صنع الفلسطينيون محطة فارقة في تاريخ قضيتهم الوطنية يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987، حين فجروا الانتفاضة الأولى في وجه الاحتلال الإسرائيلي، واستمرت سبع سنوات (1987-1994) واشتهرت بـ”انتفاضة الحجارة”، وعُرف الجيل الذي صنع تلك الملحمة بـ”أطفال الحجارة”.
شرارة الانتفاضة جاءت من مخيم جباليا، عقب استشهاد 4 عمّال على حاجز بيت حانون “إيرز” الاحتلالي عام 1987، بعد أن أقدم مستعمر على دعسهم بشاحنته، وهم الشهيد طالب أبو زيد (46 عامًا) من المغازي، والشهيد عصام حمودة (29 عامًا) من جباليا البلد، والشهيد شعبان نبهان (26 عامًا) من جباليا البلد، والشهيد علي اسماعيل (25 عامًا) من المغازي.
وفي صباح اليوم التالي عمَّ الغضب مخيم جباليا، وانطلقت المظاهرات العفوية الغاضبة التي تحولت إلى مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال، أدّت إلى استشهاد الشاب حاتم السيسي، ليكون أول شهيد في الانتفاضة المباركة، قبل أن تتدحرج الأمور من مخيم جباليا إلى مخيم بلاطة ونابلس.
واستمرت الانتفاضة 7 سنوات وهي تدور، في كل بيت، وعائلة، وقلم، ومنبر، وجدار، وشارع، وحارة، وحي، ومدينة، ومخيم، وقرية في الضفة وغزة والقدس المحتلة وأراضي عام 1948، كما تقول الأغنية الثورية: “في كل قرية وبيت وحارة، انتفاضتنا تظل دوارة”.
وتشير معطيات فلسطينية إلى أن هذه الانتفاضة شهدت استشهاد 1550 فلسطينيًّا خلال الانتفاضة، واعتقال 100-200 ألف فلسطيني خلالها، كما تشير معطيات مؤسسة الجريح الفلسطيني إلى أن عدد جرحى الانتفاضة يزيد عن 70 ألف جريح، يعاني نحو 40% منهم من إعاقات دائمة، و65% يعانون من شلل دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف، بما في ذلك بتر أو قطع لأطراف هامة.
من انتفاضة الحجارة.. إلى “طوفان الأقصى”
شكّل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مرحلة مختلفة، يومًا يبدو مغايرًا بالنسبة إلى غيره من الأيام بالنسبة إلى الفلسطينيين، حيث شهد صباح هذا اليوم عملية هجومية للمقاومة الفلسطينية ولكتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، حملت اسم “طوفان الأقصى”.
ودون الخوض في تفاصيل ما جرى، ينبغي التوقف هنا عند مجموعة من المراحل التي حوّلت جيل أطفال الحجارة خلال انتفاضة عام 1987 أو حتى انتفاضة الأقصى عام 2000، إلى مرحلة طوفان الأقصى و”انتفاضة الباراشوت” التي تواصل كسر هيبة الاحتلال وتمريغ كرامته بالوحل وتكبده خسائر مدوية في الأرواح والعتاد والسمعة.
يمكن القول إن الـ 36 عامًا التي مرّت على هذه الانتفاضة كانت مختلفة عن سابقتها، إذ شهدت فترة الانتفاضة ظهورًا لحركات المقاومة ذات التيار الإسلامي التي جاءت لتكمل مسيرة الفصائل الفلسطينية الأخرى، مثل حركة فتح والجبهات الشعبية والديمقراطية والقوى اليسارية.
وإلى جانب هذا، فقد شهدت الانتفاضة محاولات لتنفيذ عمليات أسر وتحرير الأسرى من السجون، وبروز شخصيات مثل أحمد ياسين مؤسس حركة حماس، بالإضافة إلى شخصيات أخرى مثل عماد عقل ومحمد الضيف، وبروز شخصيات مثل فتحي الشقاقي مؤسس الجهاد الإسلامي، وأبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية، وجورج حبش وغيرهم.
وبموازاة هذا كله، شهدت “انتفاضة الحجارة” محاولات فلسطينية للدخول في جوهر المواجهة المسلحة، من خلال ظهور سلاح “الكارلو”، وهو سلاح قديم للغاية، إلا أن الحاجة كانت الدافع وراء استخدام المقاومين والمقاومة له.
وعززت هذه الانتفاضة من المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، غير أن توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات والاحتلال الإسرائيلي عام 1993 أجهض الانتفاضة، وقاد إلى ظهور السلطة الفلسطينية كجسم سياسي يتولى مسؤولية إدارة الفلسطينيين.
ورغم انتهاء الانتفاضة بعد 7 سنوات، إلا أن ما حصل في أعقاب ذلك كان العلامة الفارقة في ظهور جيل “طوفان الأقصى” لعدة عوامل، أبرزها العمليات الاستشهادية التي ظهرت في الفترة ما بعد أوسلو، وتحديدًا في فترة 1994-2000، وما عُرف بـ”تفجير الباصات” والتي تواصلت حتى الانتفاضة الثانية “الأقصى”.
