سارت الأجواء في المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس” في سويسرا يوم 29 يناير/ كانون الثاني 2009، بوتيرتها المعتادة، قبل أن تُعقد الجلسة التي شارك فيها رئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان، والأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، والرئيس الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز، والتي خيّم عليها الغضب التركي.
خلال الجلسة التي أدارها آنذاك الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إجناتيوس، احتدَّ النقاش وتوترت الأجواء، بعدما تحدث بيريز لمدة 25 دقيقة، فيما تعرض أردوغان للمقاطعة بعد 12 دقيقة فقط، فما كان منه إلا أن بادر سريعًا بمكاشفة الرئيس الإسرائيلي بجرائم بلاده على مرأى ومسمع من العالم، قبل أن يغادر القاعة دون أن يصافحه.
صنعت اللغة الصارمة التي تحدث بها أردوغان ليلتها صورة ذهنية خاصة، مفادها أن منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أمام شخصية قوية بعد واقعة “دافوس”، التي دفعت آلاف الأتراك إلى الاحتشاد لاحقًا وهم يحملون الأعلام المحلية والفلسطينية لاستقباله لدى عودته عبر مطار أتاتورك الدولي بإسطنبول، كونه انتصر لغزة بعد العدوان الإسرائيلي عليها لمدة 21 يومًا عام 2009.
ما بين أجواء جلسة “دافوس” وتعاطي الرئيس التركي خلال الفترة الأولى للعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، استشعرت شريحة من الرأي العام وجود “فجوة” بسبب “مفردات حمائمية”، لم تكن على هوى من اعتادوا من أردوغان على الردود القوية في مواجهة “إسرائيل”، وممّن رفعوا سقف الرهانات الشعبية على أنه القادر على التصدي لها، قبل أن تكثر التساؤلات حول الموقف التركي العملي المناصر لغزة.
الموقف السياسي
هنا نجد أنفسنا أمام أولى الإشكالات (ضرورات السياسة) التي ترتبط أولًا بخصوصية الملف الفلسطيني ودموية العدو الذي يواجهه، وثانيًا الطموحات الشعبية على أردوغان الذي يقدم نفسه للعالم الإسلامي باعتباره “نصيرًا للمضطهدين”، وثالثًا جملة العوامل الواقعية التي تحكم السياسات التركية والدولية (على الأقل نظريًّا)، وسط صراعات تتفاقم مؤخرًا بقوة وتجعل جميع الخيارات مفتوحة.
خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي يتجاوز الشهرَين، تدرّجت لهجة تركيا وفقًا للخطاب السياسي لأردوغان بين الحياد النسبي والتصعيد الكبير، ثم الهجوم الحاد على “إسرائيل“، نتيجة الزيادة المضطردة في أعداد الضحايا من المدنيين في الجانب الفلسطينيين (أكثر من 16 ألف شهيد و42 ألف مصاب).
ومع تفاقم الاستهداف الإسرائيلي للمنشآت والمرافق العامة (هدم أكثر من 70% من الوحدات السكنية في غزة، تدمير مقرات حكومية، مستشفيات، مدراس، مساجد وكنائس، ومستشفيات)، وتبنّي تركيا لـ”خيار الهدنة” وعدم قطع العلاقات السياسية والاقتصادية، رأت شريحة من الرأي العام في المنطقة أن ناك تناقضًا بين الخطاب والممارسة التركية، بحكم طبيعة العلاقات التركية-الإسرائيلية المتداخلة.
ورغم أن تفكيك هذه الإشكالية ليس سهلًا، بحكم خريطة التقاطعات والمصالح التركية إقليميًّا ودوليًّا، والتعامل معها من زاوية التوازنات، يوحى للبعض بوجود تناقض رغم اتساق المواقف والسياسات التركية خلال الـ 20 عامًا الماضية، وأنه مهما تشدّد أردوغان سياسيًّا ودبلوماسيًّا في بعض الملفات والقضايا، فهو لا يتخلى عن الحسابات الدقيقة حتى لا تتضرر المصالح التركية.
ولا يُخفي صانع “السياسة الخارجية التركية” توجُّه البلاد نحو “خلق الظروف المناسبة للسلام والتنمية المستدامَين، والمساهمة في إنشاء منطقة ازدهار واستقرار، مع حماية مصالح البلاد في البيئة الإقليمية والدولية المضطربة”، نتيجة “عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ وزيادة الهشاشة على الصعيد العالمي، وتهديد الأزمات والصراعات في الجوار للسلام والاستقرار“.
وتعتمد سياسة تركيا الخارجية على “تنفيذ دبلوماسية استراتيجية، وقدرة على المناورة، عبر 260 بعثة خارجية مدعومة بموقع البلاد الجغرافي المميز، ومؤسساتها القوية ومواردها البشرية القوية واقتصادها الديناميكي، والتقاطع مع تحالفات إقليمية ثلاثية أو متعددة الأطراف في البلقان والشرق الأوسط وأفريقيا، ومنظومة الناتو، وجنوب ووسط آسيا، وأمريكا اللاتينية، ومنطقة البحر الكاريبي”.
كما تضع تركيا بعين الاعتبار دورها المتنامي في “حل النزاعات الإقليمية والدولية عبر جهود الوساطة النشطة”، وهو دور تستكمله الجهود الشعبية التركية، عبر “تشجيع المشاركة الفعّالة على الصعيد الفردي والمؤسساتي” في مواجهة تمدد “الكراهية العرقية والدينية والتمييز العنصري والتطرف ومعاداة الأجانب ومناهضة الإسلام”، عبر العديد من المبادرات الإنسانية والتنموية لمدّ الجسور عالميًّا.
وفي ملف العدوان على غزة، تتدرّج الخيارات التركية منذ بدء العدوان الإسرائيلي، خاصة المبادرة الدبلوماسية التي حاول خلالها أردوغان أداء دور “الوسيط الإقليمي” المتقاطع مع “إسرائيل” وحركة حماس، لقطع الطريق على تفاقم العمليات العسكرية الانتقامية التي تنفّذها قوات الاحتلال، ومحاولة إلقاء طوق نجاة للطرف الفلسطيني حتى لا تتفاقم أعداد الضحايا.
عمل أردوغان، عبر المؤسسات التركية المعنية لا سيما وزارتَي الخارجية والاستخبارات، وحلفاء بلاده على المسارعة لتفعيل سياسة طرق الأبواب، مصحوبة بلهجة دبلوماسية “شبه حيادية” لم تستمر طويلًا، بسبب كثافة العمليات العسكرية الغاشمة، وزيادة الضحايا وعمليات التشريد، التي شكّلت جميعها إحراجًا لجهوده، فارتفعت “نبرة” خطابه السياسي وتوصيفاته المعبّرة عن “دموية إسرائيل”.
إشكالية الاقتصاد
ثاني الإشكالات يتبدّى في الجدل حول العلاقات الاقتصادية التركية-الإسرائيلية (طبيعتها، حصيلتها، وأهميتها للطرفَين)، فيما يتساءل أنصار “المقاطعة” عن جدوى استمرار هذه العلاقات التي تغذّي على حدّ وصفهم آلة الحرب الإسرائيلية، علمًا أن تركيا تتأرجح بين المركزَين الخامس والسادس لأكبر شريك تجاري لـ”إسرائيل” التي تعاني من عجز تجاري مع تركيا.
ومن خلال البحث وسط البيانات الرسمية (معهد الإحصاء التركي، والبنك المركزي، وجمعية المصدرين الأتراك) قبل العدوان، فإن قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة التحويلية تسهم في تنشيط حركة التجارة بين تركيا و”إسرائيل”، فيما تشير تقديرات إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدَين ارتفع بنسبة 475% خلال الـ 20 عامًا الماضية، وكان هناك اتجاه لتطوير التعاون التجاري قبل الحرب الإسرائيلية على غزة.
تستورد “إسرائيل” حوالي 65% من استهلاكها من الفولاذ من تركيا، بحسب رئيس جمعية مصدري الفولاذ التركي عدنان أصلان، الذي يعدّ المنتج الأكثر تصديرًا لتل أبيب بقيمة تقارب المليار دولار، إلى جانب صادرات أخرى (المركبات، الأسمنت، الآلات والأجهزة الميكانيكية والكهربائية، والمنسوجات، والأغذية والمحاصيل الزراعية)، وتستورد تركيا من “إسرائيل” عدة منتجات أهمها المنتجات الكيماوية والوقود.
و”إسرائيل”، في ظل قرب المسافة وسهولة حركة النقل، ليست استثناء في عمليات التبادل التجاري بين تركيا ودول الشرق الأوسط والخليج (بلغت حوالي 26.7 مليار دولار خلال الأشهر الـ 10 الأولى من العام الجاري، وفقًا لمجلس المصدرين الأتراك)، حيث حلَّ العراق في الصدارة بـ 7.7 مليارات دولار، ثم الإمارات بـ 4.4 مليارات دولار، وإيران بـ 2 مليار دولار، والسعودية بـ 1.8 مليار دولار.
وأكدت الجولة الخليجية التي قام بها أردوغان للسعودية وقطر والإمارات في يوليو/ تموز 2023، كيف تعلق تركيا آمالًا كبيرة على جذب المزيد من الاستثمارات والتمويل لتخفيف الضغط على ميزانية البلاد، والحد من التضخم، وإعادة الاعتبار للعملة المحلية (الليرة)، ولم يخفِ أردوغان أهداف جولته، التي هي الاستثمارات والتمويل المالي في صناعات الدفاع والبنية التحتية وفرصة شراء أصول في تركيا.
وتتحرك تركيا منذ الانتخابات العامة في مايو/ أيار الماضي “على أطراف أصابعها” وفق مصادر “نون بوست”، بعدما تعهّدت الحكومة الجديدة (6 سبتمبر/ أيلول 2023) بـ”تنفيذ خطة اقتصادية متوسطة الأجل (3 سنوات) لتحقيق الاستقرار المالي، وتشجيع الاستثمار المحلي، وخفض التضخم إلى خانة الآحاد، وتعزيز النمو والتوظيف، وبرامج الحماية الاجتماعية، حتى تحقق تركيا نموًا يتجاوز تريليونًا و300 مليون دولار”.
الحسابات الاقتصادية المعقدة ليست قاصرة على تركيا، كون صندوق النقد الدولي شرع في مراجعة توقعاته الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ضوء الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث بحسب نائبَي مديرة الصندوق لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، جون بلودورن وتالين كورانشيليان، “ستكون لها عواقب واسعة النطاق على الشعوب والاقتصادات، ومدى التأثير غير واضح”.
التوقعات السوداوية حذّرت من أنه “في حالة نشوب نزاع واسع النطاق، فالاقتصادات الأكثر عرضة للخطر بشكل مباشر سيتم خفضها، خاصة الدول التي يعتمد اقتصادها على السياحة، فهي ستكون الأكثر تضررًا، وستشهد تأثيرات غير مباشرة على النمو، مع ارتفاع المخاطر بسبب الحرب ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، مع ما يترتّب عن ذلك من آثار غير مباشرة على الاقتصادات المثقلة بالديون”.
يأتي هذا فيما أظهرت بيانات معهد الإحصاء التركي (قبل حرب غزة) أن إيرادات البلاد من السياحة قفزت إلى 20.23 مليار دولار خلال الربع الثالث من العام الجاري، ورهان تركيا على القطاع الحيوي في سدّ العجز في ميزان المعاملات الجارية، بعدما استقبلت تركيا حوالي 36 مليونًا و754 ألف سائح، يتصدرهم الألمان والروس والبريطانيون، فيما يقدر عدد السياح الإسرائيليين بحوالي 800 ألف سائح.
من جانبها، تقول تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إنه “إذا تفاقم الصراع وامتدَّ إلى مناطق أوسع في الشرق الأوسط، فإن مخاطر تباطؤ النمو وزيادة التضخم ستكون أكبر بكثير ممّا هي عليه الآن، وأن التجارة قد تتأثر بشكل كبير بسبب وجود طريقَين تجاريَّين دوليَّين في منطقة الصراع، هما مضيق هرمز وقناة السويس”.
وفيما يخص تركيا، توقعت المنظمة “تباطؤ نمو الاقتصاد التركي إلى 4.5% في العام الجاري، على أن يبلغ النمو 2.9% العام المقبل، و3.2% عام 2025″، بعدما سجّل الاقتصاد التركي أداء قويًّا في النصف الأول من العام الجاري نتيجة السياسات النقدية والمالية المتَّخذة، بينما “المؤشرات المستقبلية تشير إلى تراجع قوة النمو خلال الفترة المتبقية من العام نفسه”.
ونجحت تركيا بعد معاناة اقتصادية مستمرة منذ عام 2018، في علاج نسبي للعجز التجاري الذي تقلص بنسبة 32.6% على أساس سنوي إلى 5.92 مليارات دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني، فيما ارتفعت الصادرات إلى 23.01 مليار دولار، بحسب وزير التجارة عمر بولات، بينما تراجعت الواردات إلى 28.93 مليار دولار، وقال أردوغان إن إجمالي احتياطات البنك المركزي من النقد الأجنبي زادت إلى 134.5 مليار دولار.
حديث المقاطعة
وسط هذه الأجواء الملبّدة بالغيوم، يظهر التناقض النسبي بين الرؤية الرسمية والشعبية في تقييم العلاقات الاقتصادية التركية-الإسرائيلية، من واقع ردّ الفعل الشعبي على العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، حيث شهدت مناطق وبلديات تركية حملات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وكذلك العلامات التجارية المتهمة بدعم “إسرائيل” (مشروبات ومأكولات ومنظفات).
لكن مرونة حملات المقاطعة الشعبية (في تركيا وخارجها) ليست في مستوى حسابات المؤسسات الرسمية، ومن ثم لم تتحول مقاطعة “إسرائيل” والعلامات التجارية المتقاطعة معها إلى قرار رسمي، رغم المعركة الحزبية حول “طبيعة” البضائع التركية المصدرة لـ”إسرائيل”، التي شهدها البرلمان التركي الذي دخل على خط المقاطعة، بمنع بيع منتجات شهيرة في المطاعم والمقاهي الداخلية لتعاونها مع “إسرائيل”.
وفيما يعتقد البعض أن العلاقات الدبلوماسية المتأرجحة بين تركيا و”إسرائيل” لا تضرّ بالتجارة البينية (قيمتها تقارب الـ 10 مليارات دولار)، يوضّح الواقع أن الأعمال التجارية تتأثر بتردي العلاقات الدبلوماسية، ومنذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، انعكست اللهجة والخطوات الحادة دبلوماسيًّا على حجم التبادل التجاري بين تركيا و”إسرائيل” بصورة واضحة.
وكشف وزير التجارة التركي عن انخفاض إلى أكثر من النصف مع “إسرائيل” مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، دون الإشارة إلى ارتباطها بالعدوان على غزة، وفي سياق محاولات “إسرائيل” الحفاظ على ماء الوجه، قالت تسريبات منشورة في صحف عبرية من بينها “هآارتس”، إن سلاسل ومتاجر إسرائيلية شهيرة (رامي ليفي، بلدي، شوفرسال، ونيتو المستوردة للغذاء) أوقفت وارداتها من تركيا.
لكن تسريبات أخرى نشرتها صحيفة “يسرائيل هيوم”، تقول إن هذه الخطوة أقدم عليها بعض المستوردين بشكل فردي، وفي المقابل تحذّر أصوات حزبية واقتصادية في “إسرائيل” من مغبّة المقاطعة الاقتصادية، بعد مطالبة حزب العمل (اليساري) بوقف استيراد المنتجات التركية، يأتي هذا فيما تحتل الصين (بأكثر من 12 مليار دولار) قائمة الدول الأكثر تصديرًا لـ”إسرائيل”، تليها الولايات المتحدة وألمانيا.
يأتي هذا فيما تتواصل الجهود التركية الداعمة لفلسطين، والتي لا ترتبط بالعدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، حيث تقدم تركيا منذ سنوات مساعدات للقطاع ضمن جهود الإغاثة الطارئة، مع استمرار أعمالها الخيرية في غزة، وتتصدر فلسطين مناطق العالم الأكثر استفادة من المساعدات الإنسانية التركية والإنمائية والمساعدات الرسمية الثنائية، ويسهم في الجهود نفسها جمعية الهلال الأحمر التركي وجهات أخرى أهلية.
شعبيًّا، عبّرت المسيرات الرمزية التضامنية مع قطاع غزة بمشاركة آلاف الأشخاص من جميع الأعمار، عن تزايد المشاعر المعادية للدعم الغربي لـ”إسرائيل” بعد العدوان العسكري الغاشم على قطاع غزة، خاصة مع مشاهد الدمار الشامل في عدة مناطق من القطاع، وتتواصل الفعاليات المعبّرة عن مشاعر الأتراك ضد ما يقوم به جيش الاحتلال في قطاع غزة، من شماله إلى جنوبه.
رهانات القوة
الإشكالية الثالثة التي تجعل البعض يعتقد بوجود تناقض بين لغة خطاب أردوغان، وممارسات بلاده على الأرض تتمحور حول خيار القوة، خاصة مع توظيف تركيا للخيار العسكري في أكثر من جبهة (سوريا والعراق وليبيا والصومال، والتفاعل السياسي والميداني في منطقة آسيا الوسطى لا سيما مع أذربيجان)، والانطباع الشعبي بأن مسألة استخدام القوة في الصراعات الإقليمية والدولية متاحة في أي وقت.
لكن ما لا تعرفه شريحة كبيرة من الرأي العام أن القوة العسكرية (كوسيلة مهمة من وسائل تحقيق السياسة الخارجية) ليست الخيار الأول على المستوى الرسمي (الذي يتحرك وفق تقدير موقف شامل، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وميدانيًّا)، ونظرته إلى ترتيب القوة العسكرية بين الخيارات المتاحة على عكس النظرة الشعبوية التي تحكمها العاطفة وتميل غالبًا إلى حسم الصراعات بالقوة، وأن التعاطف مع غزة يعني الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع “إسرائيل”.
