أن تكون صحفيًّا داخل غزة فالموت أقرب إليك من الهواء الذي تتنفّسه، فكل الأجواء من حولك موت ودمار يزكمان الأنفس ويزيدان الجراح نزيفًا، وإن كُتب لك النجاة ولو مؤقتًا فالدور الأقرب على عائلتك وأهلك، فالانتقام ليس له حدود، والوحشية الإسرائيلية تفوق كل وصف مهما كان قاسيًا.
غير أن الأروع من ذلك أن تصرَّ على الصمود وسط كل هذا الخذلان، أن تتخذ من الموت سبيلًا للحياة، ومن الدمار وسيلة للبناء، أن تسرق من خزائن اليأس أروقة الأمل، وأن تزرع في أجنّة قيعان النهايات نطف بدايات جديدة، كلها إيمان ويقين بأن النصر هو المكتوب، وأن الرسالة والغاية تستحقان كل تلك التضحيات، فإن لم تستحق فلسطين فمن يستحق؟
استشهد في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة 73 صحفيًّا خلال شهرين فقط، بمعدل صحفي كل يوم، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة.
ويعدّ هذا العدد من الضحايا الصحفيين غير مسبوق في تاريخ الصراعات والحروب، حتى تلك التي صُنّفت على أنها حروب ضد الإنسانية، حيث فاق عدد الصحفيين الذين سقطوا في غزة في غضون شهرَين فقط، إجمالي الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وعددهم لم يتجاوز 69 صحفيًّا، رغم أنها أودت بحياة عشرات الملايين، كذلك حرب فيتنام (1955-1975) التي استمرت قرابة عقدَين كاملَين، وسقط فيها 63 صحفيًّا فقط.
الأمر ذاته مع الحرب الكورية (1950-1953) التي راح ضحيتها 17 صحفيًّا على مدار 3 سنوات من القتال، بحسب مؤسسة منتدى الحرية المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة ومقرها واشنطن، حتى الحرب الروسية الأوكرانية التي تقترب من عامها الثاني لم يتجاوز عدد الصحفيين الذين قُتلوا خلالها 17 صحفيًّا.
\ويقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي حتى اليوم قرابة 44 صحفيًّا فلسطينيًّا، من بينهم 29 صحفيًّا تم اعتقالهم بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفق البيانات الرسمية الصادرة عن نقابة الصحفيين الفلسطينيين.. فأي دور نضالي يقدّمه صحفيو غزة؟ وأي ثبات وصمود لهم في مواجهة الموت الذي يطوقهم أينما ذهبوا؟
استهداف ممنهج للصحفيين وعوائلهم
من لم يُردع بالموت بالرصاص فليُردع بالقهر والحزن على أهله وأبنائه.. تلك كانت الاستراتيجية الصهيونية في التعامل مع الإعلاميين والصحفيين، حيث استهداف أسرهم وقصف منازلهم وإيقاعهم بين شهيد ومصاب ومفقود، وهو ما عبّر عنه مدير مكتب “الجزيرة” في غزة، وائل الدحدوح، حين استهدف الاحتلال منزل أسرته في مخيم النصيرات وسط القطاع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
حينها تلقى الدحدوح على الهواء مباشرة نبأ استشهاد زوجته وأبنائه وعدد من أفراد أسرته، وقتها قال عبارته الشهيرة: “بينتقموا منا في الولاد”، وهي العبارة التي لاقت انتشارًا هائلًا في الداخل الفلسطيني وخارجه، لما تحتوي عليه من معانٍ ودلالات قاسية ومؤلمة.
الأمر تكرر مع صحفيين آخرين، منهم مراسل “تلفزيون فلسطين” محمد أبو حطب، الذي استشهد و11 من أفراد أسرته إثر قصف منزلهم الذي يقيمون فيه، كذلك الصحفي في وكالة “وفا” محمد أبو حصيرة، الذي سقط و40 من أفراد عائلته في قصف لمنزله.
ولعلّ أحدث تلك الجرائم وليس آخرها استشهاد 22 فردًا من عائلة الصحفي الفلسطيني مراسل قناة “الجزيرة” مؤمن الشرافي، من بينهم والده ووالدته، في قصف إسرائيلي على منزل العائلة بعد ساعات قليلة من نزوحهم إليه أملًا في أن يكون آمنًا.
