كوربن وأمريكا اللاتينية: هل من بدائل للنيوليبرالية؟

capitalismisntworking

لم يعد الأمر يقتصر على كون الليبرالية مجرد أيدولوجية أو فلسفة جديدة، بل صارت سياسة اقتصادية واضحة، وصفها البعض بأنها محاولة لإعادة تشكيل نظام حياة الإنسان عن طريق تغيير مفاهيم حياته، بل لتعيد تعريف مفهوم الإنسان نفسه في الحياة اليومية، لتراه النيوليبرالية كمستهلك وليس كإنسان، وهو الأمر الذي جعل كثيرًا من الناس يقبلون ديكتاتورية نيوليبرالية على ديموقراطية خالية من النيوليبرالية.

مبدأ المنافسة أحد الركائز الأساسية التي ترتكز عليها النيوليبرالية، لا سيما أنها تتخذه مرجعًا لتحديد الشبكات الاجتماعية المتكونة من العلاقات الإنسانية، لتعيد توصيفها على أنها سلسلة هرمية تشكل في بنيانها سوقًا يجمع كل من الرابحين والخاسرين في نفس المكان، ومن لا يلحق بالركب يخسر مكانه في السلسلة الهرمية، وهذا يعني أن العاطل عن العمل والتاجر الفاشل والطالب غير المجتهد على سبيل المثال من المحكوم عليهم بالخروج من تلك السلسلة.

لطالما اشتهرت مارجرت تاتشار بعبارتها “ما من بديل” في تعريفها لسياساتها النيوليبرالية، أو في سياق آخر في تعريفها لهيمنة البرجوازية وإنهاء عهد تدخل الدولة أو الحكومة في الاقتصاد، داعية لاقتصاد جديد، تهيمن عليه الخصخصة، ورفع القيود عن رأس المال وتحرير الأسواق والتقليص الانتقائي لضمانات الرفاه.

أصبح ابتزاز العمال أمر طبيعي حتى يقبلوا بأجور أقل خوفًا من فقدانهم وظائفهم، واحتلت الشركات متعددة الجنسيات محل الشركات المحلية القومية، فأصبحت الأخيرة عاجزة أمام الأولى نسبيًا

دعت تاتشر (مؤسسة النيوليبرالية في بريطانيا)، وحليفها ريجان (مؤسسها في الولايات المتحدة)، إلى وجه جديد لليبرالية، تسطو فيه قوة الرأسمالية، في هجوم مدروس على الطبقة العاملة والمتوسطة أيضًا، حيث اعتقد النيوليبراليون أن السوق إن تُرك دون تدخل الدولة سينتج النتائج الأفضل، وهو ما أفقد الطبقة الكادحة أي حق للتفاوض من أجل حقوقها.

مارجرت تاتشر

كانت النيوليبرالية سلاحًا ضد الصناعات المؤممة التي كافحت من أجلها الطبقات العاملة، وسلاحًا ضد الاقتصاد المختلط الذي وفر للعمال بعض الحماية ضد قسوة السوق، وضد دولة الرعاية الاجتماعية وضد كل المكاسب التي حققها العمال خلال قرنٍ كامل تقريبًا من النضال ضد الرأسمالية غير المقيدة، مما نتج عنه في النهاية إقرار النيوليبرالية أن التوزيع العادل للثروات فعل غير طبيعي ومنافٍ لمبادئ النيوليبرالية.

أصبح ابتزاز العمال أمر طبيعي حتى يقبلون بأجور أقل خوفًا من فقدانهم وظائفهم، واحتلت الشركات متعددة الجنسيات محل الشركات المحلية القومية، فأصبحت الأخيرة عاجزة أمام الأولى نسبيًا، ذلك لأنها إن لم ترضخ لرغباتها، وهي ببساطة تخفيض الضرائب على الأرباح، وإلا ستنقل تلك الشركات عملها وأموالها إلى بلاد أخرى تسمح بخفض الضرائب والجمارك وتقلل القيود وتحجب عنها بل تقمع غضب اتحادات ونقابات العمال.

