في كل دول العالم المحترمة تقتصر مهمة مدير مكتب الرئيس على ترتيب مواعيد الرجل الأول في الدولة، وتنظيم جدول عمله اليومي، إلى جانب مساعدة طاقم السكرتاريا والمراسم إذا استدعى الأمر، ولا يكون مدير المكتب معروفًا لدى العامة إلا في نطاق ضيّق لأن مهامه تتصف بالخصوصية، والحفاظ على أسرار رئاسة الجمهورية واتصالاتها الحساسة.
لكن بدا العكس تمامًا في جمهورية السودان، البلد الذي يحتوي على جملة متناقضات متنافرة لا يمكن الجمع بينها، فهذا القُطر الإفريقي يحتوي على ثروات طبيعية هائلة كافية لجعله من أكثر البلدان رخاءً واستقرارًا، غير أنه، أصبح – أخيرًا – من أكثر الدول فقرًا وتلقيًّا للمعونات والمساعدات الخارجية، ومن مظاهر التناقض أيضًا، أن الشعب السوداني مصنف بأنه أكثر الشعوب نزاهةً على المستوى العالمي، هذا على مستوى النزاهة الشخصية، أما بالنسبة للحكومات فحكومة السودان الحالية تصنف بأنها من أكثر حكومات العالم فسادًا حسب معايير منظمة الشفافية الدولية التي تتبع للأمم المتحدة.
لتلك التناقضات، ربما لم يكن مستغربًا التمدد والصلاحيات الواسعة التي كان يتمتع بها طه عثمان مدير مكتب الرئيس سابقًا، وهو الذي مُنح رتبة “فريق أمن”، من دون تدرج أو انخراط في الحياة العسكرية أو الجهات الأمنية.
طه عثمان الموظف الصغير في وزارة التعليم العالي لسنوات سابقة، تم تعيينه في منصب مدير مكتب الرئيس في العام 2009 ليكون خلفًا لهاشم عثمان الحسين الذي انتقل مديرًا عامًا لشرطة السودان، وبغض النظر عن كيفية وصول طه عثمان إلى هذا المنصب الحساس بسرعة الصاروخ، فإنه تمدد بعكس سلفه على كل المستويات فأخذ يحمل صفة المبعوث الرئاسي خصوصًا إلى دول الخليج الأمر الذي يتقاطع مع مهام وزارة الخارجية وأجهزتها، كما صار يظهر بكثافة على وسائل الإعلام المتنوعة متحدثًا عن أدق التفاصيل المتعلقة بعلاقات السودان الخارجية وخططها المستقبلية. قد تكون وزارة الخارجية وسفارات الدولة بالخارج انزعجت من هذا التمدد للرجل الذي كان يحظى بثقة الرئيس المطلقة، لكن “الخارجية” لم تقو على الاحتجاج لمؤسسة الرئاسة أو أجهزة الحزب الحاكم.
إلى الآن لم يصدر توضيح من الرئاسة السودانية يُبين أسباب إقالة طه عثمان من المنصب الرفيع الذي قام بتضخيمه بلا جدوى ليكون مدير مكاتب رئيس الجمهورية
تتحدث مجالس المدينة منذ عدة أعوام، عن ملفات فساد تدعي تورط مدير المكتب السابق فيها، وقد نشر أحد الصحفيين الاستقصائيين مستندات تدعم هذا الاتجاه، لكن مؤسسة الرئاسة لم تتحرك لتنفي أو تدافع عن الرجل الذي شغل الناس منذ نحو عاميين ماضيين، بعدما حملت الأنباء في تلك الأيام اتصاله بولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وإبلاغة بقرار السودان قطع العلاقات مع إيران، وهو القرار الذي كانت وزارة الخارجية السودانية آخر من يعلم به، إذ فوجئت ببثه على وسائل الإعلام العالمية نقلاً عن وكالة السعودية بحسب صحيفة سودان تريبيون.
إلى الآن لم يصدر توضيح من الرئاسة السودانية يُبين أسباب إقالة طه عثمان من المنصب الرفيع الذي قام بتضخيمه بلا جدوى ليكون مدير مكاتب رئيس الجمهورية، وتتحدث الأنباء عن عدة سيناريوهات بعضها يتعلق بالفساد المالي وسوء السلوك الشخصي، فيما يربط آخرون إقالة طه عثمان بتورطه في الانحياز لأحد أطراف النزاع الخليجي المستعر حاليًا، يعضدون وجهة نظرهم بالعلاقة القوية التي تربط مدير المكتب السابق بأمراء دولتين من دول الخليج. لكنّ آخرين يذهبون إلى أبعد من ذلك، إذ يتهمون الرجل بالتورط في التجسس على الرئيس البشير لصالح الطرف الخليجي، وأن مخابرات أجنبية كشفت هذا السر الخطير، وتقول رواية أخرى إن عثمان قدّم نفسه لأطراف أجنبية ليكون بديلاً عن عمر البشير.
لا أحد يعلم الحقيقة حتى الآن، فالشعب السوداني لم يعتد على الشفافية من الحكومة التي لا تحترم مواطنيها، غير أن مراقبين يستبعدون أن تكون إقالة صاحب النفوذ القوي الذي كان يصرح بأنه ابن الرئيس وليس مدير مكتبه، بسبب الفساد، إذ إن الشبهات كانت تدور حوله منذ وقت طويل من دون أن يحدث شيء، هذا بخلاف أن عامة السودانيين يعتبرون الفساد منتشرًا وسط رموز وقيادات الحزب الحاكم وأقاربهم، فهذه ليست مشكلة كبيرة في نظر كثيرين.
مع ذلك، يظل الأمل موجودًا عند البعض، فبعض الإعلاميين والمراقبين السودانيين يرمون بثقلهم على رئيس الوزراء بكري حسن صالح باعتباره مؤهل ليقود مسيرة الإصلاح ومحاربة المفسدين، فرغم كونه منزوع الصلاحيات، فإن رئيس الوزراء يعرف عنه حزمه وقوة شخصيته، وتتحدث الأنباء كذلك عن دوره في إقالة مدير مكتب الرئيس السوداني لأنه لم يكن راضيًا عن تمدده وسيطرته على البشير.
البشير يخطط ليكون بكري صالح خليفته بعد نحو ثلاث سنوات، فهل تكون إقالة طه عثمان من منصبه النافذ خطوة إلى الإصلاح ومحاربة الفساد المالي والإداري في السودان؟
قد يقول قائل إن بكري صالح جزء لا يتجزأ من النظام الحالي بفشله وإخفاقاته التي استمرت 28 عامًا ولا تزال، هذا صحيح، لكنّ الرجل في تقديرنا لم يُمنح فرصة حقيقية لقيادة البلد، فالدستور السوداني يعطي رئيس الجمهورية كل شيء تقريبًا، فهو الذي يعين رئيس الوزراء نفسه ويعزله، كما يعين الوزراء ويقيلهم، وهو الذي يعين الأعضاء الجدد في الهيئة التشريعية (البرلمان)، ويعين النائب العام ورئيس القضاء، ومديرو الجامعات والمؤسسات الكبرى، فضلاً عن سلطاته الأخرى المنصوص عليها في الدستور الانتقالي لعام 2005. لكل ذلك، فإن رئيس الوزراء بشكله الحالي هو منصب منزوع الصلاحيات وتظل قدرة شاغله “محدودة” على إحداث تغيير شامل في بنية الدولة وإصلاحها كما يتحدث في خطاباته الرسمية، إلا إذا انتقلت إليه صلاحيات حقيقية أو آل إليه منصب الرئيس، حيث يرى البعض أن البشير يخطط ليكون بكري صالح خليفته بعد نحو ثلاث سنوات، فهل تكون إقالة طه عثمان من منصبه النافذ خطوة إلى الإصلاح ومحاربة الفساد المالي والإداري في السودان؟