"بينتقموا منّا في الولاد".. "معلش" مراسل الجزيرة وائل الدحدوح يبكي نجله الذي استشهد مع زوجته وابنته.. 19 يوم والدحدوح يغطي المجازر ليل نهار دون توقف، حتى صارت عائلته عنوانًا في الأخبار. الله يصبر قلبه الله يجبر كسرنا جميعًا. #غزة pic.twitter.com/ChXUvOEhXa
— مُنى حوّا • Muna Hawwa (@MunaHawwa) October 25, 2023
أما من فلت منهم من القصف، فكان الاعتقال والتنكيل مصيره، وهو ما تم مع عدد من الصحفيين منهم أمير أبو عرام، ومحمد أحمد عبيد، ومصعب إبراهيم سعيد، وسمية جوابرة التي أُلقي القبض عليها رغم أنها حامل في شهرها السابع.
ولم يتوقف الاستهداف على الصحفيين وعوائلهم فقط، بل طال المؤسسات الإعلامية العاملة في القطاع، حيث استهدف جيش الاحتلال أكثر من 50 مقرًّا إعلاميًّا أجنبيًّا ومحليًّا داخل قطاع غزة، منها مقار “وكالة الأنباء الفرنسية” وقناة “الجزيرة” وقناة “الشرق” و”المجموعة الإعلامية الفلسطينية”، فضلًا عن تعطيل الإذاعات الـ 24 في قطاع غزة وتوقف عن البث بسبب نفاد مصادر الطاقة.
ووصل التنكيل والانتهاك حد تحذير الكيان المحتل للوكالات الأجنبية العالمية بالاستهداف، وأن جيشه لا يضمن سلامة موظفيها أثناء عملية القصف، وهو ما علقت عليه وكالة “رويترز” بقولها إن هذا التحذير “يهدد قدرة موظفيها على إيصال الأخبار حول الصراع دون خوف من الإصابة أو القتل”.
حين تكون الصحافة جريمة
لم يكن استهداف الصحفيين عملية عشوائية غير مقصودة كما يروج الخطاب الإسرائيلي، إذ كان الهدف معلنًا، منهجية واضحة في الاستهداف لإسكات الأصوات وفرض حالة من التعتيم على الجرائم والانتهاكات المرتكبة، وهو ما أكّد عليه محرر الشؤون الفلسطينية في “القناة 13” الإسرائيلية تسفي يحزقيلي، تعليقًا على استهداف عائلة مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح، حين قال إن عائلة المراسل كانت هدفًا لقصف جيش الاحتلال، مؤكدًا أن قوات الجيش تعرف ما تضربه بالضبط.
وعلى المسرح الغزّي تحولت الصحافة إلى جريمة تستوجب العقاب والاستهداف من قبل الاحتلال، الذي يحاول قدر الإمكان التغطية على جرائمه المروعة بحقّ الفلسطينيين، ومن ثم بات العمل في مهنة الصحافة داخل القطاع مغامرة ربما تكلف صاحبها حياته وحياة أسرته.
مراسل “تلفزيون فلسطين” تعليقًا على استهداف زميله محمد أبو حطب واستشهاده مع 11 فردًا من أسرته، قال على الهواء مباشرة: “إننا هنا ضحايا شهداء مع فرق التوقيت فقط، نمضي واحد تلو الآخر ولا أحد ينظر إلينا ولا إلى الجريمة التي نعيشها في غزة”، وأضاف وهو يخلع الدرع والخوذة اللتين تحملان كلمة “صحافة” ويلقي بهما على الأرض، إن “هذه الدروع والقبعات التي نرتديها هي شعارات لا تحمينا على الإطلاق، نفقد الأرواح بلا أي ثمن”.
الشعور ذاته عبّرت عنه الصحفية بلستيا العقاد، حين نشرت صورة لها على إنستغرام لدرعها وخوذتها، قائلة: “اعتدت دائمًا ارتداء درع وخوذة الصحافة، لكن مؤخرًا توقفت عن ارتدائهما، لا أشعر بالأمان في غزة، خاصة وأنا أرتدي درع وخوذة الصحافة، أتمنى أن ينتهي الكابوس قريبًا وألا نفقد المزيد من الصحفيين”.
