لم يكن تأثير الأزمة القطرية الخليجية محصورًا على العواصم الخليجية والعربية فحسب، بل امتد إلى خارج الحدود ليلقي بظلاله على المشهد الإفريقي بصورة كاملة في ظل النفوذ الذي يتمتع به أطراف تلك الأزمة داخل القارة السمراء، والذي سيتأثر بشكل أو بآخر بمجريات الأحداث وتطوراتها.
سباق بعض الدول الإفريقية إلى كسب الود السعودي الإماراتي عبر الانضمام إلى الفريق المعادي للدوحة إما طمعًا في مزيد من الامتيازات والمكاسب أو رضوخًا لتهديدات مورست هنا وهناك وعلى رأسها جيبوتي، السنغال، موريتانيا، ليبيا، وجزر القمر، يدفع إلى التساؤل عن الآثار المترتبة على هذه الأزمة إفريقيًا خاصة في ظل الحضور القوي لقطر داخل القارة.
إعلان قطر انسحاب قواتها التي كانت ضمن قوات حفظ السلام على الحدود الجيبوتية الإريترية فيما قيل إنه رد على موقف جيبوتي بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي مع الدوحة وما يمكن أن يترتب عليه من مواجهات مع أسمرة، أثار قلق الكثيرين عن ملامح الخارطة السياسية لإفريقيا وما يمكن أن تكون عليه مستقبلًا في ظل استمرار تلك الأزمة.
جيبوتي – إريتريا
كان لقطر دور بارز في تهدئة الأجواء بين جيبوتي وإريتريا في أعقاب الأزمة التي نشبت بينهما والتي وصلت في بعض الأحيان إلى المواجهات المسلحة وذلك في يونيو عام 2008، حين اتهمت جيبوتي أسمره باقتحام أراضي حدودية لها بمنطقة رأس دميرة من الجانب الجيبوتي وحفر خنادق بداخلها وتمركز قوات مسلحة.
وتعد هذه المنطقة “رأس دميرة” من المناطق الاستراتيجية الحيوية التي تطل على البحر الأحمر، وهي عبارة عن رأس صخري بطول كيلومتر وعرض 500 متر تقريبًا يقع بين حدود جيبوتي وإريتريا، ويتوغل داخل العمق البري الجيبوتي.
تكمن أهمية هذه المنطقة الاستراتيجية في هيمنتها على جزيرة تحمل اسمها أيضًا وتسمى “جزيرة دميرة” والتي تخضع لإريتريا حاليًا، إذ إنها تطل على باب المندب، وقريبة من جزيرة ميون اليمنية، إضافة إلى قربها من مثلث الحدود بين الدول الثلاثة إريتريا، جيبوتي، إثيوپيا، والذي يعرف بمثلث العفر “الدناكل”، ومن هنا كان الصراع بين الدولتين الجارتين – إريتريا وجيبوتي – لضمها.
المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إستيفان دوغريك، أكد في تصريحات له أن للأزمة الراهنة بين قطر وبعض دول مجلس التعاون الخليجي تداعيات وصفها بالمقلقة
وبعد أشهر قليلة من الأزمة توجه أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة في زيارة سريعة للدولتين الجارتين أسفرت عن انسحاب القوات الإريترية من منطقة رأس دميرة التي اقتحمتها، فضلًا عن مشاركة القوات القطرية في قوات حفظ السلام في المنطقة بقوات قوامها 200 جندي وصلت إلى 450 حاليًا.
ونجحت الوساطة القطرية حينها في تجنيب الجارتين ويلات الصدامات والمواجهات المسلحة في ظل تأجج الموقف وفشل كل الجهود الإقليمية لاحتواء تلك الأزمة، وهو ما أقرت به حكومتا البلدين في أكثر من مناسبة.
ومؤخرًا أعلنت الدوحة سحب قواتها المتمركزة كافة في هذه المنطقة الحدودية، فيما قيل إنه رد فعل على قرار جيبوتي بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي مع قطر تحيزًا للموقف الإماراتي السعودي، مما تسبب في إشعال الأزمة الحدودية مجددًا بينها وبين إريتريا، مما دفع الأمم المتحدة إلى الإعراب عن قلقها من احتمال نشوب حرب شاملة بين البلدين.
إستيفان دوغريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيرس، أكد في تصريحات له أن للأزمة الراهنة بين قطر وبعض دول مجلس التعاون الخليجي تداعيات وصفها بالمقلقة، مضيفًا أن مكتب الأمانة العامة تسلّم بالفعل رسالتين من المبعوثين الإريتري والجيبوتي لدى المنظمة الدولية بشأن نزاع حدودي بين بلديهما، مع ترقب تصاعد هذا النزاع إلى مواجهات مسلحة كما حدث قبل 9 سنوات.
صدام وشيك بين إريتريا وجيبوتي في أعقاب سحب قطر لقواتها العسكرية
الحضور القطري إفريقيًا
لم تكن جيبوتي وإريتريا المتأثر الوحيد جراء الأزمة القطرية الخليجية، ففي نظرة سريعة على خارطة الحضور القطري داخل القارة السمراء يمكن الوقوف على أبرز المجالات والمناطق الجغرافية المحتمل تعرضها للتأثر بسبب هذه الأزمة.
سياسيًا.. اعتمدت الدوحة في دبلوماسيتها الإفريقية على عدد من المحاور والأدوات التي استندت إليها لحل النزاعات وإقامة بعض الشراكات مع دول القارة، والتي ربما تتأثر حال تشديد الخناق على قطر وخضوع بعض دول إفريقيا لإملاءات الرياض وأبو ظبي في هذا الشأن.
قامت قطر بدور الوساطة في عدد من النزاعات الحدودية بين بعض الدول الإفريقية منها السودان وإريتريا، جيبوتي والصومال، إثيوبيا والصحراء الغربية، إلا أن دورها الملحوظ في تهدئة الأجواء بين جيبوتي وإريتريا في 2010 كان الأبرز لما نجم عنه من حقن الدماء بين الجارتين.
كما كان للدوحة دور كبير في الوساطة بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة في دارفور بدءًا من عام 2008 وحتى الآن، في حين تجاهلت الدول العربية تلك القضية، ويعتبر اتفاق الدوحة الذي وُقّع بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة في فبراير/شباط 2013 تتويجًا لنجاح هذا الجهد.
علاوة على ذلك أرست قطر القواعد الأولى لتأسيس التفاهم العربي الإفريقي بعد سنوات من الجفاء وهو ما تجسد في توقيع 5 مذكرات تفاهم بين الدوحة وأديس أبابا في 2013، في بادرة هي الأكبر من نوعها في تاريخ البلدين، فضلًا عن دورها في دعم جنوب السودان بعد الانفصال في محاولة لتهدئة الأجواء مع السودان من جانب ومساعدة الدولة الوليدة على القيام بدورها من جانب آخر.
لم تكن جيبوتي وإريتريا المتأثر الوحيد جراء الأزمة القطرية الخليجية
تنمويًا.. لقطر جهود تنموية وإغاثية كبيرة في القارة الإفريقية، وهو ما ينذر بكارثة إنسانية ومجتمعية حال تأثر هذه الجهود بالأزمة الراهنة، مما أثار قلق الكثيرين من المهتمين بالشأن الإفريقي.
تعد الدوحة أحد أكبر الدول الداعمة لمؤتمر المانحين في إفريقيا كما هو الحال في النيجر والصومال، كذلك ما قامت به وما زالت في منطقة القرن الأفريقي ، حيث تمكنت من دعم المشروعات خاصة الزراعية والتعدينية في مناطق وسط وشرق وغرب إفريقيا، حتى أصبحت ضمن أكبر 6 دول حول العالم تستثمر في السودان بحجم يقترب من 3.8 مليار دولار في مشروعات متنوعة زراعية وصناعية وغيرها.
إضافة إلى ذلك بلغت الاستثمارات القطرية لدى الخرطوم قرابة 4 مليارات دولار، وفي دارفور تعهدت بدفع ملياري دولار كرأس مال لبنك تنمية دارفور إذا ما تم تنفيذ اتفاقات السلام بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة، كنوع من التشجيع على المضي قدمًا في طريق المصالحة والسلام.
تبلغ الاستثمارات القطرية في ليبيا قرابة 700 مليار دولار تقريبًا، إضافة إلى سيطرتها على 25% من تراخيص استغلال النفط والغاز في موريتانيا، وحسب التقارير الرسمية الصادرة عن جهاز قطر للاستثمار فإن الدوحة أنفقت ما يقرب من 30 مليار دولار في عام 2012 في مشروعات إفريقية.
ويعد مشروع السكك الحديدية الذي تدرس الدوحة إمكانية تنفيذه داخل إفريقيا هو الأكثر أهمية على الإطلاق، فالمشروع من المقترح أن يتضمن تدشين خط سكة حديد يبدأ من مدينة نيالا في السودان ويمتد حتى داخل تشاد، ثم يمتد حتى حدود الكاميرون ونيجيريا ويصل إلى سواحل المحيط الأطلسي.
وفي جزر القمر كان للدوحة حضور مميز، وهو ما جاء على لسان رئيسها إكليل ظنين، والذي قال في تصريحات سابقة له: “الشعب القمري في غاية الامتنان تجاه الشعب القطري الشقيق الذي تضامن معه دائمًا ولا يزال من أجل النهوض بمستوى المعيشة في جمهورية القمر المتحدة”، مضيفًا “الوقت لا يتسع لذكر الإنجازات والدعم المستمر لدولة قطر أميرًا وحكومة وشعبًا تجاه شقيقتها جزر القمر وهذه المناصرة والتأييد والدعم المادي والمعنوي والاستثماري ستظل محفورة في ذاكرة هذا الشعب الأبي إلى الأبد”.
وفي السياق ذاته أشار سفير جزر القمر لدى قطر، حاجي عبد الله عبد الحميد، في حديث سابق له أن مؤتمر الدوحة لدعم التنمية والاستثمار في جزر القمر في الفترة من 9-10 من مارس 2010م والزيارة التاريخية لحضرة صاحب السمو الأمير الوالد حفظه الله في 22 من أبريل 2010م إلى جزر القمر وكرمه السخي في دفع الرواتب المتأخرة عن 6 أشهر، زرعت شجرة البهجة والسعادة في قلوب القمريين”، مضيفًا “لا يسعني في هذا الصدد إلا أن أعبر لحضرة صاحب السمو أمير دولة قطر بالامتنان والشكر على جميع المساعدات المقدمة إلى جزر القمر”.
الاستثمارات القطرية تحتل المرتبة الأولى بين الاستثمارات النفطية في موريتانيا
إنسانيًا.. كان للهلال الأحمر القطري دور إنساني إغاثي كبير داخل إفريقيا، بالإضافة إلى عدد من الجمعيات والمنظمات المجتمعية والأهلية الخيرية، والتي كان لها جهود حثيثة في بناء المساجد والمدارس الإسلامية والمراكز الصحية وغير ذلك من الكيانات الخدمية المجتمعية.
ففي جمهورية إفريقيا الوسطى خصصت الدوحة 2.9مليون ريال قطري لإغاثة المتضررين من جراء أعمال العنف الطائفي، كاستجابة عاجلة لإغاثة الأسر المتضررة لتوفير الاحتياجات الأساسية التي أعلنتها المنظمات الإغاثية الدولية، إضافة إلى افتتاح أول مكتب للهلال الأحمر القطري في إفريقيا الوسطى رغم الصعوبات حينها.
وفي دراسة أعدتها مؤسسة الشيخ عيد الخيرية عن نشاطها خلال العشرين عامًا الأخيرة كشفت عن تنفيذ 886 مشروعًا إنشائيًا في مجال التعليم يختص ببناء 886 مدرسة ومعهدًا ومركز تحفيظ للقرآن بتكلفة تقارب 244 مليون ريال، كان لإفريقيا النصيب الأكبر منها لا سيما في 23 دولة، منها الجزائر والمغرب ورواندا وبوروندي والصومال وجزر القمر وتشاد وتوغو وجنوب إفريقيا وملاوي ومصر وموريتانيا وكينيا وغانا.
رئيس جمهورية جزر القمر يقول “إن الشعب القمري في غاية الامتنان تجاه الشعب القطري الشقيق الذي تضامن معه دائمًا ولا يزال من أجل النهوض بمستوى المعيشة في جمهورية القمر المتحدة”
ماذا بعد؟
حالة من الترقب تخيم على المتابعين للشأن الإفريقي جراء ما يمكن أن يترتب على الأزمة القطرية الخليجية، خاصة في ظل السباق المحموم لبعض دول القارة في تقديم أوراق اعتماد الولاء والبراء لأبناء زايد وسلمان من خلال تبني خيار المقاطعة أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي على أقل تقدير.
ويبقى السؤال: ماذا لو أقدمت الدوحة من باب رد الفعل على وقف نشاطها الخيري والتنموي فضلًا عن السياسي في دول القارة؟ ما الآثار التي من الممكن أن تنجم عن هذا الموقف؟ بلا شك فإن كثيرًا من دول القارة سيواجه أزمات تنموية ومجتمعية ربما تهدد تماسكه المجتمعي وقد تدفع إلى تصعيد لا يحمد عقباه.
ورغم الامتيازات المتوقع حصول هذه الدول عليها كنوع من المكافأة لمواقفها الأخيرة فإن هذا لا يكفي لتعويض الدور القطري خاصة أنه لا يقتصر فقط على الجانب المادي، ثم ماذا لو هدأت العاصفة مرة أخرى، وعادت الأجواء القطرية الخليجية إلى طبيعتها في ظل جهود الوساطة الممارسة من بعض الدول على رأسها الكويت وتركيا؟ ربما يدفع ذلك الدوحة إلى إعادة النظر في حزمة علاقاتها مع دول القارة.
ومن ثم يمكن القول إن اشتعال الأزمة مجددًا بين جيبوتي وإريتريا لن تكون الأخيرة، في سلسلة الآثار المترتبة على الأزمة القطرية الخليجية، كما أن الخارطة السياسية والتنموية الإفريقية من المرجح أن تكون على موعد مع هزة ربما تعيد رسم ملامح أجزاء كبيرة منها خاصة في منطقة القرن الإفريقي.