف العقد الأول من القرن الحالي، والتي في الغالب لا تعرف شيئًا عن فلسطين ولم تقرأ عن القضية، إلا من خلال بعض السطور الهامشية في الكتب الدراسية أو المواد الفيلمية والدرامية التي تبثّ في منصات الإعلام.
ويومًا تلو الآخر، تحول هذا الجيل -الذي أُنفق على تسطيحه وتهميشه مئات المليارات من الدولارات- إلى أيقونة للقضية الفلسطينية، والوتد الذي يعوَّل عليه لحمل لواء الدفاع عنها مستقبلًا، وكما كان الطوفان محطة مفصلية في تاريخ الصراع، فإنه كذلك نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من وعي الأجيال الناشئة بقضيتها وانخراطها فيها بشكل كامل، وإدراكها لأهمية واستراتيجية دعمها بشتى السبل.
تحوُّل غير متوقع في الوعي
“لم أكن أتخيل يومًا ما يتعرض له أهل غزة من انتهاكات وقتل وتدمير على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، ما يحدث أمر فوق الخيال وما كان يمكن تصديقه لولا أنني رأيت ذلك بعيني”… بهذه الكلمات عبّر عمر ( 20 عامًا)، طالب بكلية الحاسبات والمعلومات في جامعة حلوان، عن صدمته من هول ما يحدث في قطاع غزة.
ويضيف عمر: “قبل ذلك ما كنت أعرف شيئًا عن فلسطين إلا ما يذكر عنها في المناهج الدراسية، وكلها معلومات عامة عن القضية والاحتلال، دون التعمق في تفاصيل تشرّح الصراع بشكل مفصّل، لكن اليوم الصورة اتضحت بشكل كبير، الأمر لم يكن صراعًا بين طرفَين كما كانوا يقولون لنا، لكنها حرب إبادة تمارَس على الهواء مباشرة ضد شعب أعزل ومفروض عليه حصار قاتل”.
وأوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن المشاهد الصعبة التي تابعها على منصات التواصل الاجتماعي لقتل الأطفال وتناثُر الأشلاء واستغاثات الآباء والأمهات في ظل الخذلان العالمي لهم، دفعته إلى قراءة المزيد عن القضية الفلسطينية من جذورها، لافتًا أن الأيام القليلة الماضية كانت كفيلة أن تجعله منخرطًا في الصراع وكأنه ابن الخمسين وليس العشرين.
وتشاطره الرأي آية، زميلته في الكلية نفسها، والتي أعلنت رفضها للمنحة التي قُدّمت عليها قبل فترة للحصول على دبلومة برمجة من الولايات المتحدة، لافتة أن ما حدث منذ 7 أكتوبر/تشرين الماضي وحتى اليوم، كفيل بأن يعيد حساباتها بشكل كامل حول القضية الفلسطينية وخارطة الصراع في المنطقة.
مؤكدة في حديثها لـ”نون بوست” أن الشهرَين الماضيَين نجحا بصورة كبيرة في تغيير نظرتها إلى الكثير من الأمور، مثل أن أمريكا رائدة الحريات في العالم، أو أن أوروبا قارة المبادئ والحقوق، أو أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود كما كان يردَّد في الإعلام العربي، منوهة أن كل ذلك لم يكن سوى شعارات ومزاعم واهية لتحقيق أهداف وأجندات سياسية واقتصادية، حيث أسقطت الحرب في غزة كل تلك الأقنعة المزيّفة، حسب تعبيرها.
وأكد عمر وآية أنهما، وبالتنسيق مع بعض أصدقائهما في الجامعة، سيحاولون العمل على تدشين تطبيقات وبرامج بعدة لغات، من شأنها فضح الانتهاكات الإسرائيلية والازدواجية الأمريكية الغربية تجاه القضية الفلسطينية، لافتين أن هذا أقل ما يمكن تقديمه لأشقائنا في غزة، بعد سنوات من التجهيل والتسطيح الذي تعرّض له هذا الجيل بشأن تلك القضية.
الأطفال كذلك
لم يكن “جيل زد” وحده الذي شُكّل وعيه مجددًا تجاه القضية الفلسطينية بفضل “طوفان الأقصى”، فالأجيال الأصغر ممّن لم تتجاوز أعمارهم الـ 10 كانوا على موعد مع الوعي بتلك القضية، بصورة ما كان يتوقعها أحد.
ميرنا طالبة في الصف الثالث الابتدائي بإحدى المدارس الخاصة بالقاهرة، عمرها لم يتجاوز 8 أعوام، لكن مستوى وعيها بما يحدث في غزة قفز خطوات هائلة في أيام قليلة، فصور أطفال غزة، ما بين شهيد ومصاب ومشرد، أحدثت ما يشبه الصدمة لها، ما انعكس بشكل كبير على سلوكها ونشاطها داخل المدرسة وخارجها.
