يبدو أن الرسائل مضمونة الوصول التي وجهتها الجماهير الرياضية التونسية خلال السنوات التي سبقت الثورة إلى السلطة، لم تصل بعد ولم تحقق أهدافها المرجوة التي كان أهمها “اتركونا نشجع فرقنا وابتعدوا عن طرقنا وتجنبوا الصدام معنا”، هذا ما فهمناه من اعتقال وزارة الداخلية لشابين فاعلين في إحدى المجموعات المشجعة للنادي الإفريقي التونسي، بسبب رفعهم لشعار ”كرهناكم يا حكام تحاصرون قطر، وإسرائيل في سلام” في أثناء مباراة نهائي كأس تونس لكرة القدم التي جمعت فريقهم بنادي اتحاد بن قردان قبل يومين.
هذه الرسائل التي طالما أكدتها الجماهير الرياضية خلال كل إطلالة لتشجيع فرقها منذ سنوات طويلة، كانت الإعلان الرسمي عن تمرد فئة كبيرة من الشباب التونسي على النظام الذي كان يحكم البلاد بالحديد والنار، حتى إنه كان يعتقل العشرات من الجماهير الرياضية كل أسبوع لأسباب تافهة، إشباعًا لغرائزه القمعية ودعمًا لمنظومته الدكتاتورية.
قبل 14 من يناير، اختارت الجماهير الرياضية أن تكون لسان المضطهدين والمدافع الأول عن حقوق وكرامة التونسيين، فكانت شعاراتهم المرفوعة في أغانيهم لا تخرج عن موضوعين رئيسين “لا للظلم، نعم للحرية والكرامة”، وهو ما أزعج السلطات التي وصل بها الأمر قبل نحو سنتين من إحراق محمد البوعزيزي نفسه، إلى منع قمصان المحبين المكتوب عليها “ACAB”، وتعني هذه الكلمة المختصرة من الإنجليزية أن هذه الجماهير ضد الشرطة ومعارضة لها لأنها تفسد ما يحاولون إصلاحه، وفق اعتقاد مجموعات الأولتراس.
عندما تعود بي الذاكرة قليلًا إلى الوراء، ما زلت أتذكر كيف كانت الشرطة التونسية تفرق الجماهير الرياضية المصطفة بالآلاف طيلة ساعات أمام شبابيك ملعب المنزه، بالكلاب والعصي والغاز المشل للحركة، مع توجيه وابل من الشتائم وسب الأم والأب والأخت والأخ والرب لكل من لا يلتزم بالتعليمات أو حتى من لم يُعجب أحد هؤلاء الشرط.
يستخدم بعض الأمنيين سلطتهم وقوتهم من أجل احتكار تذاكر المباريات الرياضية بين الفرق الكبيرة وترويجها في السوق السوداء وسط علم كبار القيادات الأمنية وتواطؤها
ليس هذا فحسب، فالقمع الذي تتعرض له جماهير الفرق الكبيرة في أثناء اقتطاع التذاكر لم ينته هنا، فما ينتظرهم قبل دخول الملاعب ليس بالأمر الهين، فرغم حيازتهم لتذاكر لمشاهدة مباراة فرقهم، لن ينعموا بالكرامة ما داموا مواطنين عاديين درجة ثانية، فبالكاد تتمكن هذه الجماهير من الوصول إلى أبواب الملاعب دون المرور بالمئات من أعوان الأمن الذين ينتظرون الفرصة السانحة للبطش بهم.
وفي ذات السياق، يستخدم بعض الأمنيين سلطتهم وقوتهم من أجل احتكار تذاكر المباريات الرياضية بين الفرق الكبيرة وترويجها في السوق السوداء وسط علم كبار القيادات الأمنية وتواطؤها، فسعر التذكرة التي لا تتجاوز في أقصى الحالات 10 دنانير قد يصل بين عشية وضحاها إلى 20 و30 دينارًا، وهو ما يزيد من حالة الاحتقان بين الجماهير الرياضية.