كان آخر مثال واضح لتأثير النيوليبرالية في العالم، هو دونالد ترامب، وليد النيوليبرالية، الرجل الغني بالوراثة وليس جزاء عمله وكفاحه، ولهذا هو الرجل الثري المثالي بالنسبة للنيوليبرالية

بعد مرور 30 عقدًا على هيمنة السياسات النيوليبرالية، اتهم نقاد النيوليبرالية أنها السبب في انهيار نظام التأمين الصحي في العديد من الدول على رأسها الولايات المتحدة، إحدى الدول المُصدرة لفلسفة أو أيدولوجية النيوليبرالية، وانهيار نظام التعليم في دول أخرى تبعت الولايات المتحدة في سياسة التغيير نحو سيطرة النيوليبرالية، بل واتهمها النقاد أيضًا كونها السبب في الأزمة البيئية (أزمة الاحتباس الحراري) التي تُشغل البلاد مؤخرًا.

كان آخر مثال واضح لتأثير النيوليبرالية في العالم، هو دونالد ترامب، وليد النيوليبرالية، الرجل الغني بالوراثة وليس جزاء عمله وكفاحه، ولهذا هو الرجل الثري المثالي بالنسبة للنيوليبرالية، فهو لا يحتاج لاستثمار أمواله في صنع نجاحاته وإمبراطوريته الموجودة بالفعل، بل سيستخدم ثروته الموروثة تلك في استثمار الأفكار والتأثير على الآراء والمعتقدات.

لم تكن مارجريت تاتشر مخطئة إلى هذا الحد عندما قالت بأنه ليس هناك بديلًا للنيوليبرالية، ذلك لأن الليبرالية نجحت في المرور من أزمات اقتصادية جسيمة كانت النيوليبرالية السبب الأساسي والجذور الأصلية لها، مثل الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، وعلى الرغم من الانتظار طويلًا لظهور أي بدائل، لم يمنع ذلك ظهورها في النهاية.

الأرجنتين تحارب النيوليبرالية

مظاهرات في الأرجنتين ضد النيوليبرالية

خرجت الجماهير من اتحاد العمال في الأرجنتين أمس بمظاهرات مناهضة لسياسات الرئيس الأرجنتيني ماوريسو ماكري، حيث اتحد كل من أعضاء اتحادات العمال والمنظمات الاجتماعية في الخروج لللدعوة إلى تجمعات ضد الرئيس، من أجل الحد من اضطهاد قادة ورؤساء تلك المنظمات الاجتماعية مطالبين بمشروع قانون يمنع تجريم المظاهرات في البلاد.

انضم إليهم قطاع الأكاديميبن والمعلمين، من خلال إضراب عن العمل يستمر 24 ساعة، اعتراضًا على اهتراء نظام التعليم وغلق العديد من المدارس الحكومية واستبدالها بالخاصة، ورفع أسعار الغاز والوقود، والتقليل المتعمد للوظائف المحلية والحكومية وتعويضها بشركات متعددة الجنسية تربح الجزء الأكبر من الأرباح دون مقابل كبير من الضرائب.

خرجت الجماهير من اتحاد العمال في الأرجنتين أمس بمظاهرات مناهضة لسياسات الرئيس الأرجنتيني ماوريسو ماكري ومناهضة لزحف النيوليبرالية

لم تتحرك الأرجنتين وحدها ضد النيوليبرالية، بل تمر الإكوادور بنفس الوضع تقريبًا، إذ خرج باقة من الاقتصاديين العالميين وعددهم 50 اقتصاديًا يحذرون من زحف النيوليبرالية للسيطرة على الحوكمة في الإكوادور من جديد بعد انتهاء تلك الفترة في بداية الألفينيات، على الرغم من المحاولة الناجحة لإبقاء شبح النيوليبرالية بعيدًا لمدة عقد من الزمن بعد معاناة طويلة انتهت بتقليل الفجوة بين الطبقة الغنية والمتوسطة، واستعادة المساواة في مجالات العمل المختلفة والحد من معدل الفقر.