الانتفاضة الثانية.. امتداد للحجارة
“لا استسلام”.. هكذا كان الشعار الذي رفعه الفلسطينيون خلال الانتفاضة الثانية، التي تفجّرت في أعقاب زيارة رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون للأقصى واقتحامه له، لتبدأ مرحلة جديدة في عمر القضية الفلسطينية، تحوّل معها شكل المقاومة الفلسطينية إلى شكل أكثر تنظيمًا وتسليحًا.
فخلال انتفاضة الأقصى عام 2000، تطورت الفصائل الفلسطينية وبرز ما يعرَف بالأذرع والأجنحة العسكرية التابعة لها، بداية من حركة فتح فيما عُرف بكتائب شهداء الأقصى، أو كتائب القسام وسرايا القدس وأبو علي مصطفى، وغيرها من الأذرع التابعة للفصائل الفلسطينية.
ومع مرور الوقت، قادت هذه الأجنحة المواجهة مع الاحتلال، وتسابقت فيما بينها لتنفيذ العمليات الاستشهادية في العمق الفلسطيني المحتل عام 1948، لتؤسِّس لمرحلة جديدة انتقل فيها الصراع من الحجارة إلى المواجهة العسكرية ذات الإمكانات البسيطة.
ثم ظهرت الصواريخ البسيطة عام 2001 فيما عُرف بصاروخ القسام، مرورًا بانتقال التجربة لتشمل بقية الفصائل الفلسطينية في تلك الفترة، ومع نهاية الانتفاضة في عامَي 2004 و2005 بدأت تجربة الأنفاق بالظهور في القطاع، لتدفع الاحتلال نحو الانسحاب الكلي من غزة عام 2005 وتحديدًا في شهر سبتمبر/ أيلول.
وشكّل الانسحاب الإسرائيلي بداية حقيقية للتأسيس لما يعرَف اليوم بـ”طوفان الأقصى”، خصوصًا بعد أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، وسيطرت على القطاع كليًّا عام 2007 بعد أحداث الانقسام الداخلي مع حركة فتح.
لتبدأ ببناء منظومة عسكرية شاملة تقوم على شبكة أنفاق كاملة باتت تعرَف بـ”مترو حماس” أو “مدينة غزة الأرضية”، نظرًا إلى تشعُّبها واتساع رقعتها وصعوبة الوصول إليها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، رغم التكنولوجيا التي يمتلكها والقدرات العسكرية الهائلة.
وتعتبر المواجهة التي خاضتها المقاومة عام 2008 أولى مراحل التحضير الحقيقية للجيل الحالي، من خلال المواجهة الشرسة التي عُرفت بـ”الحرب”، خلافًا لما كان يحصل أوقات الاقتحامات أو الاجتياحات التي عُرفت خلال الانتفاضة الثانية “انتفاضة الأقصى”.
ومع تطور المقاومة الفلسطينية، سارت المقاومة بغزة في عدة أبعاد، أبرزها البُعد التسليحي القائم على امتلاك صواريخ متطورة أبعد ممّا كانت تمتلك استنادًا إلى علاقتها بإيران، أو من خلال ما تم إدخاله وتهريبه عبر الأنفاق من مناطق أخرى عام 2012 خلال حقبة الربيع العربي.
وإلى جانب هذا الأمر، عمدت المقاومة إلى جذب العقول سواء من العرب أو الفلسطينيين لمراكمة القوة والبناء على ما تمتلكه، مثل المهندس التونسي محمد الزواري الذي قاد مشروع طائرة الأبابيل التي تمتلكها كتائب القسام وأسّست لمزيد من الطائرات لاحقًا، أو المهندس والدكتور الفلسطيني جمال الزبدة الذي أشرف على مشاريع الصواريخ بعيدة المدى.
كيف تربّى هذا الجيل؟
أمام كل ما سبق، فإن جيل “طوفان الأقصى” تأسّس وتربّى على مجموعة من القيم، أولها “المقاومة هي الخيار”، وثانيها “البُعد العقائدي للصراع مع الاحتلال”، وثالثها “التأسيس الروحي والديني”، بالإضافة إلى عمليات التدريب الميدانية التي كانت تتم للمقاتلين والمقاومين.
وأسّست المواجهات السابقة التي خاضتها المقاومة في الفترة من عام 2008 وحتى مايو/ أيار 2023 الماضي والمواجهة الحالية، لجعل المقاومين قادرين على دخول عمق الأراضي المحتلة، لتنفيذ مثل هذه العمليات الهجومية وأسر جنود وضباط إسرائيليين والعودة بهم خلال وقت قصير.
ورغم حجم الدمار الهائل الذي قام به الاحتلال في أعقاب “طوفان الأقصى”، فإن هذا الجيل أسّس حاليًّا للمواجهة التي ستسهم في دحر الاحتلال كليًّا عن فلسطين، من خلال الصورة التي رسّخها في أذهان الجميع بأن هذا الجيش ضعيف متهالك دون الدعم الخارجي.