انتهت الهدنة المؤقتة بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي في صباح يوم الجمعة 1 ديسمبر/ كانون الأول 2023، بعد أن دامت 7 أيام، أعقبت ما يقارب 50 يومًا لم يحقق فيه الاحتلال أي نجاح عسكري في قطاع غزة، وفي عمليته البرية شماله، ولم يحرر أسراه لدى حماس، ولم يقضِ على حركة حماس كما كان يهدد.
وبعد العودة إلى إطلاق النار، انسحبت قوات الاحتلال بشكل واضح من محاور القتال في شمال قطاع غزة، ليدفع بهذه التعزيزات إلى جنوب القطاع، لكن خيبته الأولى أنه إذا كان شمال قطاع غزة قد أذاق الاحتلال ويلات الحرب ورعب الأنفاق، فإن جنوب قطاع غزة، من بوابته خان يونس، ليس سوى امتداد لكابوس أكبر سيعيشه الاحتلال، أمام هذه المدينة التي كانت رعبه في حرب النكسة 1967، وفي عام 2014، ومن جديد في “طوفان الأقصى” عام 2023.
وخان يونس، التي تعود حضارتها إلى العصر البرونزي، ثم العصور الإسلامية وصولًا إلى المماليك، تبعهم العثمانيون والانتداب البريطاني، وحتى الاحتلال الإسرائيلي الذي أقام فيها مستوطنة غوش قطيف التي استولت على معظم الأراضي الغربية لمدينة خان يونس، وتفصل المدينة ومخيمها عن الوصول إلى شاطئ البحر، قبل أن تحررها المقاومة في الانسحاب الكبير في سبتمبر/ أيلول 2005.
أيام الانتداب البريطاني
بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو بين دولتَي الاستعمار الأوروبية، بريطانيا وفرنسا عام 1916، وتوزيع نفوذ الدولة العثمانية، احتل الإنكليز مدينة خان يونس في 23 فبراير/ شباط 1917، على امتداد 53 ألف دونم حينها، وضمّها إلى اللواء الجنوبي (لواء غزة)، وورثوا فيها خط السكة الحديدية وقد بناه العثمانيون عام 1892، وكان ينطلق من دمشق ويتفرّع إلى خطَّين، أحدهما يتجه إلى الأردن، والآخر إلى فلسطين ولبنان، وصولاً إلى عكا وحيفا والقدس وقطاع غزة ومصر.
ومع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، قام الثوار بإنشاء مناطق حكم ذاتي، وأقاموا حواجز لإغلاق الأحياء في وجه اختراق الانتداب البريطاني، وقاموا بغرس المسامير في الشوارع لإعاقة حركة البريطانيين واليهود، وإطلاق النار على المقرات الانتدابية، حينها أصدرت قوات الانتداب لوائح هدم منازل للفلسطينيين، ودمّرت قوات الإنكليز المنازل في جميع أنحاء فلسطين، من خان يونس في غزة إلى مجد الكروم في الجليل.
حين خدعها الاحتلال في النكسة ليمرَّ
بعد نكبة عام 1948، وتهجير العصابات الصهيونية للفلسطينيين من الأراضي المحتلة، استقبلت المدينة 1000 لاجئ فلسطيني، وأقاموا في مخيمات يرقبون من خلالها يوم التحرير الأكبر، للعودة إلى قراهم ومدنهم في الداخل المحتل.
لكن هذه المدينة التي شهدت قصة اللجوء، كما رفضت اتفاقية التعايش التي وقعتها الإدارة المصرية مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1950 بشكل سرّي، وذلك على إثر الشكوى الإسرائيلية المستمرة من عمليات التسلُّل الفلسطيني من قطاع غزة إلى الأراضي المحتلة، وجرى بموجب هذه الاتفاقية اقتطاع 185 كيلومترًا من مساحة قطاع غزة الشرقية والشمالية لصالح الاحتلال، عن طريق إزاحة خطّ الهدنة إلى الغرب حوالي 3 كيلومترات.
وكان مقررًا أن تكون الإزاحة على امتداد الحدود الشرقية، من الشمال إلى الجنوب، إلا أن معارضة أهالي خزاعة وعبسان في جنوب قضاء خان يونس، ومهاجمتهم لجيبات ضباط الهدنة المصريين، وإصرارهم على رفض الاتفاقية، أنقذ قرى شرق غزة الجنوبية من الضمّ، ولذلك بقيت المسافة العرضية في منطقة خان يونس هي أطول عرض على طول قطاع غزة.
