داعش يقتلنا مرتين

منذ الظهور العلني لتنظيم داعش جرى التعامل معه كأنه ظاهرة، أي كأنه خلق من العدم دون جذور راسخة، وبقي هذا التوصيف الأكثر حضوراً في معظم الدوائر الإعلامية العالمية والعربية على السواء. ولكن مع تعاظم تغلغل التنظيم في العراق وسوريا والانطلاقة الفعلية لما يسمى ب”الدولة الإسلامية” بدأت وجهات النظر بالتغير والتوجه إلى رأيين على نحو خاص.
يميل الأول إلى اعتبار أن ثمة داعشياً داخل كل منا وبالتالي كان ظهور التنظيم نتيجة طبيعية بسبب التطرف الديني أو غير الديني الكامن داخل كل منا. أما الرأي الآخر فهو الذي كان أقل انتشاراً وأكثر دقة: داعش هو تجلٍّ آخر من تجليات القاعدة وهو ابن شرعي لها في نهاية المطاف.
صناعة داعش بدأت بعد احتلال العراق، وزُرعت بذرتها مع تنظيم “التوحيد والجهاد” الذي كان يتزعمه أبو مصعب الزرقاوي
يبدو الرأي الثاني الأكثر منطقية، فوجود داعش كامتداد لتنظيم القاعدة يبرر تعاظم قوة داعش بهذا الشكل المخيف وخلال وقت قياسي، كما يعيد في الأذهان السيناريوهات الأمريكية التي رُسمت ما قبل غزو أفغانستان والعراق.
ما يُعزز هذا الرأي أيضاً أن صناعة داعش بدأت بعد احتلال العراق، وزُرعت بذرتها مع تنظيم “التوحيد والجهاد” الذي كان يتزعمه أبو مصعب الزرقاوي، ويُعرف أن هذا التنظيم كان مبايعاً لتنظيم القاعدة وزعيمه بن لادن و يحمل نفس أفكار داعش الحالية.
رأينا كيف تم تشريع احتلال أفغانستان بحجة الحرب على الإرهاب الدولي ثم تشريع احتلال العراق بحجة امتلاك نظامها أسلحة دمار شامل لم تظهر حتى اللحظة، ثم احتلال ليبيا واسقاط نظام القذافي. ولتحقيق هذا الغرض، كان لا بد من تقديم ضحايا من أبناء الدول المستفيدة أولاً وذلك لكسب التأييد العالمي لحرب أمريكا ضد الارهاب. وقد مثلت حادثة 11 سبتمبر أفضل مبرراً لجورج بوش الابن للوصول إلى افغانستان والعراق واحتلالهما.
“إسرائيل” هي المستفيد الأول من الفوضى التي تفرضها مثل هذه التنظيمات في العالم، بوصفها كيان يحاول فرض نفسه كدولة ذات طابع قومي ديني
تتركز الجهود الأمريكية اليوم في تشريع وتوظيف كل شيء لاستهداف سوريا ونسقها السياسي. ولهذا شهدنا في هذه الفترة تعاظماً لقوة داعش، جاء محسوباً بالورقة والقلم لايجاد المبرر الجديد للتدخل في سوريا، خصوصاً بعد أن أصبحت القاعدة كرت محروق ولعبة مكشوفة لدى العديد من الأطراف الدولية، وبعد أن أصبح الإجهاز عليها ضرورة أمريكية، للتغطية على أفعالها والظهور بمظهر المنقذ للعالم والمخلص له من شر الارهاب !.
“اسرائيل” هي المستفيد الأول من الفوضى التي تفرضها مثل هذه التنظيمات في العالم، بوصفها كيان يحاول فرض نفسه كدولة ذات طابع قومي ديني، وبالتالي فعدوها الأول والذي تصور نفسها على أنها ضحيته هو الدين الاسلامي بمذهبيه السني والشيعي، كونها تهدف إلى اغتصاب أرض اتباع المذهبين سواء في فلسطين أو لبنان.
يعمل هذا الكيان الغاصب بالشراكة مع الولايات المتحدة الامريكية ليلاً نهاراً على تصوير نفسه للعالم بصورة المسالم الذي يدافع عن نفسه من وحشية المسلمين الإرهابيين، ولهذا نجد حملات الدعاية الاعلامية تركز على خلق هذا الانطباع في أوروبا وامريكا من خلال الترويج لفكرة قتل اليهود والمسيحيين كهدف المسلمين في كافة أنحاء العالم ويساعدهم في تسويق هذه الصورة الدور الذي تمارسه المنظمات الإرهابية من قبل داعش والنصرة وغيرها في مختلف أنحاء العالم، والذي يصب في مصلحة الكيان الاسرائيلي أولاً وأخيراً.
البروباغندا الإعلامية التي تتمثل في محاربة الإرهاب لم تعد حكراً على أمريكا وحدها، كما كانت محاربة الشيوعية من قبل، فغريمتها روسيا وكافة الأقطاب الدولية تمارس هذه البروباغندا
على الرغم من كل ذلك فقد فشلت أمريكا في كسب إجماع الحلفاء بالحد الذي تصورته لأن البروباغندا الإعلامية التي تتمثل في محاربة الإرهاب لم تعد حكراً على أمريكا وحدها، كما كانت محاربة الشيوعية من قبل، فغريمتها روسيا وكافة الأقطاب الدولية تمارس هذه البروباغندا، الأمر الذي جعل مفهوم محاربة الإرهاب وأبعاده مضطرباً، وبالتالي جعل إجماع حلفاء أمريكا في تفاصيل السياسة الأمريكية إزاء سوريا غير ناضج أو كامل.
تحاول أمريكا بعد فشل السيناريو التي رسمته في سوريا، تصدير الإرهاب إلى أوروبا والغرب، وحتى في دول عربية كمصر والأردن وذلك في سبيل توفير مبرر لتلك الدول لدعمها بشكل مباشر في حربها على سوريا وبكافة الأدوات والإمكانات والموارد المتاحة.
لقد كانت الأيدولوجيا المعيار الذي يحكم العلاقات الدولية إبان الحرب الباردة، حيث شهدت الحرب الباردة صراعات دولية على أساس أيدولوجي، فالحرب اليمنية الداخلية كان المعسكر الرأسمالي فيها يدعم اليمن الشمالي، بينما اليمن الجنوبي دعمته مصر ومن ورائها المعسكر الاشتراكي. فالصراع الأمريكي-السوفيتي الأيديولوجي ( المعسكر الرأسمالي في مواجهة المعسكر الاشتراكي) قسم العديد من الدول في العالم كما حصل لكوريا، التي قسمت إلى شمالية وجنوبية، انفصال تايوان عن الصين وهكذا. فهل تراهن أمريكا يا تُرى على عودة الأيدولوجيا الدينية لتحكم العلاقات الدولية؟ ، أملاً منها في تحقيق مصالحها الرامية إلى تقسيم العرب والمسلمين، فيصبح السني ضد الشيعي والسني ضد السني والغربي ضد السني والشيعي، وكل هذا على طريق تقسيم الشرق الأوسط الجديد.
داعش يقتلنا مرتين .. مرة بالإرهاب والترهيب.. والثانية بتوفير المبرر العالمي لأمريكا واسرائيل للغزو والاحتلال
يخدم الارهاب بوجوده الولايات المتحدة الأمريكية و الكيان الاسرائيلي بخلق المبرر للعالم بأن يُحارب العرب بكونهم مسلمين وبالتالي هم إرهابيين, داعش يقتلنا مرتين .. مرة بالإرهاب والترهيب.. والثانية بتوفير المبرر العالمي لأمريكا واسرائيل للغزو والاحتلال, وكلاهما رعبٌ وخوفٌ ولا شيء يقتل الأحياء مرتين كالخوف. فتباً لكل السياسات “العربية” المتواطأة مع الكيان الإرهابي ممثلاً بأمريكا واسرائيل.
يرى نعوم تشومسكي أن استراتيجية الإلهاء عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة !.
إن انسياق الإعلام العربي وراء القيم والمثل التي تطرحها أمريكا من ديمقراطية وحقوق إنسان وغيرها ، جعله ينساق وراء كل شيء ينبثق عنها تدريجياً ، وبالتالي فإن سيطرة الاعلام الاستعماري على الاعلام العربي، من شأنه أن يعزز استراتيجية الإلهاء التي تقوم على إخفاء العدو الحقيقي (أمريكا-اسرائيل) .