ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ اللحظة التي قررتُ فيها تأجيل سفري إلى خارج غزة في أواخر آب/ أغسطس، ظلت فكرة ظاهرة “تأثير الفراشة” تطاردني.
بعد حصولي على منحة لاستكمال الدراسات العليا في جامعتي، كان من المفترض أن أسافر إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية. لقد شعرت بسعادة غامرة لأنني وجدت طريقة للخروج من هذا السجن الخانق المسمى غزة. لكن قبل يوم واحد من رحيلي، مرضت والدتي. قررت أنني لست مستعدةً بعد لترك عائلتي وأردت قضاء المزيد من الوقت معهم قبل المغادرة لأني اعتقدت أني قد أقضي فترة طويلة في الخارج.
كان قد مرّ أكثر من شهر بقليل عندما استيقظت أنا وعائلتي في حالة من الذعر صباح يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر على أصوات انفجارات الصواريخ المدوية. لم يمض وقت طويل حتى انتشرت أخبار إعلان إسرائيل الحرب في جميع أنحاء قطاع غزة وبدأت الطائرات المقاتلة شنّ ضربات على الأحياء المكتظة بالسكان.
قلت في نفسي”إنها الحرب مرة أخرى!”. كانت فكرة تحمّل حرب أخرى مرعبة، إذ لم نتعاف بعد من الحروب الأربعة الأخرى التي شهدناها منذ سنة 2008. لكن في غياب أي مكان آخر للفرار إليه، لم يكن أمامنا خيار في غزة سوى الاستعداد لهذا الوضع.
طوّرت العائلات بالفعل روتينا حول التعامل مع القصف والقتل والدمار المعتاد الذي تمارسه إسرائيل: تأمين ما يكفي من الغذاء والماء، والاستعداد لانقطاع التيار الكهربائي، والبقاء بعيدا عن النوافذ، وجمع كل أفراد الأسرة في مكان واحد في حالة سقوط صاروخ. كانت الأمهات يواسين أطفالهن بقول: “إذا قصف منزلنا وهلكنا جميعاً معا، فلن نعاني من أي حسرة”.
لن تكون هناك مكالمات هاتفية ولا مصابيح ولا شموع بعد غروب الشمس لأن الطائرات الحربية الإسرائيلية المتعطشة للدماء الفلسطينية مستعدة للقضاء على أي كائن حي.
في 14 تشرين الأول/أكتوبر، تلقى جميع السكان في منطقتي تحذيرًا من القوات الإسرائيلية بأن شمال غزة سيصبح منطقة حرب وأنه علينا أن نتجه جنوبا نحو “منطقة آمنة”. لقد شعرت بالذعر مرة أخرى عند سماع هذا الخبر.
اجتمع أفراد عائلتي لمناقشة ما يحدث ورفضوا في البداية فكرة النزوح. لقد وقفت بحزم ضد قرارهم. بكيت حتى انقطع صوتي، متوسلة إليهم أن يغادروا. لم أكن أرغب في شيء أكثر من سلامة الجميع ولم أستطع تحمل فكرة فقدان أي شخص. وبعد محاولاتي اليائسة لإقناعهم، وافقت عائلتي على الرحيل على مضض.
لقد حزمنا الأساسيّات مثل المستندات وبعض الملابس والطعام، لكننا لم نتمكن من حمل الكثير لعدم توفّر وسائل النقل. مع قطع إسرائيل الوقود الآن، لم تكن هناك سيارات متاحة لنقلنا إلى الجنوب، مما اضطرنا إلى حمل كل شيء بأنفسنا. لقد احتفظنا بممتلكاتنا القليلة، تاركين وراءنا كل ذكرياتنا وضحكنا واحتفالنا والحبّ الذي شاركناه في منزلنا. وبينما كنا متجهين إلى الشارع الرئيسي، صدمنا بعدد الأشخاص الذين تم إخلاؤهم مثلنا. آه، كيف يمكن لقرار واحد يتخذه عضو واحد أن يغير حياة عائلة بأكملها إلى الأبد!
هل يمكنني تقسيم حياتي؟
فكرت وأنا أنظر حولي هل هذا هو شكل النكبة؟ تبدو تعابير الوجه ذاتها على محيا جميع من فروا من منازلهم، وأعينهم تبكي طلبا للمساعدة دون ذرف الدموع، ويصرخون دون صوت. كان الهواء كثيفًا بسبب العبء الثقيل الذي كان يحمله الناس. لقد تجنبنا التواصل البصري مع بعضنا البعض، لأننا نعلم أننا نتجه نحو المجهول ولا نريد التأكد من أن هذا الكابوس الحي حقيقي.
قال أخي الذي شاهد مدى حزني همسًا: “لا تبكي”. واصلنا رحلتنا، مرهقين ونكافح من أجل العثور على طريقنا بين الحشود الهائلة من العائلات الهاربة. كان الطريق طويلاً، لكننا تمكنا من العثور على طريقنا ووصلنا إلى منزل خالتنا في الجنوب بعد ثلاث ساعات. قضينا بضعة أيام نتابع عن كثب الأخبار المروعة، قصة تلو الأخرى، عن القتل الجماعي للفلسطينيين ومحو عائلات وأحياء بأكملها في غزة، بما في ذلك الجنوب. على الرغم من ذلك، بذلنا كل ما في وسعنا لإلهاء أنفسنا ومحاولة عيش يوم “طبيعي” قدر الإمكان.