وشهدت خان يونس خداع الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب النكسة عام 1967، التي احتلت فيها “إسرائيل” قطاع غزة كاملًا والضفة الغربية والجولان في سوريا وشبه جزيرة سيناء في مصر، ويروي أحد الشهود على خدعة الاحتلال الكبيرة لدخول هذه المدينة دون مقاومة، وتلافي خوض اشتباكات ومواجهة مقاومتها على الأطراف، إذ رفعت دبابات الاحتلال الأعلام الجزائرية والأردنية والسورية مكتوب عليها شعارات مناهضة لـ”إسرائيل”، وتدعو إلى التقدم نحو الأرض المحتلة وتحرير فلسطين.
ويتابع أبو منصور النواجح، عن مجريات النكسة في قطاع غزة لمركز الدراسات الفلسطينية: “من سخرية القدر، أن العشرات من النسوة الفلسطينيات خرجن في بادئ الأمر في جنوب غزة يستقبلن الدبابات الإسرائيلية المموّهة بالأعلام العربية بالزغاريد والأعلام الفلسطينية على طول شارع صلاح الدين الرئيسي، وهو الطريق الذي عبرته الدبابات، حتى خُدع الجميع بوجود الجيش الإسرائيلي في قلب مدينة خان يونس، التي يُجمع عدد من الذين شهدوا الحرب أنها استبسلت 6 أيام وهي تُقاوم العدوان، حيث استشهد فيها عدد كبير جدًّا من ضباط وجنود الجيوش العربية”.
أما محمد أيوب فيكتب في روايته عن تلك اللحظات التي عاشها: “انتشرت الإشاعات في المدينة، الدبابات الجزائرية وصلت إلى المدينة، رأيتها بعيني، مكتوب عليها: “إلى القدس، إلى حيفا، إلى يافا”، والله إنهم جزائريون، دقي يا طبول النصر، يا فرحة النصر أطلي علينا، ما دام الجزائريون قد وصلوا إلى خان يونس فهذا يعني أن الجيش المصري قد وصل إلى تل أبيب، اقترب موعد اللقاء يا وطن.. لكن كيف وصل الجزائريون بهذه السرعة إلى أرض المعركة؟ غير معقول أن يصلوا بهذه السرعة، أم أن الجزائريين كانوا موجودين من الأصل لكن ذلك بقي سرًّا حربيًّا، أشمّ رائحة الخديعة لكني لا أكاد أحدد مصدرها”، واحتلها الاحتلال بعد الخديعة.
ولاحقًا للنكسة، شاركت مدينة خان يونس، وهي المدينة التي منها انطلق القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام محمد الضيف، وقائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار، في عمليات المقاومة إبّان انتفاضة الحجارة في عام 1987، وانتفاضة الأقصى في عام 2000، وصولًا إلى الانسحاب الإسرائيلي تحت ضربات المقاومة في غزة في سبتمبر/ أيلول 2005، وحرب غزة عام 2008، وحرب عام 2014.
“العصف المأكول” في غزة.. روايات من الليالي الأعنف
حين يذكر الفلسطينيون حرب غزة عام 2014، فإنهم يذكرون بالضرورة 3 مجازر كبرى نفّذها الاحتلال الإسرائيلي في جنوب القطاع، مجزرة الشجاعية ومجزرة خزاعة ومجزرة رفح “الصندوق الأسود”، وجاءت هذه المجازر في أعقاب ضربات مؤلمة وجّهتها المقاومة للاحتلال: أسر 4 جنود، وجحيم في خزاعة.
بلدة خزاعة، التي تقع شرق محافظة خان يونس، بعدد سكان يتجاوز 11 ألف فلسطيني، وعلى خلاف بقية المناطق الحدودية، تمتد أراضيها إلى الشرق أكثر داخل أراضي 1948، أي أن سكانها يرون أراضيهم المحتلة ويتغذّون كل يوم بحلم العودة، وجاءت حرب “العصف المأكول” التي يتحدث سكانها عن أنها أعنف جولة مواجهة يشهدونها، إذ دُمّر ثلثا مساحة البلدة، واستشهد أكثر من 90 من أبنائها، وحُوصرت لأسبوعَين.
وتروي كتائب القسام عمّا جرى في يوليو/ تموز 2014، حين تقدمت قوة إسرائيلية باتجاه خزاعة، فزرع أحد المقاومين عبوة ناسفة بشكل مواجه لإحدى الآليات، وقام بتفجيرها لتشتعل النار فيها، فيما تم استهداف آليتَين أخريين بقذيفتَي تاندوم وآر بي جي، ما أدّى إلى إعطابهما.
