في مثل هذا اليوم من عام 1987، كانت الأراضي الفلسطينية المحتلة على موعد مع الانتفاضة الأولى، وبعد مرور أكثر من 3 عقود لا يزال النضال من أجل الحرية مستمرًّا.
ورغم حجم المأساة التي يعيشها قطاع غزة، حيث وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 16 ألفًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لا تشهد الأراضي الفلسطينية انتفاضة جديدة، وهو أمر يعيدنا إلى تحليل أسباب ذلك.
زمن الانتفاضات
بدأت انتفاضة الحجارة عندما كانت الحافلات التي تقلّ عمّالًا فلسطينيين من أماكن عملهم في الأراضي المحتلة، تهمّ بالتوقف اليومي المسائي أمام حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة، وقتها داهمت الحافلة شاحنة عسكرية إسرائيلية، ما أدّى الى استشهاد 4 عمّال وجرح 7 آخرين من سكان مخيم جباليا، ولاذ السائق الإسرائيلي بالفرار.
ومن أجل 4 فلسطينيين، اندلع بركان غضب شعبي صباح اليوم التالي من مخيم جباليا، حيث يقطن أهالي الضحايا الأبرياء، ليشمل قطاع غزة برمّته وتتردد أصداؤه بقوة أيضًا في الضفة الغربية المحتلة، وذلك لدى تشييع الشهداء الأربعة.
وكانت الخلفية الأكبر للانتفاضة هي الاحتلال الإسرائيلي الذي دام 20 عامًا للضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة وشرق القدس، حيث حكم الكيان الأراضي المحتلة بقبضة من حديد، وفرض حظر التجول، ونفّذ مداهمات واعتقالات وترحيلات وهدم منازل.
استمرت الانتفاضة حتى عام 1994، عندما نجحت في انتزاع اعتراف “إسرائيل” والدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بالشعب الفلسطيني، وتأسيس حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت مسمّى “السلطة الوطنية الفلسطينية”.
كان تأسيس السلطة من مخرجات اتفاق أوسلو للسلام عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، والذي ينص على انتهاء عملية السلام عام 1999، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة وغزة)، وهو ما تنصلت منه دولة الاحتلال.
وتسبّب رفض “إسرائيل” إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة المستقلة، واقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية الأسبق أرئيل شارون للمسجد الأقصى، في اندلاع الانتفاضة الثانية نهاية عام 2000.
وفي 11 نوفمبر/ تشرين ثاني 2004، توفى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مستشفى عسكري في ضواحي باريس، إثر تدهور سريع في صحته لم تتضح خلفياته عقب الحصار.
واعتبرت حركة فتح محمود عباس الخليفة الطبيعي لياسر عرفات، وبعد 4 أيام وافقَ المجلس الثوري للحركة عليه كمرشح للانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 9 يناير/ كانون الثاني 2005، وفاز بها.
لم يمرّ سوى شهر حتى توقفت انتفاضة الأقصى في 8 فبراير/ شباط 2005، بعد اتفاق هدنة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قمة شرم الشيخ، لكن بسبب توقفها دون أي حل سياسي مع استمرار المواجهات، بدأت الولايات المتحدة و”إسرائيل” في التفكير بخطة مع عباس، نجحت حتى اليوم في منع اندلاع انتفاضة ثالثة.
عهد جديد
أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه الجنرال كيث دايتون، للعمل كمدرّب لقوات أمن السلطة ومنسّق بين الأخيرة وسلطات الاحتلال.
وهذا الجنرال الأمريكي من مواليد عام 1949 صاحب خبرة عسكرية في سلاح المدفعية، وأخرى دبلوماسية من خلال عمله في السابق ملحقًا عسكريًّا في العاصمة الروسية موسكو، كما عمل مديرًا لمجموعة المسح التي كانت تبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق.
ولخبرته الأمنية والعسكرية، كلفته واشنطن بمهمة إعداد جنود مختلفين للسلطة الفلسطينية يعملون على حفظ الأمن ويقمعون أي انتفاضة جديدة، وأنجز كيث دايتون مهمته عام 2010 برتبة فريق، لكن كيف نجح فيها وما أبرز سماتها؟
استخدم دايتون عدة أساليب لتحقيق أهدافه، بسلخ الأجهزة الأمنية عن وطنها وهموم شعبها، دون أن يكون لديهم خجل من التنسيق والتعاون مع الاحتلال، ضمن ما يعتقدون أنه خدم المصلحة الوطنية العليا.
وتطرّق أستاذ العلوم السياسية عبد الستار قاسم إلى هذه الآليات في مقال سابق نشرته “الجزيرة نت”، وأبرزها:
أولًا: كسب ثقة الفلسطينيين، من خلال إيهام أفراد الأجهزة الأمنية وسلطة عباس أن الاستقرار الأمني سيجلب الدولة والاستقلال، إضافة إلى تعلُّم دايتون وفريقه عن العادات والتقاليد الفلسطينية وممارستها أمامهم ليشعروا بالثقة.
ثانيًا: التجهيز والتدريب، والذي جرى في مواقع متقدمة ومساحات واسعة وتجهيزات حديثة وأماكن نوم مريحة، لم تعهدها أجهزة الأمن في الأراضي المحتلة وفي الأردن.
ثالثًا: انتقاء العناصر، وهنا قال دايتون إن قيادته لا تقبل للتدريب كل من يرغب في ذلك، وأنه يتم فحص كل عنصر (واستعمل كلمة الفحص البيطري) من قبل أجهزة الأمن الأمريكية والإسرائيلية قبل الموافقة على الانضمام.
رابعًا: نوعية السلاح، وهنا أكّد دايتون أمام لجنة الكونغرس أن السلاح الذي يُعطى للفلسطينيين غير قاتل، وكان ذلك إجابة عن تساؤلات أعضاء اللجنة عن الخطر الذي يمكن أن يشكّله السلاح الذي يعطى للفلسطينيين على “إسرائيل”، وهو ما يخدم اليوم عدم اندلاع انتفاضة وبقاء أجهزة الأمن طيّعة لـ”إسرائيل”.
خامسًا: الإبقاء على الفلسطينيين مكشوفين أمام الإسرائيليين، أي بقاء مقراتهم من دون تحصين، لأن الإسرائيليين لا يطمئنّون لأحد، وفق وصف عبد الستار قاسم.
الاستعداد للقادم
وخلال ترؤُّسه للسلطة وحركة فتح، تعهّد محمود عباس بأنه لن تكون هناك انتفاضة ثالثة طالما أنه موجود على رأس الحكم، حيث عُرف بنبذ المقاومة المسلحة ومحاربتها ووصمها بالإرهاب.
وفي سبتمبر/ أيلول 2010، قال عباس إن “الانتفاضة المباركة عام 2000 دمّرتنا ودمّرت كل ما بنيناه وما بني قبلنا”، وهو ما موقف ما زال يتخذه حتى اليوم.
وبعد أكثر من شهرَين على بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي خلّف عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين ومئات آلاف النازحين، فضلًا عن دمار واسع في البنية التحتية، لم تُطلق رصاصة واحدة من قبل أي عنصر أمن في السلطة الفلسطينية على المستوطنات في الضفة الغربية.
وتسود تقديرات فلسطينية محلية بامتلاك أجهزة أمن عباس من 60 إلى 70 ألف قطعة سلاح، يقولون إنهم يحرسون بها المستوطنات الإسرائيلية بدلًا من استخدامها ضد عدوهم.
وأكثر من ذلك، قال عضو المكتب السياسي لحركة حماس، موسى أبو مرزوق، إن أعضاء في السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية يطالبون الغرب سرًّا بالقضاء على حماس.
موسى أبو مرزوق للجزيرة مباشر: أعضاء في السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية يطالبون الغرب سرا بالقضاء على حماس pic.twitter.com/jtaF2wIy26
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 29, 2023
وبعد العدوان على غزة، أكّد عباس والناطق باسم السلطة في رام الله، نبيل أبو ردينة، أكثر من مرة أن حماس لا تمثل الشعب ولا الشرعية الفلسطينية، في استعادة لذكريات الانقسام الداخلي عام 2007، وللتأكيد على استعداد السلطة للعودة إلى القطاع.
المتحدث باسم الرئاسة وعضو مركزية فتح نبيل أبو ردينة:
👇🏿👇👇🏿
لا علاقة لنا بما يجري بين حماس وإسرائيل في غزة pic.twitter.com/ClrG6xzEn9
— صالح آل صبيح -Saleh AlZahrani (@saleh1584) December 3, 2023
وطردت حماس السلطة الفلسطينية من قطاع غزة عام 2007، بعد عدم تمكينها من الحكم إثر فوزها في العام السابق بنتيجة ساحقة في الانتخابات التشريعية.
وفي 7 ديسمبر/ كانون الأول، ذكرت مصادر فلسطينية لصحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، أن عباس أكّد، لدى استقباله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في مقر الرئاسة بمدينة رام الله، استعداده لقبول تولّي المسؤولية عن قطاع غزة.
واشترط أن يكون ذلك “ضمن أجواء جديدة بلا حرب أو عنف، وضمن منح منظمة التحرير الفلسطينية زمام الحكم في كل المناطق، قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية”.
واليوم بدلًا من اندلاع انتفاضة ثالثة، يبدو أن عباس يستعدّ لإعادة تطبيق مخطط كيث دايتون في غزة، حيث كشفت صحيفة “التايمز” البريطانية في 7 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أن فريقًا عسكريًّا بريطانيًّا في الضفة الغربية يعمل على إعداد السلطة الفلسطينية لتولي إدارة القطاع.