أما الصحفي محمد المدهون، فأشار في حديثه لـ”نون بوست” أنه ينتظر الشهادة كل دقيقة، وأنه منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تنقّل إلى أكثر من 10 مناطق داخل القطاع هربًا من الاستهداف الممنهج للصحفيين، لافتًا أن الموت أقرب إليه من أنفاسه التي لم تهدأ طيلة الـ 50 يومًا الماضية.
وتحت عنوان “من سيسلط الضوء على الفظائع في غزة إذا تم القضاء على جميع الصحفيين؟”، نشرت صحيفة “الغارديان” تقريرًا للصحفي البريطاني أوين جونز، تحدث فيه عن وحشية الإجرام الإسرائيلي، واصفًا ما أسماها “المذبحة الجماعية للصحفيين في غزة” بأنها الصراع الأكثر دموية للعاملين في مجال الإعلام على الإطلاق.
وتساءل جونز: “أين التضامن الصحفي مع تلك الجرائم بحقّ الصحفيين والإعلاميين في القطاع؟ أين المقالات الافتتاحية النارية في الصحف التي تدين هذه الفظائع بالذات؟ وأين النشرات التلفزيونية وأين الصحفيين البارزين الذين يطالبون بالتضامن والحماية مع زملائهم في فلسطين؟”، لافتًا أنه عندما منعت “إسرائيل” المراسلين الأجانب من دخول غزة، تُرك الأمر للصحفيين الفلسطينيين ليخاطروا بحياتهم لنقل الحقيقة للعالم، وهو ما أزعج الاحتلال الذي حاول منع ذلك من خلال إخماد أصواتهم واحدًا تلو الآخر.
سقوط الرواية الإسرائيلية
وأمام تلك الجرائم المروعة بحقّ الصحفيين، حاول الاحتلال قلب الطاولة من خلال بعض الأكاذيب والمزاعم التي لم تستمر طويلًا، فسرعان ما سقطت أمام الحجج والبراهين التي كشفت زيفها، ومن أبرز تلك الأكاذيب ما نشرته منظمة Honest Reporting (منظمة تدّعي مراقبة الانحياز ضد “إسرائيل” في وسائل الإعلام) في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
حيث نشرت تحقيقًا اتهمت فيه المصورين الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة بامتلاك معلومات مسبقة عن عملية “طوفان الأقصى”، متسائلة: “ماذا كانوا يفعلون هناك في وقت مبكر جدًّا في صباح يوم السبت؟”، متهمة إياهم بالتنسيق مع حماس في تلك العملية.
ولاقى هذا التقرير انتشارًا كبيرًا لدى الأوساط الإسرائيلية، لدرجة أن الخارجية الإسرائيلية نشرته على صفحتها على منصة إكس، فيما انبرى قادة الاحتلال لتوجيه الاتهام والانتقادات للصحفيين، وساووا بينهم وبين مقاتلي القسام، وفي منشور للمكتب التابع لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، قال: “كان هؤلاء الصحفيون شركاء في جرائم ضد الإنسانية؛ أفعالهم تتعارض مع أخلاقيات المهنة”.
مراسل #الجزيرة مؤمن الشرافي في ظهوره الأول بعد استشهاد 21 شخصا من أسرته من بينهم والده ووالداته وعدد من أشقائه ويقول: نحن نحرم من النظرة الأخيرة لمن يستشهد من أقاربنا ونحرم من دفنهم#حرب_غزة #الأخبار pic.twitter.com/GLwuyvuUbZ
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 6, 2023
وبعد الفحص السريع لتلك الادّعاءات تبيّن كذبها كالعادة، حيث كشف توثيق ظهور المصورين بالقرب من سياج غزة بأنه كان بعد العملية بأكثر من ساعتَين وليس وقت حدوثها، وذلك بعدما فعل سكان القطاع ما فعلوا واخترقوا سياج غزة، لتصل الأخبار إلى الجميع ومنهم الصحفيين الذي وصلوا إلى هناك لاحقًا.
