يوم 20 يونيو/حزيران 2020 أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اعتبار مدينتي سرت والجفرة وسط ليبيا “خطًا أحمر” أمام قوات حكومة الوفاق المعترف بها أمميًا في معركتها مع ميليشيات خليفة حفتر، بدافع الحفاظ على الأمن القومي المصري الذي كانت ترى القاهرة في هذا الخط بداية التهديد الرسمي له.
واعتبر السيسي وقتها أن من حق الدولة المصرية الدفاع عن نفسها إذا ما تم تجاوز هذا الخط الذي يبعد أكثر من ألف كيلومتر من الحدود المصرية، مخاطبًا في كلمة متلفزة له قوات الجيش خلال تفقده وحدات من القوات الجوية في مطروح (شمال غرب) المتاخمة للحدود مع ليبيا: “كونوا مستعدين لتنفيذ أي مهمة هنا داخل حدودنا، أو إذا تطلب الأمر خارج حدودنا”.
التصريحات حينها أحدثت جدلًا واسعًا في الداخل الليبي وخارجه، لكن تحجج القاهرة بمسألة الدفاع عن أمنها القومي من مناطق متقدمة ربما خفف نسبيًا من وطأة تلك التصريحات التي قوبلت بترحيب كبير من قبل السعودية والإمارات، اللتين سارعتها لإصدار بيانين منفصلين أعلنتا فيهما كامل الدعم لحليفهما المصري.
اليوم وبينما تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلية مخططها لتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء أو الداخل المصري، وتدفع بأكثر من مليوني من الفلسطينيين إلى التخندق على بعد كيلو متر واحد من الحدود المصرية حيث مدينة رفح، رغم التحذيرات المصرية المتتالية من هذا المخطط أكثر من مرة، وأنه يعرض أمنها القومي للخطر، إلا أن القاهرة لم تحرك ساكنًا، ولم تعلن غزة ولا حتى رفح “خط أحمر” كما حدث في سرت، مكتفية ببيانات الإدانة والشجب والاستنكار، في تناقض أثار الكثير من التساؤلات حول مقاربات السلطات المصرية بشأن تلك الازدواجية.
سرت خط أحمر
كان الخطاب المصري إزاء المشهد الليبي خطابًا تصعيديًا بامتياز، فقد تبنى النظام المصري استراتيجية متقدمة للدفاع عن أمن البلاد القومي من الداخل الليبي، فرغم أن المعارك كانت في غرب ليبيا إلا أن القاهرة لم تنتظر الاقتراب من حدودها، فتبنت مناورة الهجوم أفضل وسيلة للدفاع.
ورغم الرفض المشدد لتلك التصريحات من قبل حكومة الوفاق المعترف بها أمميًا، والتي اعتبرتها تدخلًا سافرًا وانتهاكًا للسيادة الليبية، إلا أن المبررات التي ساقتها القاهرة وقتها دفعت جميع الأطراف لتبني معادلة جديدة إزاء هذا الملف بما لا يستفز أي من الأطراف الفاعلة.
وقبل ذلك في مايو/أيار 2017 كانت الطائرات المصرية قد شنت غارات لمدة 4 أيام كاملة على مواقع في مدينة درنة الليبية، بزعم استهداف مقار للجماعات المسلحة هناك، تتهمها السلطات المصرية بتورطها في حادث ذبح 12 مصريًا قبالة إحدى السواحل الليبية على ايدي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وأكد السيسي في ذلك الوقت في أكثر من لقاء مع قادة الجيش وبعض الإعلاميين أن حدود مصر الجغرافية وأمنها القومي مسألة لا تقبل النقاش، وأن أي تهديد لها سيكون الرد عليه حاسمًا، وهو الأمر الذي زاد من شعبيته لدى أنصاره ممن يرون في الحفاظ على الأمن القومي المصري الهدف الذي ربما يخفف نسبيًا من الوضع الاقتصادي والمعيشي المتدني.
ماذا عن رفح؟
إذا لم يكن الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للجانب المصري من معبر رفح وإيقاع إصابات في صفوف الجنود المصريين، والإصرار على نقل الصراع من الداخل الفلسطيني إلى الحدود المصرية، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وتقليص مسافة الاشتباك إلى النقطة صفر، والحديث مرارًا عن حلم الدولة العبرية من النيل إلى الفرات، إذا لم يكن كل ذلك تهديدًا للأمن القومي المصري فأين يكمن التهديد إذًا؟ وإن لم تتحرك مصر إزاء هذا الوضع؛ فمتى تتحرك؟
توقع الكثيرون لاسيما المناصرين للسيسي أن خطاب الرئيس إزاء الوضع في غزة لن يقل على أي حال من الأحوال عن خطابه تجاه سرت، لاسيما في ظل الاختلافات الكبيرة بين الحالتين، والتي تتطلب تحركًا عاجلًا وموقفًا حاسمًا أضعاف ما كان عليه في المشهد الليبي، فالخطر هنا يقترب من الحدود المصرية بمسافة لا تزيد عن كيلو متر واحد، مقارنة بألف كيلو متر بين سرت والجفرة والحدود المصرية.
كما أن الخط الأحمر الذي فرضه السيسي في الداخل الليبي جاء رغم تراجع المخاطر والتهديدات المباشرة، إذ كانت المعركة في وسط البلاد، أما في غزة فالأجواء كلها ملبدة بالمخاوف لاسيما في ظل ما أعلنه قادة الاحتلال وداعموه الأمريكان من أن المعركة هي عقدية في المقام الأول، وهو ما يعيد للأضواء مجددًا حلم الصهاينة بدولة “إسرائيل الكبرى”.
