شكلت عملية “طوفان الأقصى” التي حدثت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نقلة نوعية في معنى وجود حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على الأراضي الفلسطينية، فهي لم تعد مجرد فصيل فلسطيني مسلح، يعتمد من الكفاح المسلح منهجًا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل تحولت إلى جبهة مواجهة رئيسية مع “إسرائيل” في فلسطين، وقدمت نفسها على أنها الطرف الفلسطيني الرئيسي في معادلة السلم والحرب مع “إسرائيل”.
إن متابعة التطور السياسي والعسكري الذي مرت به حركة حماس منذ تأسيسها عام 1987 وحتى الآن، يظهر بما لا يقبل الشك أنها استفادت من الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت في المرحلة والمواجهات السابقة، وما يدلّل على ذلك أنه بعد مضيّ ما يقرب من 55 يومًا للحرب الإسرائيلية على غزة، ما زالت البنية التحتية العسكرية للحركة قادرة على المواجهة، والأهم تحديد شروط الهدن المؤقتة مع “إسرائيل”، سواء على مستوى وقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى.
وعلى صعيد المواجهات العسكرية المباشرة، وتحديدًا في شمالي قطاع غزة، تمكّنت الحركة، ورغم الهجوم الإسرائيلي الشامل على القطاع، أن تجبر القوات الإسرائيلية على التراجع في أكثر من مرة، فضلًا عن عدم تمكُّن “إسرائيل” من إحكام سيطرتها الشاملة على مدن وبلدات القطاع.
إذ أظهرت عمليات حرب العصابات، سواء عبر العبوات الناسفة أو التفجير من المسافة صفر، فضلًا عن استراتيجية الأنفاق، إخفاقًا عسكريًّا ما زالت “إسرائيل” عاجزة عن النهوض منه، وهو ما دفعها إلى ممارسة حرب تدمير شامل في القطاع، كمدخل يمكن من خلاله إخضاع حماس وإجبارها على القبول بالشروط الإسرائيلية.
الوجه الجديد لحماس
بالتوافق مع ما تقدّم، قدمت حماس نفسها عبر هذه الحرب على أنها الطرف الفلسطيني الوحيد الذي ينبغي على المجتمع الدولي التحاور معه، من أجل وضع نهاية حقيقية وشاملة للقضية الفلسطينية، وأن السلطة الفلسطينية التي يقودها محمود عباس، ليست إلا واقع سياسي فرضته “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني، عبر اتفاقيات السلام مع “إسرائيل” عام 1993، بل أفرغت هذه السلطة من محتواها الحقيقي، بعد أن سحبت جميع الصلاحيات الأمنية والسياسية منها.
ويمكن اعتبار هذا الواقع هو الدافع الرئيسي لمضيّ حركة حماس من أجل إعادة تشكيل معادلة القوة مع “إسرائيل”، وقدمت نفسها كحركة تعتمد من الأيديولوجيا والتنظيم والقومية الفائقة ممثلًا جديدًا للشعب الفلسطيني.
والأهم من ذلك، إن القيادة الشبابية للحركة، والحديث هنا عن يحيى السنوار، قدمت نفسها بطريقة مغايرة عن القيادات الأخرى للحركة، والحديث هنا عن قيادات الصف الأول في الحركة، فمنذ صعود السنوار إلى واجهة الأحداث بعد إطلاق سراحه من سجون الاحتلال، أخذت سلوكيات حركة حماس تتخذ نهجًا جديدًا يوازن بين ضرورة البقاء وضرورة المواجهة الحاسمة مع “إسرائيل”.
والهدف من ذلك ليس فقط تعديل شروط المواجهة مع “إسرائيل”، الأسير مقابل الأسير، والصاروخ مقابل الصاروخ، بل عبر إجبار المجتمع الدولي لإعادة النظر في القضية الفلسطينية، وعدم اختزال هذه النظرة على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فيما يمكن وصفه بإعادة إستنساخ نموذج صعود طالبان الأخير في أفغانستان.
ويمكن اعتبار السنوار أنه الوجه الأبرز لحماس الجديدة، إذ وصفته مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية في تقرير لها نشرته في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بأنه الرجل صاحب النفوذ الأكبر في الأراضي الفلسطينية، وهو من أعضاء حركة حماس الأوائل، وقد أسهم في تشكيل جهاز أمنها الخاص المعروف اختصارًا بـ”مجد”، والذي يُنسب إليه العديد من النجاحات الاستخباراتية التي حققتها الحركة في الداخل الإسرائيلي الفترة الماضية.
فرغم التوصيفات الإرهابية التي أطلقتها الولايات المتحدة على حركة طالبان منذ عام 2001، إلا أنه ونتيجة عجز الطرف السياسي الأفغاني الذي سلمته مقاليد السلطة بعد عام 2001، عادت وتحاورت مع حركة طالبان عام 2020، ما مهّد لانسحابها بالنهاية، وتسليم مقاليد السلطة للحركة، وهو واقع من غير المستبعد أن يجد طريقه إلى الداخل الفلسطيني، خصوصًا مع عجز “إسرائيل” على تحقيق أهدافها العسكرية، وتعالي أصوات الرأي العام الدولي لإيقاف هذه الحرب، والبدء بمسار سياسي جديد ينهي هذا الصراع.
خصوصًا أن الولايات المتحدة لعبت دورًا هامًّا في تأزيم الأوضاع في فلسطين، سواء عبر دعمها المطلق لـ”إسرائيل”، أو عبر دعمها للسلطة الفلسطينية على حساب حركة حماس، فحتى في الوقت الذي قبلت فيه الحركة الانخراط في العمل السياسي، والمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في 25 يناير/ كانون الثاني 2006، وبعدما فازت الحركة بأغلب مقاعد المجلس، تم الانقلاب على هذا الاستحقاق السياسي، ما أدّى إلى اقتتال داخلي فلسطيني عمّق كثيرًا من الخلاف بين السلطة والحركة، ما انعكس سلبًا على واقع ومستقبل القضية الفلسطينية.