لا يضع الرأي العام بعين الاعتبار الإطار الشرعي لاستخدام القوة العسكرية في السياسة الدولية، وتقنين اللجوء لذلك (تحقيق نظام الأمن الجماعي كضمانة لتحقيق الأمن والسلم الدوليَّين)، حتى مع تخطّي القوى الكبرى للمعايير المبررة للتدخل، عبر مسميات خادعة ارتبطت بالتدخلات العسكرية في المنطقة (وعلى تخومها) خلال الـ 20 عامًا الماضية (دعم حقوق الإنسان والحراك الاجتماعي والسياسي).
وليس خافيًّا أن تركيا الرسمية تخشى من تمدد كرة اللهب (اتساع نطاق العمليات العسكرية إقليميًّا) بشكل قد يهدد أمنها القومي، وهو أمر تدرك أنقرة مخاطره الكبيرة على مشروعها التنموي والنهضوي، ورؤيتها الاستراتيجية للمئوية الثانية من عمر الجمهورية، وعليه تحاول التعامل بالعقلانية السياسية التي لا تقود إلى خيارات غير محسوبة العواقب.
وباستثناء القوى العدوانية (“إسرائيل” نموذجًا)، لم يعد استخدام القوة العسكرية للتأثير على سلوك الآخرين ذا جدوى وفاعلية، بحكم الخسائر البشرية والتكلفة المالية الكبيرة، والأضرار التي تجنيها الاقتصادات من اللجوء إلى هذا الخيار، باستثناء حماية الدولة من الاعتداءات الخارجية، والمحافظة على الأمن القومي، علمًا أن المادة 87 من الدستور التركي تؤكد أنه من بين واجبات الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا وسلطاتها إعلان الحرب.
تعكير الصفو
ويبقى أن الواقع الدولي المحتقن يفرض تفكيرًا أعمق على صانع القرار التركي قبل أي خطوة، حيث تسبّبت حدّة أردوغان في قلق الحلفاء بـ”الناتو”، ومحاولة “جرّ” تركيا إلى ساحة أخرى، من واقع تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن: “الأعمال العسكرية التركية في سوريا تعرقل جهودنا في هزيمة تنظيم “داعش”، وتشكّل خطرًا على المصالح القومية الأمريكية”، فيما تطالب أوروبا أردوغان بـ”تحديد موقفه.. مع الاتحاد أو ضده”.
وتركيا، بحكم مكانتها الإقليمية، ترغب في توسيع نطاق تأثيرها السياسي ونفوذها الدبلوماسي، وفتح المزيد من الأسواق التي تستوعب صادراتها، وتداعيات ذلك على القيمة المضافة للاقتصاد القومي للبلاد، كونها جميعها تمثل أوراق ضغط لخدمة مصالح تركيا شرقًا وغربًا، وتوظيف أوراق الضغط في حسم ملفات عالقة اقتصادية وعسكرية، وهذا لن يتحقق دون جسور ممدودة مع جميع الأطراف.
أيضًا، يوازن صانع السياسة الخارجية التركية بين ضرورة الانتصار التقليدي للملف الفلسطيني من ناحية، واستكمال جهود إنهاء بقايا فترة العزلة الإقليمية، ومن ثم تبدو العلاقات التركية-الإسرائيلية “محصورة” في مساحة ضيقة من الخيارات، التي قد تتفهّمها شرائح من الرأي العام، فيما تنتقدها شرائح أخرى لا تضع بعين الاعتبار تداعيات أي خطوة غير محسوبة.
ومع أن حسابات الموقف الرسمي التركي تبدو متشعّبة، فإن الموقف العام لمعظم الشعب التركي بمكوناته وأطيافه (قوميًّا وإسلاميًّا ويساريًّا) يصطفّ لدعم القضية الفلسطينية، وتأييد نضاله المشروع، من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، فيما لم يتخلَّ أردوغان عن خطابه الكاشف لجرائم العدوان، وأن “إسرائيل تتصرف كتنظيم إرهابي يقوم بالقتل والإبادة الجماعية”.
لكن المؤكد أن العدوان الإسرائيلي وردود الفعل التركية ستنعكس سلبًا على حالة التقارب التي شهدتها العلاقات البينية منذ نهاية مايو/ أيار 2022، والتي استهدفت تطوير العلاقات الدبلوماسية والتعاون في مجال الطاقة، بعد 15 عامًا من التوتر بين أنقرة وتل أبيب، إثر الاعتداء الإسرائيلي على السفينة التركية “مافي مرمرة”، التي كانت في طريقها إلى قطاع غزة بغرض كسر الحصار عام 2010.