استيقظت أنا وعائلتي في وقت مبكر من صباح يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر لتناول وجبة الإفطار معًا. مع مرور اليوم، أصبح الجو هادئًا في منزل خالتي بينما كنا جميعًا مشغولين بالتنظيف والقيام بالأعمال المنزلية المختلفة. كان الصمت المخيف والمثير للقلق عاليا لدرجة أننا، للحظة، نسينا أننا في حرب. بينما قد يظن البعض أن هذه نعمة، ندرك جميعًا في زمن الحرب أنها الهدوء الذي يسبق العاصفة هو مقدمة للكارثة التي تلوح في الأفق. لقد حاولت جاهدة قمع القلق الشديد الذي شعرت به ولكني لم أستطع تجاهله.
قبل أن أدرك ذلك، شقّ شلال من الألوان الحمراء والسحب الخزامية سماء المساء، مع أذان المغرب من المسجد المجاور الذي خرق الهدوء الذي يصم الآذان. بعد غروب الشمس، صلينا جميعًا معًا ثم جلسنا بصمت، كل واحد منا في زاوية، في لحظة الهدوء. لم نتحدّث مع بعضنا البعض، غارقين في أفكارنا ونأمل أن ينتهي هذا الكابوس قريبًا.
في طرفة عين، اخترق لهب ساخن مليء بالدخان المنزل. لم أتمكن من رؤية أي شيء وعلقت قدماي. لم أتمكن من تحريكهما، ولكن شعورًا داخلي كان يقول إن أفراد عائلتي لم يصابوا بأذى. استغرق الأمر مني ثانية لأدرك أنه تم استهدافنا بصاروخ. فكرت: “هكذا تشعر عندما تكون تحت الأنقاض”. بقيت هادئةً ومددت ذراعي لأتأكد من دفني بالكامل. وتنافست رائحة المتفجرات الخانقة مع الأكسجين. كان كل شيء مظلمًا وصامتًا حتى سمعت أصوات خالتي وابنة عمي وأمي.
هرعت المصابيح الكهربائية إلينا لإنقاذنا. رأيت والدي ومددت يدي إليه. لقد حاول تهدئتي، وطلب مني التحلي بالصبر. أدركت أن جدارًا ضخمًا قد انهار على قدمي. ظهرت مجموعة من رجال الإنقاذ على الفور وعملوا معًا لرفع الأنقاض عني. وبمعجزة ما، تحررت دون أن يصيبني أي أذى.
نظرت إلى والدتي، وكان وجهها ملطخًا بالدماء ونصف جسدها لا يزال تحت الأنقاض؛ ثم رأيت إخوتي. لقد تحققت لمعرفة ما إذا كان أفراد الأسرة الآخرون بخير، لكنني لم أتمكن من سماع صوت أختي أو رؤيتها. وعرفت أنها كانت تحت الأنقاض بالكامل.
ركضت إلى الشارع متوسّلة لأي شخص أن يساعدني في إنقاذ أختي الكبرى هبة وبدأت بالصراخ: “أختي هنا، أرجوك أنقذها!”. سمعت الناس في الداخل يقولون: “إنها على قيد الحياة”، وظننت للحظة أنهم يقصدونها. لكنها كانت عمتي الأخرى وكنت سعيدةً لأنها خرجت بأمان. استغرق رجال الإنقاذ 10 دقائق لسحب أختي هبة. وسألتهم إذا كانت على قيد الحياة، لكن لم يردّ أحد. ووصلت سيارة الإسعاف لنقلها إلى المستشفى الأوروبي.
وقفت هناك حافية القدمين وشاهدتها وهي تبتعد. أمسك أخي الأكبر، وهو ممرض، بيدي وأجهش بالبكاء. سألته إذا كانت على قيد الحياة، لكنه لم يجب. لاحظ أنني كنت حافية القدمين فأعطاني حذاءه. نقلتنا سيارة إسعاف أخرى جميعًا إلى المستشفى، حيث تلقيت نبأ وفاة هبة.
لم أستطع أن أفهم. لقد كانت على بعد خطوات قليلة مني. كيف لم تنجُ؟ مع تسارع الأفكار في ذهني، سألت نفسي: لماذا لا أستطيع أن أقسم حياتي إلى نصفين لأشاركها معها حتى تتمكن من البقاء على قيد الحياة؟
هل المشرحة باردة؟
كنت غير قادرة على التحدث، ولم أستطع البكاء أو الصراخ. حدث كل شيء بسرعة كبيرة لدرجة أننا لم نسمع حتى صوت الصاروخ يقترب. في غضون ثوان، أصبحت عائلة مكونة من ستة أفراد عائلة مكونة من خمسة أفراد. كل ما كنت أفكر فيه هو لماذا؟ لماذا هذا يجب أن يحدث؟ ما الخطأ الذي ارتكبته؟ كنا في الجنوب. لقد فعلنا ما أمرونا به. كنا جميعًا مدنيين. أليس من المفترض أن نكون في “المنطقة الآمنة”؟
علمنا في تلك الليلة أن الطائرات الحربية الإسرائيلية استهدفت المنزل المجاور بصاروخ ضخم، فقتلت عائلة بأكملها – أم وابنتان وولدان وزوجتيهما وخمسة أطفال – ومحت نصف منزل عمتي في هذه العملية.
