تدخل الحرب على غزة شهرها الثالث بزخم وأجواء مشتعلة لا تقل في سخونتها عن الأسبوع الأول لها، إذ يتواصل الدعم الغربي لـ”إسرائيل” بالمواقف والسلاح والعتاد، وسط صمود المقاومة التي تثبت أنها لا تزال ذات أقدام راسخة في الميدان.
وبعد استراحة دامت لعدة أيام بسبب الهدنة المؤقتة التي أبرمت بين حركة حماس وحكومة الاحتلال، تدخل الحرب جولتها الثانية بدعم عسكري إضافي من الجانب الأمريكي، جسور من الأسلحة التدميرية المتطورة، على أمل أن يحقق جيش الاحتلال أهدافه الثلاثة المعلنة سابقا من وراء تلك الحرب وهي: القضاء التام على حماس بالكامل وتدمير بنيتها التحتية، وتحرير الأسرى والرهائن، وضمان ألا يشكّل القطاع أيَّ تهديد للكيان الصهيوني في المستقبل.
#عاجل | الناطق باسم سرايا القدس: أوقعنا إصابات في صفوف جنود العدو من خلال اشتباكات ونصب كمائن على محاور القتال#حرب_غزة pic.twitter.com/CecmegWcQi
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 5, 2023
راهن البعض على قصر نفس المقاومة، وشككوا بقدرتها على إدارة معركة مفتوحة، وأنها لن تصمد إذا ما أطيل أمد الحرب، وأنها حين نفذت الطوفان كان الأمر عشوائيًا، إذ لم تضع في حساباتها ردة الفعل تلك، كان هذا التكهّن الأكثر حضورًا لدى الاحتلال وجوقته مع الأيام الأولى من الحرب.
غير أنه وبعد مرور 61 يومًا على معركة الإبادة التي يشنها الاحتلال المدجج بدعم مطلق من أقوى جيوش العالم، هاهي المقاومة تثبت للجميع أنها صامدة وأنها قادرة على تحقيق ما لم تحققه في الأيام الأولى من الحرب، في رسالة تحمل الكثير من المعاني حول إدارتها الجيدة والاحترافية لتلك المواجهة رغم التشكيك في ذلك بداية الأمر.
ثبات وصمود.. المقاومة بعد شهرين
شهد الثلاثاء 6/12/2023 وهو اليوم المتمم للشهر الثاني من الحرب حضورًا قويًا للمقاومة في الميدان، حيث كبدت المحتل خسائر فادحة، بعضها ربما يكون الأقسى منذ بداية المعركة، ففي بيان لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، قالت إن مقاتليها بعد 60 يومًا من المواجهات الضارية تمكنوا من قنص 6 جنود إسرائيليين ببنادق “الغول” في منطقة الزنة بمحور شرق مدينة خان يونس وأصابوهم إصابات محققة.
بجانب الإجهاز على 10 جنود أخرين للاحتلال من المسافة صفر، إضافة إلى استهداف قوة إسرائيلية خاصة مكونة من 8 جنود بقذيفة مضادة للأفراد وحققوا فيها إصابة مباشرة، هذا بخلاف 3 جرافات عسكرية، ودبابتين وناقلتي جند إسرائيليتين في محور شمال المدينة بقذائف “الياسين 105″، فيما أعلنت سرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي– عن استهداف آلية عسكرية إسرائيلية بقذيفة “آر بي جي” شرق خان يونس.
كما أعلنت كتائب القسام عن تدميرها أكثر من 28 ألية إسرائيلية في مناطق عدة في قطاع غزة، كما نجحت في إيقاع الكثير من الخسائر في صفوف الاحتلال من المسافة صفر في محور التوغل بحي الشيخ رضوان شمال القطاع، هذا بجانب استهداف تل أبيب برشقات صاروخية أدت إلى إصابة عدد من المستوطنين حسبما نقلت القناة “12” العبرية، فيما دوت صافرات الإنذارات في تل أبيب وعسقلان والعديد من المستوطنات القريبة.
🔴 كتائب القسام: تمكن مجاهدونا من استهداف 12 آلية صهيونية للعدو في محور التوغل بمشروع بيت لاهيا شمال قطاع #غزة
| #الخليج_أونلاين #غزة_الآن #طوفان_الأقصى pic.twitter.com/Z5uHPNJzbY
— الخليج أونلاين (@AlkhaleejOnline) December 6, 2023
الاحتلال يعترف: عاجزون عن النصر
وأمام تلك البيانات التي وثقتها المقاومة بالمقاطع المصورة، اعترف جيش الاحتلال بسقوط 7 عسكريين، بينهم 5 ضباط، أحدهم نائب قائد سرية، خلال معارك الثلاثاء، الخامس من ديسمبر/ كانون الأول فقط، بجانب إصابة ضابط و3 مجندين أخرين بجروح خطيرة.