إن خطوة الحركة الأخيرة، ورغم التكاليف الاستراتيجية الكبيرة التي بُنيت عليها، وتحديدًا على مستوى الخسائر البشرية وتدمير البنية التحتية لقطاع غزة، إلا أنها نجحت في إعادة تشكيل القضية الفلسطينية على الصعيدَين الإقليمي والدولي، وأظهرت الوجه المتطرف لحكومة بنيامين نتنياهو، سواء على مستوى التصريحات الصحفية التي صدرت من وزراء حكومته، أو عبر عمليات الإبادة الجماعية التي مارستها/ تمارسها الآلة العسكرية الإسرئيلية في القطاع.
والأهم من كل ذلك أنها أعادت إحياء القضية الفلسطينية في نفوس الشعوب العربية، وحولتها من قضية توفّر شرعية لبعض الأنظمة العربية، إلى قضية أعادت الحديث من جديد عن شرعية هذه الأنظمة، وموقفها من القضايا العربية.
استراتيجية المواجهة والاستنزاف
أظهرت التكتيات العسكرية التي اعتمدتها الحركة حتى الآن عن تطور كبير أصاب الآلة العسكرية للحركة، سواء على مستوى قذائف الياسين التي نجحت في تعطيل تقدم العديد من الدبابات والدروع الإسرائيلية، أو على مستوى الطائرات المسيَّرة التي غيّرت من استراتيجيات المواجهة مع “إسرائيل”.
وهذا الواقع ما زالت العديد من مراكز البحوث في الداخل الإسرائيلي تحاول دراسة تأثيراته على مستقبل هذه الحرب، خصوصًا أنها المرة الأولى التي تجد “إسرائيل” نفسها عاجزة عن تحقيق نصر حقيقي يُذكر، ولعلّ أبرز تحول عسكري أحدثته الاستراتيجية العسكرية التي اعتمدتها الحركة في هذه الحرب، هو ثني “إسرائيل” تمامًا عن فكرة إعادة احتلال القطاع مرة أخرى.
وفي سياق ما تقدم، أظهرت استراتيجية الكمائن فاعلية كبيرة في تعطيل الآلة العسكرية الإسرائيلية، سواء عبر شلّ عمليات التقدم الإسرائيلي في القطاع، أو عبر عدم القدرة على اختيار مكان وزمان المعركة.
ولعلّ هذا ما أسهم بشكل كبير في طول مدة الحرب، وهو توجُّه أثبت جهوزية عالية للحركة في الإعداد للمرحلة الثانية من عملية “طوفان الأقصى”، وذلك عبر التحول من الهجوم إلى الدفاع المتراجع، والذي أسهم في إجبار حكومة نتنياهو على القبول بالهدنة المؤقتة، وكذلك في دفع الولايات المتحدة على العودة خطوة إلى الوراء في تقديم دعم مطلق لـ”إسرائيل” في هذه الحرب.
ما بعد الحرب
إن الهجوم الذي قادته حماس، والذي كان بدوره بمثابة فشل استخباراتي هائل بالنسبة إلى “إسرائيل”، لم يكن مخططًا له بشكل جيد (ومدعوم جيدًا) فحسب، بل إنه يشكّل أيضًا تحولًا كبيرًا في استراتيجية حماس منذ سيطرة الحركة على غزة عام 2007.
وأعلنت حماس في ميثاقها لعام 1988 أنه “لا حل للقضية الفلسطينية إلا من خلال الجهاد”، ومع ذلك، وعلى مدى السنوات الـ 16 الماضية، عملت حماس على تقديم نفسها للمجتمع الدولي ككيان سياسي شرعي، وفي حين أنها لم تتوقف أبدًا عن تبنّي الجهاد سعيًا للتحرير، فقد حصلت أيضًا على دعم شعبي من خلال الخدمات الاجتماعية والحكم في غزة، ونفذت استراتيجية اتصالات جيدة الإعداد سلطت الضوء على حكمها الداخلي وسياستها الخارجية.
علاوة على ذلك، ورغم خطابها الأكثر ليونة بعض الشيء في السنوات الأخيرة، ظلت المقاومة مبدأ أساسيًّا بالنسبة إلى حماس، التي تشير في وثيقتها المحدَّثة لعام 2017 إلى أن “المقاومة والجهاد من أجل تحرير فلسطين سيظلان حقًّا مشروعًا وواجبًا وشرفًا للشعب الفلسطيني”، وتظل حماس ملتزمة بهدفها الأصلي، وهو قيادة الشعب الفلسطيني ضد “إسرائيل” بأي وسيلة ضرورية.
ومن خلال حربها الأخيرة، أوضحت حركة حماس للجميع أن السلام الدائم في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق دون معالجة القضية الفلسطينية من الأساس، كما أوضحت أن الخلاف بين حماس والسلطة الفلسطينية يحول فعليًّا دون إمكانية السلام، وأعلن رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في خطاب ألقاه يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول أن “غزة هي عمود المقاومة”، موضحًا مرة أخرى وجهة نظره بأن قيادة غزة هي الممثل الحقيقي للفلسطينيين.
وفي حين أن الوضع في المنطقة لا يزال تكتنفه درجة كبيرة من عدم اليقين، فمن الواضح أن حماس أرادت أن تثبت أنها -وليس السلطة الفلسطينية وليس الحكومات العربية التي تقوم بالتطبيع مع “إسرائيل”- هي الفاعل الأكثر أهمية في القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط.