لن يمر الحريق الذي اندلع في لانكاستر ويست غرب لندن يوم الأربعاء بعد الساعة الواحدة صباحًا على خير على رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي وسياسات الحكومة المقبلة، الحادثة شبهها البعض باحتراق برجي التجارة العالمي في نيويورك 2001، إذ سرعان ما حول الحريق البرج المؤلف من 30 طابقًا ويضم 190 شقة ويقيم فيه 600 شخص إلى كتلة فحم، وقد اضطر فرق الإنقاذ إلى إرسال نحو أربعين سيارة إطفاء وإسعاف ومشاركة 200 إطفائي على الأقل لإخماد النيران.
بدورها ملكة بريطانيا، إليزابيت الثانية، قالت إن البلاد تمر بفترة عصيبة بعد حريق لندن الكبير وقبله هجوم مانشستر، في أثناء زيارة لها إلى موقع الحريق في برج غرينفيل السكني غربي لندن يوم الأربعاء الماضي، والذي أدى إلى فقدان 70 شخصًا على الأقل، وقالت الشرطة البريطانية إنه تأكد مقتل 30 شخصًا، وأن حصيلة الضحايا مرشحة للارتفاع. وأشارت الملكة “إنه من الصعب الهروب من مزاج قاتم في بريطانيا بعد كل المآسي التي وقعت في لندن ومانشستر، والبلاد عازمة على مواجهة هذه المحنة”، وقال الأمير وليام عن الحريق الذي حوّل المبنى إلى هيكل متفحم “هذا واحد من أكثر الأمور المروعة التي شهدتها”.
يتنامى الغضب تجاه إدارة المبنى المنخفض الإيجار، حيث يريد السكان أجوبة بشأن كيف تمكن الحريق من الانتشار بهذه السرعة؟ ولماذا تم تجاهل شكاوى بشأن السلامة؟
إلى جانب المأساة بالحريق نفسه فقد حمل معه أيضًا قصص مأساوية للقتلى، كان من بينهم اللاجئ السوري محمد الحاج علي من درعا (23 عامًا)، هرب مع شقيقيه علي وهشام من البراميل المتفجرة وجحيم الحرب في منطقته في رحلة لجوء شاقة انتهى بهم المطاف في لندن بحثًا عن حياة أفضل ولإكمال دراسته في الهندسة، تجاوز فيها صنوف العذاب وانتهى به المطاف ليموت حرقًا في البرج المذكور. كان محمد مع علي في منزلهما عندما تسللت إليه النيران وهرع علي للخروج معتقدًا أن شقيقه سيكون قادرًا على اللحاق به لكن محمد وقع في فخ النيران وكانت آخر رسالة كتبها لشقيقه معاتبًا إياه لتركه وحيدًا ” لماذا تركتني؟ … لا أستيطع التنفس”.
اللاجئ السوري محمد الحاج علي من درعا الذي قتل في الحادثة
صفعة قوية لحكومة ماي
لم تبد رئيسة الحكومة تيريزا ماي اهتمامًا كبيرًا بالحريق والضحايا وهي التي تكافح لتشكيل حكومة إئتلافية بعد فشلها في الفوز بأغلبية تخولها بالحكم بمفردها في الانتخابات المبكرة، وهو ما جعل الصحف المحلية إلى توجيه انتقادات لاذعة لها بسبب تكالسها في الحادثة، وتشهد شوارع العاصمة البريطانية اليوم مظاهرات غاضبة لعدد من البريطانيين، خرجوا يطالبون بمزيد من الدعم لضحايا الحريق الكبير، واحتشد متظاهرون آخرون في ويستمنستر وسط لندن، قبل أن يتوجهوا إلى مقر الحكومة في شارع داونينغ ستريت، وصرخ المحتجون ” نريد العدالة” و “عار عليكم” و “قتلة” واقتحم ما بين 50 إلى 60 شخصًا مقر بلديتي تشيلسي وكينسينغتون غرب لندن، كما تجمع عدد آخر خارج قاعة كانت تجري فيها رئيسة الوزراء تيريزا ماي اجتماعًا مع عائلات وأقارب ضحايا الحريق.
الأمير وليام يشير أن الحريق الذي حوّل المبنى إلى هيكل متفحم واحد من أكثر الأمور المروعة التي شهدتها
ويتنامى الغضب تجاه إدارة المبنى المنخفض الإيجار، حيث يريد السكان أجوبة بشأن كيف تمكن الحريق من الانتشار بهذه السرعة؟ ولماذا تم تجاهل شكاوى بشأن السلامة؟. وكانت ماي أعلنت في الأمس عن تخصيص 5 ملايين جنيه إسترليني لمساعدة المتضررين من هذا الحريق، وقالت إنها ستعمل على كشف الحقيقة كاملة، و بناء الثقة من جديد مع المتضررين منه، إلا أن ماي غادرت المستشفى التي يتلقى المصابون العلاج فيها مسرعة وسط عبارات استهجان ومطاردة بعضهم لها بسبب ما قالوا إنه تقصير حكومتها في دعم المتضررين.
الملكة إليزابيث في لقاء مع أهالي الحي في البرج المحترق
زعيم المعارضة جيرمي كوربين سارع إلى زيارة موقع الحريق والمأوى الذي تم تخصيصه للمتضررين وأبدى دعمه لهم وعانقهم، وانتقد كوربن تكاسل الحكومة في التعامل مع الحادث، وانتقد أيضًا حجم المخصصات المالية التي أعلنت عنها الحكومة لدعم المتضررين، ووصف مبلغ خمسة ملايين جنيه إسترليني بأنه غير كاف لهذه الحادثة الكبرى. وقال وزير الدولة السابق مايكل بورتيلو إن تعامل ماي مع الحادث كان سيئًا، وأضاف “كان عليها أن تكون هناك مع السكان وأن تكون مستعدة لتقبل مشاعرهم لا أن تخاف من مواجهتهم”.
وبحسب الشرطة فإنه لا يوجد حتى الآن ما يدل على أن الحريق كان متعمدًا، إلا أن الكثير استغربوا ردة فعل الحكومة على الحادثة وقال أحد المواطنين: “لا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذي حدث، فالناس في حالة غضب شديد، وهؤلاء الضحايا لا يمكن أن نتركهم ينامون في الشوارع، وفي قرأ أحد الأشخاص بيانًا أمام مقر البلدية طالبوا فيه بالعمل على المساعدة في إيواء المتضررين في أقرب وقت ممكن، وجمع التبرعات لصالحهم، ووصف البيان الاستجابة إلى حد الآن بأنها ضعيفة، وقال متظاهرون بأنهم غير راضين ويشعرون بالإحباط من أداء الحكومة.
وزير الدولة السابق مايكل بورتيلو يقول إن تعامل ماي مع الحادث كان سيئًا
تباين واضح في سياسات الحكومة
وفي سؤال وجه إلى رئيسة الوزراء ماي بشأن ردة فعل المواطنين والسكان بعد الحريق المهول، دافعت ماي عما قامت به الحكومة حتى الآن، وقالت: “ما نركز عليه الآن بالدرجة الأولى هو الحصول على الدعم المطلوب بشكل ملموس.” وأضافت أن “الحكومة تخصص مبالغ مالية للمساعدة، خاصة لمعرفة ما الذي جرى بالتحديد ، كما ستعمل الحكومة على ضمان أن يعاد إسكان العائلات المتضررة، وهذا ما يجب أن يتحقق الآن، وتعهدت ماي بالتحقيق في أسباب اندلاع الحريق في المبنى”.
لو كان المبنى الذي احترق في إحدى الجادات المشهورة وسط لندن أو في حي المال والأعمال أو في أحد الأبراج الزجاجية، لهرعت رئيسة الحكومة مسرعة لتقصي الوضع والوقوف على المشهد ومواساة الضحايا، ولكان المبلغ المالي الذي أعلنته ماي بلغ مئات الملايين بدل الـ5 مليون، صحف عالمية أشارت إلى أن تعامل الحكومة مع الحريق الذي حدث في مبنى إسكان عام رخيص الإيجار دليل على التفاوت الطبقي في المدينة والاختلاف في التعامل بين طبقة وأخرى في مدينة تعتبر أهم مركز مالي في العالم. وهو ما يجدر الإشارة به أن “ليس كل ما يلمع ذهبًا” وليست كل مدينة متقدمة وثرية عادلة مجتمعيًا، لندن ورئيسة الحكومة سجلت نقطة عار بسبب هذه الحادثة وهذا التعامل المشين من قبل ماي، وقد يؤثر على تصنيف لندن كأفضل مدينة من بين أفضل المدن في العالم.
مظاهرات ضد الحكومة وسط لندن
إلى جانب أن سياسات الحكومة المتبعة تهتم بالأثرياء ورجال الأعمال والمؤسسات المالية المختلفة والمتعددة النشاطات، سياسات تقوم على المنفعة المشتركة فإذا لم يكن هناك منفعة لدعم شخص أو مؤسسة لا تبدي الحكومة أي اهتمام بها، وهذا يعد انحيازًا كبيرًا لطبقة الأغنياء أكثر من طبقات المجتمع الأخرى التي تفوقها أضعافًا، وهو أيضًا يسلط الضوء على العدالة المجتمعية في توزيع الثروة والخدمات والاهتمام بالجميع على قدر واحد من المساواة، فهل أغفلت لندن هذا الجانب!
جل اهتمام الحكومة اليوم هو السوق حيث المال والمنتجات والمصارف والمؤسسات المالية ورجال الأعمال، عملت على اعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية لخدمة تلك الطبقة بحكم المنفعة المتبادلة معهم، على حساب اعتماد سياسات أكثر عدالة بين طبقات المجتمع المختلفة.
لم تبدي رئيسة الحكومة تيريزا ماي اهتمامًا كبيرًا بالحريق والضحايا ما جعل الصحف المحلية إلى توجيه انتقادات لاذعة لها بسبب تكالسها في الحادثة
فالحريق ما كان ليشتعل لو تم إعادة ترميم المبنى القديم أصلا والغير مؤهل من ناحية الأمان، كما أنه ما كان ليحدث لو تم تشديد الإجراءات المتبعة في الرقابة والتفتيش على بنود الأمان في المبنى والتي كانت ستعالج الجدران التي يتم طرح تساؤلات حولها إذا كانت تحمل مواد قابلة للاشتعال السريع إذ أشارت وسائل إعلام أن الحريق سببه استخدام مواد سريعة الاشتعال في الكسوة الخارجية للمبنى العائد إلى سبعينات القرن الماضي، بالإضافة لهذا التحقق من جهوزية المبنى بأدوات الإطفاء وأجهزة الإنذار المبكر وما شابه ذلك.
على كل حال، فالبريطانيين لن يمرروا هذا الصيف على خير لتيريزا ماي وحكومتها الجديدة بسبب هذا التكاسل في التعامل مع الحادثة من جهة ومع التقصير مسبقًا في الكشف عن المبنى وعدم قابلية العيش فيه والذي أدى لهكذا حادثة من جهة أخرى، ومن غير المستبعد أن تحدث ضغوطات كبيرة على الحكومة لدفع المزيد من الأموال باتجاه الرعاية الاجتماعية وبرامج التأمين المختلفة لتلافي أي أضرار مستقبلية قد تعرض بحياة الناس للخطر.