إن السلطات التونسية وعلى رأسها وزارة الداخلية المشرفة على تأمين المناسبات الرياضية، تعلم جيدًا أن سياساتها القمعية ضد الجماهير الرياضية بمختلف انتماءاتها سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه عاجلًا أم آجلًا، كما أنها تتذكر جيدًا تاريخ 8 من أبريل 2010، الذي لن يُمحى من ذاكرة الجماهير التونسية المتخذة من عقلية الأولتراس منهجًا لتشجيع فرقها.
ففي هذا اليوم الدموي في تاريخ الملاعب التونسية، وقبل ربع ساعة من نهاية المباراة التي جمعت الترجي الرياضي ضد حمام الأنف على ملعب المنزه، انقطع التيار الكهربائي عن الميدان، وهو ما أجبر حكم المباراة على إيقاف المباراة مدة 13 دقيقة، لتندلع على إثرها مواجهات دموية بين جماهير الترجي وعناصر الشرطة، مما أسفر عن سقوط جرحى من الطرفين، في حين ادعت جماهير الترجي مقتل رجلي أمن.
هذه الاشتباكات التي اندلعت بين جماهير الترجي والشرطة لم تكن الأخيرة في سلسلة أحداث العنف التي عرفتها تونس قبل وبعد 14 من يناير
جماهير الترجي احتفلت بهذه المواجهات على طريقتها الخاصة، حيث أصدرت مجموعة “الكورفا نوسترا” أغنية بعنوان “8 أفريل 2010 شفت بعينك يا البوليس” احتفلت فيها بطريقتها الخاصة بما حدث في ملعب المنزه، مشيرة إلى أنها قتلت عنصرين من الشرطة التونسية.
هذه الاشتباكات التي اندلعت بين جماهير الترجي والشرطة لم تكن الأخيرة في سلسلة أحداث العنف التي عرفتها تونس قبل وبعد 14 من يناير، فبعد انتهاء مباراة نهائي كأس تونس التي جمعت الترجي الرياضي بالنجم الرياضي الساحلي على ملعب رادس في شهر يوليو 2008، اندلعت اشتباكات بين جمهور “الحمراء” وقوات الشرطة خارج ملعب رادس، مما أسفر عن تهشيم عدد من السيارات الأمنية وسقوط جرحى من الطرفين.
وبعد 14 من يناير، تكررت أحداث العنف وتعددت دوافعها التي لم تخرج في مجملها عن الأسباب التي سبق ذكرها، ففي المباراة التي استضاف فيها النجم الساحلي غريمه التقليدي النادي الصفاقسي على ملعب سوسة في شهر أبريل 2014، دارت مواجهات بين جماهير النجم وقوات الأمن المكلفة بحماية المباراة، استخدمت خلالها الأخيرة الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، كما قامت بملاحقة الهاربين من “الفيراج” وضربهم بالهراوات.
يمكننا القول إن الأسباب الكامنة وراء حدوث أعمال عنف في مختلف الملاعب التونسية لا تزال قائمة بسبب تقاعس السلطة عن أداء واجبها المُملى عليها، وأمام إحساس الجماهير الرياضية بالإهانة قبل وبعد المباريات
كذلك، عرفت مباراة دربي العاصمة التي جمعت النادي الإفريقي بالترجي الرياضي أواخر أبريل الماضي فوضى عارمة داخل ملعب رادس وخارجه، جراء اندلاع اشتباكات بين قوات الشرطة وجماهير نادي “باب الجديد”، مما أسفر عن سقوط جرحى من الطرفين، كما أظهرت الصور تنكيل الأمنيين بعدد من محبي الإفريقي في أثناء مغادرتهم للمعلب.
وفي ختام مقالنا يمكننا القول إن الأسباب الكامنة وراء حدوث أعمال عنف في مختلف الملاعب التونسية لا تزال قائمة بسبب تقاعس السلطة عن أداء واجبها المُملى عليها، وأمام إحساس الجماهير الرياضية بالإهانة قبل وبعد المباريات، ما يتطلب حلولًا عاجلة وناجحة من سلطة الإشراف، قبل أن تقول مثلما قال الأولون “غلطوني”، لأن “الفأس وقعت بالرأس” وقتها.