جاءت الخلافات الخليجية البينية الحالية مفاجئة للعالم بسبب سرعتها، فلم تمضي سوى أيام قليلة على فبركة التصريحات على لسان أمير قطر حتى اتخذت الأمارات والسعودية قرارها بمقاطعة قطر وسلسلة من الإجراءات التي ترتقي لمرحلة التهيئة للحرب، وعلى الرغم من إن المشاكل بين قطر من جهة والسعودية والامارات من جهة أخرة ليست وليدة اليوم، إنما تمتد لسنوات عديدة بدأت من عهد أمير قطر السابق “حمد بن خليفة أل ثاني” واستمرت الى عهد أميرها الشاب “تميم بن حمد”.
لكن الأمر الاخر المفاجئ بالموضوع، هو نوعية التعامل الذي تعاملت به السعودية والامارات بخلافاتهم مع قطر، فللمرة الأولى تصل حدة الخلافات بينهما للدرجة التي تقاطع هاتين الدولتين ومن يتبعهما لدولة قطر، برياً وجوياً وبحرياً. ودخلت كثير من الدول التي لديها علاقة بالطرفين في حرج سياسي جراء هذا الخلاف، وتركيا من أكثر الدول التي أصابها هذا الحرج.
وساطة تركيا بين الأطراف الخليجية ليست سهلة
وبالرغم من العلاقات الوثيقة لتركيا بطرفي الخلاف، السعودية وقطر، إلا إنها لا تستطيع أن تكون محايدة تماماً وهي ترى أن قطر تتعرض لهذه المقاطعة، والتي يمكن أن تتطور لتدخل عسكري بغية تغير النظام الحاكم فيها، ذلك لان العلاقة التي تربط تركيا بقطر هي علاقة ذات أبعاد استراتيجية بعيدة المدى، وتخشى إذا ما نجح الحصار على قطر بتغير مواقفها السياسية، فأن من الممكن أن ينجر ذلك على تركيا فيما بعد.
وفي هذا يقول الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، إن “العلاقات التركية مع المجتمع الدولي متشابكة، وبالتالي يمكن أن يحدث لتركيا ما حدث لقطر، إذا رأت الولايات المتحدة أن هناك فرصة لتطويق تركيا وحصارها”. كما ويرى المحلل السياسي التركي سنان أولغين: “أن تركيا يمكن أن تتأثر بالعقوبات التي فُرضت على الدوحة، وإن خسارة قطر لاستقلالها في مجال السياسة الخارجية سيضعف الشراكة بين تركيا وهذا الحليف الأساسي في الخليج”.
الرئيس التركي، يبادر بانتقاد المقاطعة ضد قطر ومن أول يوم، وقام البرلمان التركي بإقرار مشروع قرار نشر القوات التركية في قطر، الامر الذي فسره الجميع بأن تركيا تقف بصف قطر ضد الإجراءات الإماراتية والسعودية
جعل هذا الامر من الرئيس التركي، يبادر بانتقاد المقاطعة ضد قطر ومن أول يوم، وقام البرلمان التركي بإقرار مشروع قرار نشر القوات التركية في قطر، الامر الذي فسره الجميع بأن تركيا تقف بصف قطر ضد الإجراءات الإماراتية والسعودية، وهي على استعداد للدفاع عنها ضد أي اعتداء عسكري، الأمر الذي جعل موقف تركيا صعباً للغاية لكي تلعب دور الوسيط بين قطر والدول المقاطعة لها، والذي من أهم شروطه الحياد بين الطرفين.
ولكي تلطف تركيا من حدة موقفها ذلك، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو (أن بلاده مستعدة للمساعدة في تطبيع العلاقات الخليجية، وأن تصريحات الرئيس أردوغان لم يكن يستهدف بها السعودية نهائياً، وهو يكن احتراماً كبيراً لخادم الحرمين الشريفين، وأن الرئيس التركي قد أكد على إن الملك سلمان فقط من بمقدوره حل هذه الأزمة). قال ذلك أثناء زيارته للدوحة في مسعى لإيجاد حل للمشكلة الخليجية، وعلى ما يبدو أن تلك التصريحات قد لاقت قبولاً إيجابياً من القيادة السعودية وبادرت بتوجه دعوة من الملك سلمان للوزير التركي لغرض لقائه في مكة المكرمة يوم الجمعة للتباحث في هذا الموضوع.