ربما يكون خروج مجموعات من المتمردين على النيوليبرالية في البلاد التي استوردت النيوليبرالية من مصدريها (بريطانيا والولايات المتحدة)، أمرًا طبيعيًا بل متوقعًا، ولكن خروج أولئك المتمردين في البلاد الأم للنيوليبرالية يعد أمرًا صادمًا بعض الشيء، حدث هذا مع جيرمي كوربن.

لم يكن “كوربن” من النخبة الأنيقة المختارة بمباركة من الحزب الحاكم بل كان يُسبب إزعاجًا لهم

كوربن شبح يخيم على بريطانيا

كوربن، زعيم حزب العمال البريطاني

حينما تم انتخاب جيريمي كوربن قائدًا لحزب العمال في بريطانيا منذ عامين، لم يكن ذلك إلا استعادة لشبح الشيوعية الذي يخيم على أوروبا كما كان يتم وصفه حينها، إذا كان وصوله لقيادة حزب العمال تهديدًا واضحًا لسياسة تاتشر النيوليبرالية، بل وتهديدًا لاستقرار الجيش نفسه بحسب الانتقادات التي نُشرت في الإعلام الغربي حيال وصوله لقيادة الحزب.

لم يكن كوربن من النخبة الأنيقة المختارة مباركة من الحزب الحاكم، بل على العكس كان يمثل إزعاجًا لهم، بداية من نشاطاته في الإضرابات العمالية ورأيه المنافي للحرب وللتسلح النووي، ربما لأنه يؤمن بتغيير سياسة التقشف أيضًا، ويحاول محاربة النيوليبرالية بطرح سياسات اقتصادية جديدة.

تكونت شريحة كبيرة من مؤيدي بيرني ساندرز في الانتخابات الأمريكية السابقة من جيل الألفية الحديثة، وهو ما كان مفاجئًا للنيوليبرالية

بيرني ساندرز والأجيال الصغيرة مقابل الأجيال العجوزة

المرشح الديموقراطي السابق بيرني ساندرز

لطالما استخدم النيوليبراليون كثيرًا من الصفات الديموغرافية لتقسيم الشعوب، كان أهمها الجنس والعرق لصرف النظر عن انقسامات المجتمع الحقيقية، إلا أن بيرني ساندرز، المرشح الرئاسي الأمريكي السابق جاء ليوضح بعضًا من الحقيقة للنيوليبراليين.

تكونت شريحة كبيرة من مؤيدي بيرني ساندرز في الانتخابات الأمريكية السابقة من جيل الألفية الحديثة، وهو ما كان مفاجئًا في تلك الانتخابات، إذ أشارت الإحصائيات بأن جيل الألفية الحديثة من الإناث والذكور فضلوا تأييد ساندرز بدلًا من ترامب وكلينتون، بالإضافة إلى تأييده من قِبل الإناث من الألفية الحديثة بنسبة أكبر من تأييدهن لهيلاري كلينتون.

تجنب المرشحان الحديث عن عامل العُمر في تلك المسألة، واهتما أكثر بالتركيز على العرق والجنس أكثر من الفروق العمرية، وهو شيء كلاسيكي للسياسة النيوليبرالية كما اعتادت أن تفعل خلال الثلاثين سنة الماضية.

ما بين سياسة جدوى التقشف وهيمنة النيوليبرالية، وإقصاء الدول النامية أو الفقيرة عن حصولها على حقوق الإنسان الأساسية لأنها فقط لم تدخل في موكب الرأسمالية، وهو ما حتم عليها الفشل من وجهة النظر النيوليبرالية، لا تزال هناك محاولات مُتمردة تواجه القمع والتجريم في أمريكا اللاتينية، وتواجه سحب الثقة والإقصاء كما حدث مع كوربن وتواجه التعتيم والتهميش كما حدث مع ساندرز.