تلك الطفلة التي كان كل همّها الدراسة واللعب وفقط، تقضي معظم ساعات اليوم أمام شاشات التلفاز تتابع ما يحدث عن كثب، وبدلًا من قضاء الوقت أمام قنوات الأطفال والألعاب، إذ بالقنوات الإخبارية هي مصدر متابعتها الوحيد، ومن هنا سعت بتعاون بعض زميلاتها في حدود إمكاناتهن لدعم أشقائهن في غزة بشتى السبل، رسمن أعلام فلسطين فوق وجوههن، وحملنها بأيديهن ذهابًا وإيابًا، وعلى مدار الساعة ترديد أغاني وأناشيد فلسطين ودعم المقاومة.
🚨 أطفال #تونس يدعمون #فلسطين و يدينون عدوان الاحتلال …
صور من وقفة اليوم 3 ديسمبر.#غزة_تحت_القصف #غزه_تقاوم_وستنتصر#فلسطين_قضيتي pic.twitter.com/Qc55CHoCHY
— Raoued Jebali (@RaouedJebali) December 3, 2023
“ميرنا تغيرت بشكل كبير في غضون أيام قليلة، لم تعد تلك الطفلة المدللة، لقد كبرت سنين كثيرة في وقت قصير..”، هكذا علقت والدة ميرنا عن التغيير الذي لحق بابنتها بسبب أحداث غزة، لافتة أن وعيها وإدراكها بالقضية الفلسطينية تطورا لديها بشكل غير طبيعي وغير متوقع في ضوء عمرها الصغير، لكن ما حدث لشقيقاتها وأشقائها في غزة أصابها بصدمة كبيرة شكّلت وعيها بهذه الطريقة.
وأوضحت أن ابنتها التي كانت في السابق تدمن الأطعمة الأمريكية والغربية، إذ بها اليوم تحرص على توجيه سؤال لصاحب المتجر الذي تشتري منه عن موطن وجنسية أي سلعة تشتريها، فإذا كانت أمريكية أو إسرائيلية أو حتى أوروبية تمتنع عن شرائها وتستبدلها بالمنتج الوطني، حتى وإن كان أقل في الجودة وأغلى في السعر، هذا وعي غير مسبوق ويحمل الكثير من الدلالات عن مستقبل القضية الفلسطينية في كنف هذا الجيل، هكذا اختتمت الوالدة حديثها لـ”نون بوست”.
👈يا إبنتي…. ⁉️
🔸الرجال الآن يهبون الكلام وليس الفعل
🔸حتى الدعاء حُرمنا منه في المساجد
🙄🙄🙄🤔🤔
طفلة مصرية من مترو الأنفاق – القاهره
تدعم غزه على طريقتها
👌👌كنا رعاة غنم وجاء الإسلام فأصبحنا رعاة أمم فتركنا الإسلام فأصبحنا أغنام ترعانا الأمَم
🙄🙄🤔😭😭 pic.twitter.com/vy681zw8tb
— Hndawe Shaban (@hndawe2008) December 2, 2023
وفي الغرب أيضًا
انتفاضة وعي الأجيال الناشئة بالقضية الفلسطينية، ودعم حق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وسياساته العنصرية، لم تكن حكرًا على المجتمع العربي فحسب، حيث شهد الشارع الغربي هو الآخر انقلابًا كبيرًا في توجهات الشباب إزاء ملف الصراع العربي الإسرائيلي، حيث زيادة نسب الدعم للفلسطينيين مقارنة بما كان عليه الوضع سابقًا.
في استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث خلال الفترة 6-13 مارس/ آذار الماضي على 10 آلاف و400 أميركي، ونشرته مجلة “نيوزويك” الأمريكية للوقوف على توجهات المزاج الشعبي لجيل الألفية الأمريكي تجاه “إسرائيل” وفلسطين، جاءت النتائج صادمة للشارع الأمريكي والصهيوني بصفة عامة.
النتائج كشفت عن تطور كبير في الموقف تجاه الفلسطينيين بين الشباب الأميركي (بين 18 و29 عامًا)، إذ ينظر 61% منهم بإيجابية إلى الفلسطينيين، في حين تبلغ النسبة 56% تجاه الإسرائيليين، كذلك ينظر 35% من الشباب الأميركي بإيجابية إلى القيادة الفلسطينية، في حين تبلغ النسبة 34% تجاه الحكومة الإسرائيلية.
هذه النسبة التي سبقت عملية “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة التي تشنّها القوات المحتلة ضد أطفال ونساء قطاع غزة الآن، لا شك أنها مرجّحة للزيادة بصورة كبيرة، وهو ما ألمح إليه نائب وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط، السفير ديفيد ماك، حين أشار إلى وجود تغيرات مهمة تشهدها الساحة الأميركية بخصوص مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي.
وأوضح أن تلك النتائج ليست جديدة على صانع القرار الأمريكي، حيث سبق وأعلنتها شركات استطلاع رأي عربية، لكنها لم تؤخذ على محمل الجد وقتها كون مصدرها عربيًّا، ومع توصل استطلاع معهد بيو إلى النتائج نفسها، فإن الموقف هنا يتطلب وقفة.
