قبل 36 عامًا، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987 مجزرة قتل فيها 4 عمّال على حاجز بيت حانون “إيريز” شمال قطاع غزة، بعد أن أقدم مستوطن على دعسهم بشاحنته، وبدأت إثرذاك الانتفاضة الفلسطينية الأولى “انتفاضة الحجارة”، وبين تلك الانتفاضة واليوم في “طوفان الأقصى” تغيرت الظروف والسياقات، لكن عنصرَين ما زالا حاضرَين: المقاومة وقطاع غزة.
وفي اليوم التالي للمجزرة، 9 ديسمبر/ كانون الأول 1987، وخلال تشييع الشهداء الأربعة في معسكر جباليا شمال قطاع غزة، اندفع الناس إلى مركز شرطة الاحتلال قرب مقبرة الشهداء وهاجموا الاحتلال، وبدأت مواجهات أسفرت عن استشهاد شهيد الانتفاضة الخامس، طفل في الـ 17 من عمره، فاشتدَّ الغليان في المخيم، وانتقل إلى بقية القطاع.
في روايته لتلك المرحلة، يروي الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، أن هاتين الحادثتَين كانتا يمكن أن تنتهيا، إذا لم يخرج من يوجّه غضب الناس نحو الاحتلال والعمل العسكري، فاجتمع ورفاقه في المجمع الإسلامي – وهو النواة الأولى للعمل الإسلامي المنظَّم في فلسطين- في 10 ديسمبر/ كانون الأول، وقرروا أن ينقلوا المواجهة إلى جميع شوارع قطاع غزة، وأن يواجهوا الاحتلال بالمظاهرات والحجارة والمولوتوف، وأمهلوا نفسهم يومَين للإعداد.
بعد يومَين، في 12 ديسمبر/ كانون الأول، جاء الموعد المقرر، وكان يوم السبت صباحًا، فأطلقوا مسيرةً وجنازة رمزية لشهداء جباليا في خان يونس، ونقلوا المواجهة هناك مع قوات الاحتلال، وبعد يوم انتقلت المسيرة إلى مخيم الشاطئ في قطاع غزة، ثم إلى مخيمات محافظة الوسطى في القطاع، وفق استراتيجية تبنّاها المجمع الإسلامي تقوم على استعداد كل منطقة، وجعلها مواجهة شاملة.
البيان الأول: “وأنا الغريق فما خوفي من البلل”
اجتمع المجمع الإسلامي مرة أخرى في 14 ديسمبر/ كانون الأول، وأطلق أول بيان في الانتفاضة، قال فيه: “إننا أصحاب حق، ووصلنا إلى مرحلة لا يمكن السكوت عنها، وأننا لا بدَّ أن نواجه المحتل حتى يزول من أرضنا، وأنا الغريق فما خوفي من البلل”، وختمها بتوقيع “حمس” (وهي ما بات يعرف بحركة حماس)، وبدأت قنوات التلفاز العبرية تستضيف المحللين للوقوف على عبارة “وأنا الغريق..”، والخوض في نقاش طويل حول مضمونها.
وتعتبر الانتفاضة الأولى انتفاضة المساجد، ومنها أطلق الفلسطينيون الأناشيد الثورية والحماسية، وانطلقت المظاهرات خاصة أيام الجُمَع، وشارك الفلسطينيون من الأجيال كافة، ذكورًا وإناثًا، في فعاليات الانتفاضة، بل وصلت إلى التحكم فيها بخطوات متّسقة مع القيادات المحلية والوطنية.
وأضرب العمال الفلسطينيون في قطاع غزة عن العمل في الداخل المحتل، وأوقفوا بحركتهم مصانع الاحتلال من العمل، وبالتالي العجلة الاقتصادية للاحتلال، حتى بات الاحتلال يبعث بنداءات ويغريهم بالتسهيلات ليعودوا إلى مواقع عملهم، لكنّ دعوات شعبية كان صوتها أعلا، حيث دعت العمّال إلى عدم سماع الاحتلال والانخراط في مسيرة الانتفاضة الأولى.
الخلايا العسكرية الأولى في قطاع غزة
بين عامَي 1986 و1987، كلّف المؤسس ياسين كلًّا من صلاح شحادة بإنشاء خلايا عسكرية شمال قطاع غزة، وعبد العزيز الرنتيسي في جنوب قطاع غزة بإعداد جهاز عسكري، وسُمّيَ هذا الجهاز لاحقًا بـ”المجاهدون الفلسطينيون”، إلا أن اعتقال الرنتيسي المبكّر جعل الأمر يؤول في نهاية المطاف إلى صلاح شحادة لترتيب العمل العسكري ومتابعة الخلايا في قطاع غزة، وهذا الجهاز هو نفسه كتائب الشهيد عز الدين القسام.
وقبل اندلاع الانتفاضة بنحو شهر، دفع المجمع الإسلامي -حماس لاحقًا- من خلال جهاز “المجاهدون الفلسطينيون” بعض المجموعات في منطقة جباليا وبيت حانون شمال قطاع غزة إلى العمل العسكري، بصنع عبوات ناسفة ووضعها في الطريق لجيش الاحتلال وتفجيرها، وأصابت عدة مركبات إسرائيلية، وكانت السيارة تحرَق بالكامل، ونفّذت هاتان الخليتان 5 تفجيرات في جباليا وبيت حانون، قبل أن يعتقل الاحتلال أفرادها.
وفي عام 1989، خططت حماس لإنشاء خلية جديدة عُرفت باسم “الخلية 101” بقيادة محمد الشراتحة، والذي اتصل فيه “المجاهدون الفلسطينيون” من خلال وضع رسالة في نقطة ميتة، فردَّ عليها بالموافقة على الانضمام، وبدأ بتجنيد عناصر الخلية التي نفّذت 4 عمليات قبل أن يعتقلها الاحتلال.
حيث بدؤوا بالهجوم على إسرائيلي يريد أن يحفر بئرًا في حي الشيخ رضوان في قطاع غزة، وهاجموا مستوطنة بالقطاع بإطلاق النار عليها، وكانت العمليتان الأخريان أهم عمليتَين في الفترة الأولى من انتفاضة الحجارة، حيث خُطف الجندي آفي سسبورتس في أبريل/ نيسان 1989 وتم قتله ودفنه، والجندي إيلان سعدون في مايو/ أيار من العام نفسه وقتله ودفنه.
في نهاية عام 1990 تولّد ضغط تنظيمي تجاه إعادة استئناف العمل العسكري بشكل رسمي ودعمه من جديد، ساعد على ذلك أولًا وجود دفع من قيادات في التنظيم مثل صلاح شحادة للعمل العسكري الذي حاول توجيه العمل من سجنه، وثانيًا وجود دعم مالي ومحاولة إسناد خارجي من بعض الشخصيات الإسلامية وتدريب الكوادر العسكرية، والثالث المبادرة الذاتية من شباب الحركة الذين خرجوا من السجن مبكرًا مثل ياسر النمروطي ومجدي حماد ومحمد الضيف.
وتشكّلت في قطاع غزة 4 خلايا عسكرية نهاية عام 1990، الأولى هي خلية الشهداء في شمال غزة ومدينة غزة يقودها مجدي حماد، والثانية في مخيم الشاطئ يقودها محمود شاهين، والثالثة في المنطقة الوسطى يقودها وليد عقل، والرابعة في رفح بقيادة رمضان اليازوري.
الضفة تسمع الصوت وتنتفض
بعد شهر ونصف من اندلاع انتفاضة الحجارة، كانت المسيرات والمظاهرات قد عمّت كل قطاع غزة، وهو ما أشعل في الضفة المحتلة الحرارة والحماسة، وبدأت القيادة الموحدة لحركة حماس بالتواصل بين الضفة وغزة، لترسيخ امتداد الانتفاضة إلى جميع الضفة المحتلة.
ولم تقتصر الجهود على المسيرات الشعبية التي شاركت فيها جميع الفصائل الفلسطينية في الضفة، بل امتدت إلى نقل التجربة العسكرية، حتى بدأت القيادات التنظيمية أواخر عام 1991 بتفعيل العمل العسكري بشكل أكثر تأسيسًا.
ففي جنوب الضفة اجتمع كل من صالح العاروري وإبراهيم حامد وعادل عوض الله وقرروا البدء في تشكيل خلايا عسكرية، أما في شمال الضفة فقد بدأ زاهر جبارين يتجه نحو العمل العسكري بجانب يحيى عياش وعدنان مرعي وعلي عاصي، وهو ما عُرِف لاحقًا بالقيادة الرباعية في الشمال، وترسّخ هذا التوجُّه على إثر انتقال مطاردي قطاع غزة إلى الضفة الغربية، كما جرى في الضفة الغربية الاتفاق على تثبيت مسمى “كتائب القسام”.
ومنذ بداية الانتفاضة الأولى وحتى نهاية عام 1990، كانت حصيلة هذه العمليات التي نفّذتها خلايا حماس العسكرية في الضفة وقطاع غزة ما يقارب 22 قتيلًا، ما لا يقل عن 15 قتيلًا منهم بسبب عمليات الطعن، وذلك من مجموع عدد القتلى الإسرائيليين عمومًا في الانتفاضة، والذي بلغ 79 قتيلًا.
36 عامًا: الاحتلال لم يتغير
تبنّى جيش الاحتلال، بتوجيه من وزير الدفاع يتسحاق رابين، سياسة القمع العنيف المعروفة باسم “القبضة الحديدية”، فجنّد أكثر من 80 ألف جندي إسرائيلي لوقف زخم الانتفاضة، وقمع نصف مليون فلسطيني عزّل، واستخدم الذخيرة الحية في مواجهة المتظاهرين السلميين، وزجّ بهم في السجون، وفرض إجراءات عقابية كمنع التجول والإغلاقات، وهذه الإجراءات دفعت الفلسطينيين بكل بساطة إلى القيام بمزيد من التظاهرات الحاشدة ضد الاحتلال، وسقط حاجز الخوف.
وحاول الاحتلال إحباط كل فعاليات الانتفاضة، فأغلق المدارس والجامعات، وأولها الجامعة الإسلامية في قطاع غزة التي كانت تقود مواجهة الحركة الطلابية ضد الاحتلال، واعتقل 18 ألف فلسطيني في العام الأول من الانتفاضة، وأبعد قيادات خارج فلسطين من مختلف الفصائل، وبتعليمات من رابين اتّبع الجيش سياسة “كسر العظام”، واستشهد 1550 فلسطينيًّا وجُرح نحو 70 ألفًا خلال انتفاضة الحجارة.
وحظر الاحتلال الإسرائيلي رفع العلم الفلسطيني، وكان من يحمل العلم أو يعلقه في منزله يواجه عقوبة السجن، ولجأ الاحتلال إلى وقف الانتفاضة باستخدام العملاء والمتعاونين، وكان العملاء يرشدون عن المقاومين وناشري البيانات ومن يقفون وراء جمع الفلسطينيين وتنظيمهم خلال الانتفاضة.
عام الانتفاضة الأخير: العام الأعنف
في عام 1993، آخر أعوام الانتفاضة، والتي حاول الاحتلال إنهاءها بتوقيع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، والتي جرّمت العمل المقاوم، وجاءت بالسلطة الفلسطينية لتقوم بمهمة التنسيق الأمني وتحمي الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أتبعت سنوات الانتفاضة وخلاياها العسكرية بقوات الاحتلال في الضفة المحتلة وقطاع غزة.
ومع ذلك، بحلول نهاية عام 1992 وبداية عام 1993، كان هناك ما لا يقلّ عن 10 خلايا عسكرية في الضفة الغربية، تقودها مجموعة من القيادات منها خلية لمحمد الضيف الذي كان متواجدًا في الضفة الغربية آنذاك.
أما على مستوى قطاع غزة، فقد كانت هناك 6 خلايا عسكرية، واستطاعت هذه الخلايا خوض حرب عصابات مصغّرة ضد الأهداف الإسرائيلية، كما جرت فيه أول عملية استشهادية نفّذها ساهر تمام في نيسان/ أبريل من العام نفسه، واعترف الاحتلال بمقتل اثنين من الجنود وإصابة 8 آخرين، وتبنت العملية كتائب القسام، وهي أولى العمليات التي هندسها الشهيد القائد يحيى عياش.
وقد أوقعت الخلايا العسكرية التابعة لحماس أكثر من 56 قتيلًا من مجموع القتلى الإسرائيليين الذين قُتلوا خلال ذلك العام، والبالغ عددهم 61 قتيلًا، وذلك مقارنة بـ 19 قتيلًا في عام 1992، كما نجحت الخلايا العسكرية بتنفيذ 57 عملية خلال عام 1993، مقابل 22 عملية في عام 1992.
واستمر امتداد هذه الخلايا المسلحة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى ارتسمت بصورتها الآن بكتائب واسعة تحمل اسم كتائب القسام، وكما في الانتفاضة الأولى، شكلت غزة معقلًا لهذه الكتائب، وخاضت مواجهاتٍ أجبرت فيها الاحتلال على الانسحاب أحادي الجانب عام 2005 من جميع مستوطنات قطاع غزة.
وتتابعت المواجهات وتواصلت في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021، وصولًا إلى ملحمة طوفان الأقصى، وعوضًا عن الجنديين الذين اختطفتها في سنيّ الانتفاضة الأولى، أسرت في الطوفان 240 مستوطنًا وجنديًا، وتطورت من الحجارة في الانتفاضة الأولى، إلى الصواريخ التي تطال كل الأراضي المحتلة من البحر إلى النهر.