كما أن عدم وصول صحفيين أجانب ودوليين إلى السياج والاقتصار على الصحفيين الفلسطينيين، فمرجعه إلى عدم منح الاحتلال تصاريح دخول للصحفيين إلى القطاع، وعليه وبشكل منطقي لم يصل إلى منطقة العمليات سوى الصحفيين الفلسطينيين فقط، وهو ما يفنّد الادعاءات الإسرائيلية بشكل كبير، الأمر الذي دفع الكثير من الجنرالات والنخبة للتراجع عن تلك الرواية بعدما كُشف زيفها، ليواصل الاحتلال نزيف السقوط الإعلامي وخسارة كافة معارك الحقيقة والصورة والقلم والكلمة.
اختارت مجلة كناك البلجيكية، الأربعاء، مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح، الشخصية الصحفية لعام 2023، بعد استمراره في تغطية الأحداث رغم استشهاد أفراد من عائلته جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع #غزة.
وخصصت المجلة التي تعد الأكثر انتشاراً في #بلجيكا، عدة صفحات تروي جزءاً من… pic.twitter.com/O9TMRGU6sT
— TRT عربي (@TRTArabi) December 7, 2023
وعلى الجانب الآخر، جيّش الاحتلال آلته الإعلامية في الداخل ووسائل الإعلام الدولية الموالية له لتبنّي رواية موحّدة، تعزف على وتر أن استهداف الصحفيين في غزة كان من منطلق “الدفاع عن النفس”، ليتحول الإعلام في الداخل والخارج إلى بوق للجيش الإسرائيلي، كما ذهب الصحفي عوض عبد الفتاح في “ميدل إيست آي“.
ولفت عبد الفتاح أن كثيرًا من الصحفيين الإسرائيليين يتوقفون عن العمل كصحفيين في أوقات الحرب، أو حتى أثناء المواجهات المحدودة مع الفلسطينيين، ويتوجّهون نحو العمل كمجنّدين من خلال العزف على وتر الإسراع في القضاء على المقاومة الفلسطينية، بل وصل الأمر إلى ترهيب واعتقال كل من يبدي أي تعاطف مع الفلسطينيين حتى لو كان من الإسرائيليين، في محاولة لإسكات أي صوت داعم للقطاع، خاصة بعد تزايد حجم حملات التأييد والدعم لغزة في الشوارع والمدن الغربية، والتي تمثل ضغطًا كبيرًا على الأنظمة والحكومات الداعمة للكيان المحتل، خاصة واشنطن ولندن وباريس.
ثبات يحمل الكثير من الرسائل
توهّم الاحتلال أن استهداف الصحفيين في غزة وعوائلهم والتنكيل بهم واعتقالهم، سيسكت أصواتهم ويقصف أقلامهم ويطفئ أضواء كاميراتهم، لكن ردّ الفعل كان مفاجئًا، فبعد ساعات قليلة من استشهاد زوجته وأبنائه وأفراد عائلته، خرج وائل الدحدوح في بث مباشر لإكمال رسالته الإعلامية، الموقف ذاته مع مؤمن الشرافي الذي أعلن أنه مستمر في رصد جرائم الاحتلال رغم استشهاد معظم أفراد عائلته.
#فيديو | رغم الجراح والألم.. صحافيون من غزة بينهم #وائل_الدحدوح ينشدون أنشودة البقاء من داخل مستشفى شهـ،،داء الأقصى pic.twitter.com/Y1v4ObuosZ
— العربي الجديد (@alaraby_ar) December 4, 2023
موقف جماعي أبداه الصحفيون والمراسلون، الاستمرار في تقديم الرسالة مهما كان الثمن، إيمانًا في أن ما يقدمونه ليس مجرد عمل يتقاضون عليه أجرًا، إنما غاية ورسالة تسيران جنبًا إلى جنب المقاومة العسكرية في الميدان، فريق يقاتل بالرصاص لتكبيد المحتل خسائر في صفوفه، وآخر بالصورة والكلمة لفضح انتهاكاته وإسقاط قناعه المزيف أمام العالم.
ويثبت الصحفيون الفلسطينيون كما المواطنين أن الإيمان بالقضية أعمق من الإيمان بالحياة، وأن مخططات التهجير وإن نجحت مؤقتًا بفعل المؤامرات والمخططات، فإنها لن تستمر طويلًا مع شعب غرس نفسه في أرضه .