اللافت هنا أن هذا النتائج التي كشفها هذا الاستطلاع تشير إلى أن الرأي العام الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية والموقف من دولة الاحتلال، لا يتعلق مطلقًا بفكرة الانتماء السياسي والحزبي، فقد تخرج النتائج داخل الحزبَين الجمهوري والديمقراطي بأرقام مغايرة، لكن الشارع والشباب تحديدًا لديهم مواقف أخرى.
هذه النتيجة توصّل إليها قبل فترة الكاتب توماس فريدمان، حين حذّر القيادة الإسرائيلية من تبعات سياستها المتطرفة في رفض فكرة حل الدولتين، مشددًا على أن تل أبيب بدأت خسارة الرأي العام بين طلاب الجامعات الأمريكية، مستشهدًا على ذلك بمقاومة الاتحادات الطلابية في أغلب الجامعات الأميركية استضافة مسؤولين إسرائيليين رسميين للحديث داخل أسوارها.
وفي بريطانيا لم يختلف الأمر كثيرًا عن الولايات المتحدة، حيث كشف استطلاع رأي حديث أن 23% من البريطانيين الذي تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا يدعمون الفلسطينيين، مقارنة بـ 7% فقط يدعمون الإسرائيليين، رغم أن العكس تمامًا مع الفئات العمرية الأكبر سنًّا.
ماذا يعني ذلك؟
بداية لا بدَّ من الإشارة إلى أن “جيل زد” و “جيل الألفية” والنَّشء الصغار ما دون العاشرة، كلها أجيال تتمتع باستقلالية كبيرة، مقارنة بغيرهم من كبار السن، فهم أجيال يصعب السيطرة عليهم أو تأطيرهم وأدلجتهم، في ظل ما يتمتعون به من عناد فكري وثقافي واجتماعي كبير.
كما أن ما يمتلكونه من مهارات وإمكانات معرفية بالتكنولوجيا ووسائل المعرفة، تسمح لهم بقراءة الأمور بشكل أكبر وأعمق، وبالتالي هم جيل يؤمن بنفسه وقدراته ويتجنّب السقوط في فخاخ الدعايات المضادة الممنهجة، كونهم يعتمدون في مواقفهم على النظريات العملية وليست النظرية، كما يبنون يقينهم على التجربة وليس النقل والتأثير عن بُعد.
حمله يقودها مجموعه من الشباب الامريكي تهدف الي سحب الاموال من البنوك الامريكية وعدم دفع الضرائب حتي تتوقف ادارة بايدن عن دعم دولة الاحتلال وتطالب بوقف اطلاق النار الذي تسبب في قتل الاف الفلسطينيين.#فلسطين_قضية_الشرفاء pic.twitter.com/omgS52hmJd
— MOHAMED💪ABDELRAHMAN👈 (@mohamed041979) December 4, 2023
إضافة إلى ذلك، يشكّل هذا الجيل الكتلة السكانية الأكبر في المنطقة العربية وبقية مناطق العالم، ومن ثم هم عامل حاسم وحازم ومؤثر في المشهد، وعليه فإن تصوراتهم وأفكارهم ومعتقداتهم ستساعد بشكل محوري في رسم ملامح المستقبل.
ويمكن الوقوف على حجم وتأثير هذا الجيل من خلال دوره الكبير في انتفاضات الربيع العربي بموجاتها المتعددة، حيث كان الضلع الأساسي في نجاحها في تونس ومصر وسوريا واليمن، قبل أن ينقلب عليها محور الثورة المضادة ويحدث الفرقة والشتات والنزاع بين أفراد هذا الجيل.
كيف يمكن البناء على ذلك؟
ما حدث من تشكيل لوعي جيل زد وجيل الألفية بالقضية الفلسطينية بهذا الشكل، إنجاز ما كان يمكن تحقيقه على مدار سنوات طويلة في ظل الغزو الثقافي المؤطر لتجهيل هذا الجيل، وإبعاده عن القضية بشتى السبل.
ومن هنا إن البناء على تلك النتيجة مسألة غاية في الأهمية، لإبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة لدى الأجيال القادمة، وتعريف العالم بها وفضح المستعمر وسياساته وتفنيد أكاذيبه ومزاعمه، خاصة في ظل إمكانات هذا الجيل وقدراته التي تساعده على ذلك، والتي لم تتوفر للأجيال الماضية.
المعركة الحالية ليست الأخيرة، فالصراع ممتد، والمعارك قادمة، ومن هنا فإن تأطير نَشء اليوم في العالم العربي والمناصرين في بقية بلدان العالم مسألة هامة وحيوية، فهم حائط الصد الأقوى، وصمام الأمان المؤتمن على حقوق الفلسطينيين.
وفي الأخير، إن تحرير الأرض الفلسطينية من دنس الاحتلال يتطلب تسليم الراية لجيل بعد جيل، فكما كان جيل أبو عبيدة والسنوار اليوم هو ذاته جيل الحجارة قبل عقود، فإن جيل “طوفان الأقصى” الحالي سيكون ذاته الجيل القادم الذي سيحمل الراية، وهكذا حتى استعادة الدولة الفلسطينية على كامل ترابها وعاصمتها القدس الشريف.