ووصل عدد القتلى من المجندين والضباط في صفوف جيش الاحتلال منذ بداية العملية البرية في قطاع غزة إلى 84 عسكريًا، بينما ارتفع الإجمالي منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 408 من الضباط والجنود، وهو الرقم الذي وإن كان أقل من الرقم الحقيقي مقارنة ببيانات المقاومة لكنه يعد الأكبر في تاريخ الحروب التي خاضتها قوات الاحتلال ضد المقاومة الفلسطينية.
وبالتوازي مع تلك الخسائر التي يتكبدها جيش الاحتلال حددت حكومة نتنياهو ميزانية تقدر بنحول 30 مليار شيكل (نحو 9 مليارات دولار) خلال الشهر الجاري لتغطية احتياجات الحرب وتداعياتها، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الإسرائيلي من شلل حقيقي ويتعرض يوميًا لخسائر بمئات الملايين من الدولارات جراء الحرب، فيما علق نتنياهو على تلك الموازنة والأعداد الهائلة في صفوف القتلى خلال مؤتمر صحفي لقادة الكابينت أمس قائلا “هناك ثمنًا كبيرًا ندفعه بسبب هذه الحرب، بسبب خسارة عدد من جنودنا”.
ونجحت المقاومة في استنزاف اقتصاد الاحتلال بشكل لم يكن يتوقعه، مما أثر سلبًا على ألاف العائلات ذات الخلفية الاقتصادية الضعيفة، حسبما قالت صحيفة “هآرتس” العبرية، لافتة إلى أن استمرار الحرب تنذر بمخاطر اجتماعية واقتصادية كارثية، مستندة في ذلك إلى بيانات رسمية جمعتها وزارة الرفاه والضمان الاجتماعي الإسرائيلية.
وتعاني حكومة الحرب الإسرائيلية من ارتباك وفوضى محتدمين، حيث شهد اجتماع المجلس أمس مع عائلات الأسرى والرهائن شد وجذب وأصوات مرتفعة، خاصة بعدما أبلغ نتنياهو العائلات بشكل رسمي بأنه لن يستطيع إعادتهم جميعًا، وهو الذي كان قد أعلن ووزير دفاعه يواف غالانت بأن إعادتهم أمر مفروغ منه وإنها مسألة وقت، وهاهي الحرب تدخل شهرها الثالث دون تحقيق أي من تلك الوعود.
ويعترف نتنياهو وغالانت وعضو حكومة الحرب بيني غانتس بشكل مباشر بأن الحرب لم تحقق أهدافها حتى اليوم، وأنهم ماضون في مواصلة القتال حتى تحقيق تلك الأهداف، كما جاء على لسان نتنياهو الذي خاطب العالم بالوقوف إلى جانب بلاده في تلك المعركة قائلا “أقول لكم باللغة الإنجليزية وبكل اللغات: قفوا معنا.. قفوا مع إسرائيل”.
نتنياهو: الحرب على قطاع غزة تقتضي دفع ثمن باهظ#حرب_غزة pic.twitter.com/WIoyrRZvYu
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) December 6, 2023
أما غالانت المتعجرف صاحب التصريحات العنترية منذ بداية المعركة فيعترف أن جنوده “يواجهون مخاطر من أجل القيام بعمليات عسكرية واستخبارية لاستعادة المخطوفين، ونحن نخوض حربا لا مفر منها” محذرًا من أنه “لن يكون لنا وجود في المنطقة ما لم ننتصر في هذه الحرب، ونقضي على حماس كمنظومة”.
وبلغ مستوى الارتباك داخل مجلس الحرب الإسرائيلي حد فقدان الثقة بين أعضاءه، فرغم الادعاء بأنهم يد واحدة في تلك الحرب، إلا أن الكثير من الشواهد تفند ذلك، بما يعكس حالة الانقسام والتشكيك بين الجنرالات بعضهم البعض، وهو ما يمكن قراءته من خلال خضوع رئيس هيئة الأركان، بجيش الاحتلال، هرتسي هليفي، للتفتيش الشخصي قبل حضوره اجتماع الأمس، للتأكد مما إذا كان يحمل جهاز تسجيل أم لا، وهي الواقعة التي لم تكن الأولى.
بل إن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي كان قد نشر الخميس 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مذكّرة قانون تسمح لجهاز الأمن العام (الشاباك) إجراء اختبارات كشف الكذب (بوليغراف) للوزراء في “الكابنيت”، خشية أن يقوم أي منهم بتسريب ما يدور داخل الاجتماعات، وهي المذكرة التي أحدثت جدلا كبيرًا في الشارع الإسرائيلي وتكشف بشكل لا لبس فيه حجم الفوضى والانقسام وفقدان الثقة بين جنرالات الاحتلال في هذا الوقت الحساس الذي يتطلب التوحد والمزيد من الثقة.