أسباب الخلاف وإمكانية حلها من قبل تركيا
وإذا كان سر غضب السعودية من قطر يمكن تفهمه على إنه ناتج عن علاقة الأخيرة القوية المزعومة مع إيران، في وقتٍ تنهمك السعودية بإنشاء التحالفات ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن ما هو سر غضب الامارات ضد قطر، وهي التي ترتبط بعلاقات اقتصادية وسياسية مع إيران، أوثق بكثير من قطر؟ ومنها العلني ومنها السري.
ولتفسير حالة الأمارات المحيرة والمتناقضة بين التصريحات العلنية والمواقف الحقيقية على الأرض، لابد لنا من توضيح حقيقة التنافس بين الامارات وقطر في ملفات عديدة، ليس أقلها موضوع الاخوان المسلمون، ووقوف قطر مع شرعية الرئيس محمد مرسي ضد انقلاب عبد الفتاح السيسي، والدعم القطري المستمر لنضال الشعب الفلسطيني وبالأخص حركة حماس، كما وتختلف قطر مع الامارات في موقفهم من حركة الإصلاح اليمنية ذات التوجهات الإخوانية، إضافة لوقوف قطر بالضد من أطماع الإمارات في الاستيلاء على اليمن الجنوبي من خلال بعض السياسيين اليمنيين التوّاقين لانفصال الجنوب اليمني، وكذلك الخلاف في الموضوع الليبي والسوري، بل ويصل أمر الخلافات إلى حد سعي الامارات للحيلولة دون إقامة نهائيات كأس العالم لكرة القدم في الدوحة.
والكثير من هذه الخلافات ناتجة عن تنافس غير شريف يقوده أمراء الامارات لكي يحضوا بنفس المكانة الدولية التي حققتها قطر، والنجاح الإعلامي الذي حققته قناة الجزيرة القطرية بدليل أن أحد أهم المطالب الإماراتية للمصالحة مع قطر هو غلق تلك القناة. حيث يعلن السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، أن الدول المقاطعة ستقدم لواشنطن قريباً لائحة مطالب لقطر، مرجحاً اتخاذ إجراءات إضافية ضد الدوحة ما لم تغير سياستها.
من هذا ندرك مدى قوة العداوة الشخصية التي وصلت عند الامراء الخليجيين، فهم على استعداد للمغامرة بمصالح الأمة، من أجل طموحاتهم الشخصية. وإلَّا فهل من المعقول أن تقوم الإمارات بمقاطعة قطر لأن الأخيرة لديها علاقات مع إيران؟ ونحن نعلم أن الامارات لديها علاقات اقتصادية وسياسية بإيران هي أقوى بكثير من قطر، وتتجاوزها بمراحل عديدة. مع تفهمنا لحاجة قطر لعلاقات بمستوى معين مع إيران نتيجة حقل الغاز الطبيعي البحري الضخم الذي تتشارك فيه معها، والذي يُعرف باسم “حقل الشمال” وهو أكبر احتياطي للغاز البحري في العالم، وبالتالي فهي مضطرة لإدامة التفاهم مع إيران حول هذا الحقل الغازي.
تركيا سيكون من الأفضل لها التعامل مع السعودية في مساعيها للتوسط بينها وبين قطر، وبالذات مع العاهل السعودي الملك سلمان، حيث أن الامارات بالأساس لا تتوافق مع التوجهات التركية لكي تدخل معها في مفاوضات وساطة
أما فيما يتعلق بالمملكة السعودية فالأمر مختلف، حيث أن التوجهات الأخيرة للملكة بعد أستلام الملك سلمان الحكم فيها، كان يفترض أن تجعل العلاقة بين السعودية وقطر قوية ومتوافقة في كثير من الملفات، وهذا ما رأيناه في الفترة الأولى من وصوله، إلا أن هذه العلاقة بدأت تنحدر تدريجياً وتسوء مع تنامي العلاقة بين أولاد زايد والأمير الطموح ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فقد وجد أمراء الامارات نقطة الضعف عند هذا الأمير ولعبوا عليها من خلال تنمية طموحاته بالوصول الى الحكم بعد أبيه متجاوزاً بذلك ولي العهد الحالي الأمير محمد بن نايف، وعملوا على تزكية محمد بن سلمان عند الامريكان لكي يدعموه في مساعيه تلك.