في تلك الليلة، نمنا جميعًا على أرض المستشفى وكانت أختي في المشرحة. استيقظت فجأة في منتصف الليل، وصرخت: “هذا كله خطأي! أصررت على أن نغادر جميعنا منزلنا في الشمال”. ظللت أفكر في تأثير الفراشة – سلسلة الأحداث التي أعقبت قراري بالبقاء في غزة. ربما لو تركت عائلتي لقررت البقاء في منزلنا ولكانت أختي لا تزال على قيد الحياة.
بينما واصلت إلقاء اللوم على نفسي، عانقتني والدتي وأكدت لي أن ذلك لم يكن خطأي أبدًا.
لم نتمكن من النوم وانتظرنا بفارغ الصبر حتى أشرقت الشمس أخيرًا. جاء عمي وطلب منا الذهاب إلى المشرحة لتوديع هبة. كان الطابور المؤدي إلى المشرحة طويلًا ومؤلمًا حيث لم نكن الوحيدين الذين فقدوا أحباءهم في ذلك اليوم. وفي النهاية اتصل بنا خبراء دفن الموتى لرؤيتها. كانت مغطاة باللون الأبيض وكانت ملامح وجهها هادئة. سألت أمي: “هل يمكنني أن أعانقها؟” فوافقت أمي بسهولة. فأمسكت بأختي بقوة وطلبت منها أن تسامحني.
حاول عامل دفن الموتى أن يسلمني قلادة هبة، لكنني رفضت أن آخذها. لم يكن الأمر حقيقيًا بالنسبة لي ولم أرغب في الاحتفاظ بها. لم أكن أريد أن أصدق أنني فقدت أختي الوحيدة إلى الأبد. لا شيء منطقي بالنسبة لي. كان من المفترض أن نكبر معًا. وكان من المفترض أن يكون أطفالي المستقبليين أفضل أصدقاء لأطفالها المستقبليين. كان من المفترض أن يكون لدينا الكثير من الوقت والعديد من الذكريات لنخلقها معًا.
الحياة في خيمة
بعد أن ودّعنا أختي، لم يكن لدينا مكان نذهب إليه. بعد أن دُمّر منزل عمتي، أصبحنا بلا مأوى ولا نملك سوى الملابس التي نرتديها المغطاة بالدم والغبار والدخان. أصبحنا الآن مرعوبين من المنازل ونرفض الذهاب إلى أي منزل آخر، إذ لم تعد الجدران والأسقف قادرة على حمايتنا. قررنا نصب خيمة في الخارج في فناء المستشفى وصنعناها من أغطية الأسرة وبعض الطوب الذي وجدناه.
عندها بدأ كفاحنا لتأمين الضروريات الأساسية مثل الماء والغذاء والبطانيات والوصول إلى الحمامات.كنا قادرين على استخدام حمامات المرضى، إلا أنها كانت بعيدة جدًا ومزدحمة دائمًا. ومع ذلك، لم نمانع الانتظار لأنه لم يكن لدينا بديل آخر.
يتطلب تأمين المياه النظيفة المزيد من الجهد حيث أدى قطع إسرائيل للمياه إلى خلق نقص كبير فيها. ومع اعتماد آلاف الأشخاص على المستشفى للحصول على مأوى، اضطررنا للوقوف في طوابير لساعات لملء زجاجات المياه الخاصة بنا. في الأيام القليلة الأولى، قدّم لنا أقارب عمتي بعض الطعام إلى أن نتمكن من التنقل وشراء بعض الطعام من متجر صغير بالقرب من المستشفى.
خلال هذه الكارثة، جعلنا مقدار الجهد الذي بذلته عائلتي يوميًا للبقاء على قيد الحياة نشعر بالقلق طوال الوقت. لا نكاد نجد الوقت أو الطاقة أو المساحة لنتذكر هبة أو نحزن عليها أو حتى نبكي. كل ليلة، بعد يوم طويل ومتعب من البحث عن الماء والطعام، أفكر بها قبل النوم. أغمض عيني وأحاول أن أتذكر محادثتنا الأخيرة وكلماتها الأخيرة لي. كل ما أستطيع أن أتذكره هو ابتسامتها في ذلك اليوم عندما رأتني ألعب مع أبناء عمومتي.
إن جسدي وعقلي مرهقان، وأجد نفسي غير قادرة على البكاء على أختي. مع مرور يوم طويل آخر، أشعر أن عقلي ينشط آلياته الدفاعية ويحجب مشاعري. وأظل أسأل نفسي: ما هو أكثر عذابًا في الحرب: أن تفقد من تحب أم تُمنع من الحزن عليه؟
المصدر: ميدل إيست آي