وإضافة إلى شراسة المعركة البرية، شهدت خزاعة عدة عمليات بسلاح المدفعية، خاصة ضربات الهاون التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الاحتلال، ففي إحدى المعارك وصلت إشارة من وحدة استطلاع للمقاومة إلى أحد مرابض الهاون داخل خزاعة، تتحدث عن وجود تجمع لجنود جيش الاحتلال بالقرب من الحدود، حدّدت مجموعةُ المدفعية الإحداثيات، وأطلقت 5 قذائف هاون من عيار 120، وكانت النتيجة 6 قتلى من جنود الاحتلال.
وحسب ما اعترف به الاحتلال، فإن الكمائن العسكرية التي نفّذتها المقاومة خلال الحملة البرية في خزاعة، أوقعت في صفوفه 14 قتلى بالمجمل، بالإضافة إلى عشرات الجرحى، وهو ما يشكّل تقريبًا خُمس قتلى الجيش خلال المعارك البرية في تلك الحرب.
ونقل “راديو تل أبيب” عن قائد فصيل في اللواء المدرّع 7 قوله إن “الحدث الأصعب والأكثر إثارة كان ببلدة خزاعة شرق خان يونس في 25 يوليو/ أيار، حيث طلب منه القيام بمهمة تفجير خزّان مياه قريب من فتحة أحد الأنفاق في البلدة”.
وأضاف الضابط حاييم اليستر أنه سمع وفور صعوده على الخزان مع 3 جنود إطلاق نار من الأسفل، وفهم حينها أن النار أُطلقت من أحد المنازل، وأن إحدى الوحدات اشتبكت مع مسلحين، و”تقدمت نحو مكان إطلاق النار في أحد الأزقة، وعندها رأيت مسلحًا يطلق النار باتجاه مجموعة أخرى من الجنود، ويبعد عني مترَين فقط من داخل الزقاق، وكان هناك مسلح آخر داخل المنزل، وبدأ بإطلاق النار تجاهنا، وعندها تراجعنا إلى الوراء حتى نستعد للدخول إلى الزقاق بقوة”.
وذكر أنه “ظهر مسلح ثالث من جهة أخرى، وسُمعت أصوات انفجارات وسقط زميلي عميت ياؤوري على الأرض قتيلًا، وشعرت حينها بضربات كضربات المطرقة على جسده، وفهمت أنني أُصبت وتعطّل سلاح زميلي الآخر، حينها فهمت مباشرة أنه إذا لم أهرب من المكان وأردّ على مصدر النيران فسأموت كالكلاب الضالة، وذلك بعد أن تلقيت طلقة في كتفي اخترقت رئتَي و3 طلقات أخرى في مناطق متفرقة من جسدي”.
وأضاف أن “الجنود لم يطلقوا النار على ذلك المسلح، ولو بقيت هناك لقُتلت في المكان، فقد كانت مجموعة من المسلحين ولم نعلم من أين أتوا، وفي تلك اللحظة رأيت جنديًّا آخر غارقًا في دمائه ويُدعى غاي بويلاند من وحدة الهندسة الحربية، الذي فارق الحياة فيما بعد”.
“طوفان الأقصى”.. الهدير الأضخم قادم من خان يونس
نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية قولها إن مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، من المحتمل أن تجعل الاحتلال يدفع ثمنًا أكبر ممّا دفعه بالشمال، وأضاف الكاتب الإسرائيلي ناحوم برنياع، في مقال كتبه في الصحيفة العبرية تحت عنوان “خفضوا توقعاتكم”: “إن لم نتمكن من تطهير مدينة غزة وأريافها خلال 59 يومًا، لن نستطيع تطهير خان يونس وأريافها خلال فترة أقل بكثير”.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن الاحتلال يريد أن يركز في هجومه على مدينة خان يونس، لأنها مسقط رأس قادة بارزين في حركة حماس، من بينهم يحيى السنوار ومحمد الضيف، واعتقاد الاحتلال أن السنوار يدير عمليات حماس مع الضيف ومروان عيسى وكبار القادة من المدينة.
لكن هذه التوقعات والمرحلة الجديدة التي بدأها الاحتلال، قاطعتها كتائب الشهيد عز الدين القسام بعملياتها في المقاومة، حتى أعلنت مساء يوم الثلاثاء 5 ديسمبر/ كانون الأول، أي بعد يومَين على العملية البرية في خان يونس، أنها دمرت 24 آلية عسكرية كليًّا أو جزئيًّا، فقط في محاور القتال بمدينة خان يونس، وأجهزت على 10 جنود صهاينة وقتلتهم من مسافة صفر، وقنصت 6 جنود آخرين ببنادق “الغول” القسامية في منطقة الزنة، واستهدفت قوة خاصة من 8 جنود بقذيفة مضادة للأفراد، وحققت فيها إصابة مباشرة في محور شرق مدينة خان يونس.