ومن هذا نجد أن تركيا سيكون من الأفضل لها التعامل مع السعودية في مساعيها للتوسط بينها وبين قطر، وبالذات مع العاهل السعودي الملك سلمان، حيث أن الامارات بالأساس لا تتوافق مع التوجهات التركية لكي تدخل معها في مفاوضات وساطة.
هل تورط أمريكا السعودية كما ورطت العراق؟
أن السياسة الأمريكية الحالية تعتريها الضبابية، وكثيراً ما تتناقض مواقف الرئيس الأمريكي، ومواقف أركان أدارته، ففي الوقت الذي يغرد ترامب على التويتر، بأن الإجراءات التي قامت بها السعودية والامارات قد تكون بداية نهاية فظائع الإرهاب، وهو موقف يُفهم منه أن أمريكا تعتقد أن قطر دولة داعمة للإرهاب، يأتي كبار المسؤولين في إدارته ليعربوا عن تقديرهم للعلاقة الاستراتيجية مع قطر، ودعمها للتحالف المناهض لتنظيم الدولة، من خلال “مركز العمليات الجوية المشتركة” في “قاعدة العُديد”.
التناقض وفوضى تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ربما يكون من ورائها رغبة أمريكية لتوريط السعودية باحتلال قطر كما ورَّطت صدام في غزو الكويت
ومن بين هؤلاء وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، وهي مواقف تتناقض مع تغريدات ترامب، لكنها تتوافق مع تصريحاته في قمة الرياض حينما قال خلال مقابلته مع تميم: “إن علاقتنا جيدة للغاية”، ورغم ميول ترامب الحالية للموقف السعودي الإماراتي، لكن هذا لم يمنعه من أبرام صفقة توريد طائرات حربية أمريكية بقيمة 12 مليار دولار لقطر.
أن هذا التناقض وفوضى تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ربما يكون من ورائها رغبة أمريكية لتوريط السعودية باحتلال قطر كما ورَّطت صدام في غزو الكويت، ذلك الغزو الذي أتاح لأمريكا المجيء بجيوشها للمنطقة بحجة تحرير الكويت، وكانت الذريعة المناسبة لتحطيم العراق واحتلاله، وعلى ما يبدو ان الامريكان لديهم مخطط مشابه لتوريط السعودية، ولكن في هذه المرة يوجد من يقوم بالدور نيابة عنهم، فإيران المستعدة للدفاع عن قطر بعد احتلالها من قبل السعودية، ستقوم بمهاجمة السعودية بواسطة ميليشياتها المنتشرة في كل مكان بالمنطقة العربية، وبدعم من الأمريكان هذه المرة، أو غض النظر عنها.
تقارب قطر لتركيا أهون الشرين بالنسبة للسعودية
من الخيارات المتاحة أمام قطر بعد المقاطعة الخليجية لها هو الالتجاء لإيران وتركيا لتستطيع التغلب على تأثيرات هذا الحصار، هذا ما أوردته وكالة “رويترز”، حيث قالت إنَّ قطر تجري محادثات مع إيران وتركيا لتأمين إمدادات الأغذية والماء، وهنا مكمن الخطورة في الأمر بالنسبة للسعودية، فهي كمن يدفع قطر دفعاً للأحضان الإيرانية، الأكثر خطرًا، فالتقارب القطري الإيراني في الفترة المقبلة ستراه السعودية خطرًا كبيراً، وبالتالي فأن التقارب القطري مع تركيا سيكون اكثر قبولاً سعودياً كونه أقل خطورة، ويجعل تركيا أكثر مقبولية للعب دور الوسيط بين الطرفين لنزع فتيل الأزمة الحالية. وربما يكون هذا السبب وراء توجيه القيادة السعودية دعوة لوزير الخارجية التركي للحضور للسعودية ولقاء العاهل السعودي في مكة المكرمة.
في المحصلة فإن لتركيا فرصة لكي تكون وسيطاً لحل المشكلة بين الأطراف الخليجية ولكنها ليست كبيرة، ذلك لأن تركيا معروفاً عنها مساندتها للموقف القطري في الازمة الحالية، ولديها الاستعداد الكامل للدفاع عنها ضد أي تهديد عسكري أو اقتصادي ضدها، ذلك لخشيتها أن تكون الدولة القادمة بالحصار إذا ما نجح حصار قطر.