ماذا يعني ذلك؟
حين أُبرمت الهدنة مع حكومة نتنياهو، رغم أنها تمت بشروط حماس، توهم البعض أن المقاومة وصلت إلى منعطفها الأخير، وأنها ما لجأت للهدنة إلا لأنها ما عادت تقوى على المواجهة، لكن بعد أكثر من 60 يومًا من الحرب التي تشنها قوات الاحتلال المدعومة على الملآ من جيوش أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، والتي تزودها ليل نهار بأحدث الأسلحة التدميرية، بجانب الدعم الاستخباراتي الهائل من قبل الأجهزة الاستخباراتية لتلك الدول، لا تزال المقاومة تكبد المحتل خسائر فادحة في الشمال الذي يزعم أنه سيطر عليه، وفي الجنوب الذي أعلن بدء معركته به في جولتها الثانية.. السؤال هنا: ماذا يعني المشهد بصورته تلك؟
أولًا: أثبتت المقاومة بما قامت به بالأمس أنها لم تزل بكل قوتها، وأنها قادرة على الصمود والمواجهة بمستويات لا تقل عما كانت عليه بداية المعركة… وفي ذلك تفنيد لادعاءات ضعف المقاومة ونفاذ مخزونها التسليحي خلال الفترة الماضية.
ثانيًا: كشفت المقاومة عن إدارتها للمعركة بشكل احترافي، وأن عملية الطوفان لم تكن اعتباطية، بل كانت عملية مدروسة بعناية، ومدروس تداعياتها بدقة، ولذ أعدت الفصائل العدة بشكل جيد، حيث التعامل مع الحرب كمحطات منفصلة، لكل محطة أبجدياتها وأدواتها التي تحقق بها الأهداف المطلوبة.
ثالثًا: أكدت المقاومة أنها وصلت لمستويات متقدمة من التطور النوعي في المواجهات والقتال، عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، حيث تفوقت بشكل لا ريب فيه على أقوى جيوش العالم وأجهزتها الاستخباراتية، وأنها لم تعد ذلك الفصيل الذي يكتفي بصاروخ هنا أو عملية قنص هناك، ولذلك ما يمكن البناء عليه مستقبلا.
شهادة أخرى من العدو.
شرح أرئيل كهانا في (إسرائيل اليوم) ما أُحرز من تقدّم حتى الآن، لكنه استدرك:
"شهران ولم نكسر شوكة حماس بعد. صحيح أنها تلقت ضربات شديدة، لكن صفّها القيادي يؤدي مهامه. يقاتل ويوقف متى أراد. ينجح في إطلاق رشقات إلى المركز بساعات محددة، والأهم: السنوار لم يستسلم".
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) December 5, 2023
ويرسخ هذا الفشل إجهاض المقاومة للأهداف الثلاثة التي أعلن عنها جيش الاحتلال وهي:
- القضاء على حماس وتدمير بنيتها التحتية، وهو لم يحدث، فحتى اليوم تقاتل المقاومة في الشمال والجنوب والوسط بكامل قدراتها التدميرية وتوقع في صفوف الاحتلال الخسائر الفادحة
- تحرير الأسرى والرهائن، ولم يحدث أن حرر المحتل أسيرًا واحدًا بعد 60 يومًا من الحرب، وأن الـ 110 أسير المحررين الذي يتفاخر بهم غالانت إنما أفرجت عنهم القسام وفق هدنة إنسانية رضخ الكيان المحتل فيها لشروط المقاومة.
- ضمان ألا تكون غزة منصة تهديد للداخل الإسرائيلي، وهو الأمر البعيد عن الواقع، فحتى الأمس تدوي صافرات الإنذار في تل أبيب وعسقلان، وتصل رشقات المقاومة الصاروخية إلى ما بعد تل أبيب حيث حيفا وجيرانها، بل وتوقع بعض الإصابات في صفوف المستوطنين في ظل فشل القبة الصاروخية في اعتراض كل تلك الرشقات.
في ضوء ما سبق، تكشف أيام الحرب الستين، وبينما تدخل شهرها الثالث، أن المقاومة تدير المعركة بشكل جيد، وأن بقاءها حتى اليوم رغم قدراتها المحدودة والخناق المفروض عليها، هو انتصار مدوي يحسب لها في مواجهة جيش الاحتلال وداعميه، وبصرف النظر عما يمكن أن تسفر عنه تلك الحرب إلا أن أداء المقاومة فاق كل التوقعات وهو ما زاد من وقع الصدمة في الجانب الإسرائيلي، ومن يراهن عليه لتصفية حماس.