إضافة إلى ذلك التصريحات الصادرة عن العديد من المسؤولين وصناع القرار في تل أبيب وواشنطن بشأن تهجير سكان غزة إلى سيناء أو الداخل المصري، والتي تحمل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري الذي كانت غزة والمقاومة سياجًا حاميًا له في مواجهة أحلام الصهيونية التي تداعب جنرالات الحرب في تل أبيب.
وأمام تلك الوضعية الحرجة للأمن المصري طالب البعض بضرورة أن تتحرك القاهرة إزاء هذا الملف كما تحركت في سرت، وهو ما شدد عليه المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، الذي طالب بإلغاء كل اتفاقيات التطبيع مع دولة الاحتلال بدءًا من “كامب ديفيد” مرورًا بأوسلو ووادي عربة، وصولًا إلى ما يعرف باتفاقات “أبراهام”، لافتًا إلى ضرورة إدراك مصر لدورها الآن “أخلاقيًا وإنسانيًا وقوميًا ووطنيًا” تجاه فلسطين.
وطالب صباحي بفتح معبر رفح وكبح جماح العدو الوحشي على حد قوله، منوها أن “الدفاع عن غزة هو دفاع عن مصر وأمنها القومي”. وأوضح أن ما يجري الآن في قطاع غزة أخطر بكثير مما كان يجري في ليبيا، وعليه يجب على الجيش المصري إعلان غزة “خط أحمر” كما فعلها سابقًا مع سرت، وأن يتحرك في هذا الاتجاه.
الموقف ذاته أكد عليه الكاتب الصحفي محمد سعد عبدالحفيظ، عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين، مشددًا على ضرورة أن “تعلن مصر رفح الفلسطينية خط أحمر قبل أن تستكمل إسرائيل مخططها بإجبار أهلنا في غزة على النزوح لحدود رفح المصرية”، وأضاف “حينها لن يكون أمام السلطة المصرية سوى فتح الحدود واستقبالهم في رفح المصرية لتحل النكبة الثانية، لن يرحمنا التاريخ لو ساهمنا ولو بالصمت في تنفيذ هذا المخطط”.
مقاربات القاهرة إزاء تلك الازدواجية
الاستئساد ليبيًا مقابل الانطباح إزاء المشهد الغزي أثار الكثير من التساؤلات حول مقاربات السيسي إزاء القضايا الإقليمية بصفة عامة، ومفاهيم الأمن القومي بالنسبة للقاهرة، فهل يختلف الوضع إذا ما كان التهديد شرقًا عما إذا كان غربًا؟ وهل تعتبر القاهرة دولة الاحتلال مهددًا لأمنها القومي كما اعتبرت حكومة الوفاق الليبية ومن خلفها تركيا الداعمة لها؟
العامل المشترك في الحالتين هنا هو الخذلان إزاء كل ماهو إسلامي، فالموقف المناهض لجماعات الإسلام السياسي في ليبيا هو ذاته إزاء حماس وفصائل المقاومة الإسلامية، وهو التوجه الذي لا تخفيه القاهرة وحلفاؤها الخليجيين على رأسهم السعودية والإمارات، أضلاع محور الثورات المضادة في المنطقة.
غير أن غض الطرف عما يحدث في غزة رغم التهديد الواضح والمباشر والذي قد يعيد تشكيل خارطة الصراع والمنطقة عمومًا، مسألة تحتاج إلى تفسير معمق من أكثر من جانب لفك طلاسمها، الأول كيف تنظر القاهرة لإسرائيل؟ هل تعتبرها دولة احتلال أم حليف استراتيجي وشريك أساسي في تشديد الحصار على المقاومة – بزعم محاربة الجماعات المسلحة في سيناء- طيلة السنوات الماضية؟
••نطالب جيشنا بتأمين دخول دائم للإغاثة عبر معبر رفح والتصدي لمن يمنعها .
••منع سفن داعمي العدوان من المرور في قناة السويس .
•• طرد سفير العدوان وسحب سفيرنا
•• الافراج الفوري عن متظاهري دعم غزة .
من المؤتمر الصحفي للحركة المدنية الديمقراطية ، السبت 28 اكتوبر 2023 pic.twitter.com/XVTtacotjH— حمدين صباحي (@HamdeenSabahy) October 30, 2023
الأمر ذاته فيما يتعلق بنظرة النظام المصري لحماس وبقية فصائل المقاومة، فهل يعتبرها منظمات شرعية تدافع عن أرضها وترابها وعرضها في مواجهة احتلال مغتصب أم ينظر إليها بنفس النظرة الإسرائيلية على أنها جماعات إرهابية غير شرعية، كما ألمح السيسي إلى إمكانية تصفية تلك المنظمات عبر تهجير سكان القطاع إلى صحراء النقب؟
سؤال حرج أخر: هل يخشى السيسي فعلًا التصعيد مع الاحتلال رغم قوة الجيش المصري وإمكانياته، وهنا تتحول تصريحاته العنترية السابقة إلى “قنابل صوتية” للاستهلاك المحلي، على غرار أسطورة “مسافة السكة”، لتضاف إلى القنابل الصوتية الفارغة الأخرى المستخدمة في أكثر من ملف كما هو الحال في ملف “سد النهضة”؟
أم أن ما يحدث من مخطط تهجير هو أمر متفق عليه بين القاهرة وتل أبيب وواشنطن كما كشفت بعض التسريبات التي خرجت مؤخرًا والتي أزالت الستار عن خطة لتوطين فلسطيني غزة في سيناء أو الداخل المصري نظير حوافز ومنح مالية تُخرج مصر من مأزقها الاقتصادي؟ ورغم نفي القاهرة لتلك المخططات والتشديد على رفضها شكلًا ومضمونًا، إلا أن العديد من المؤشرات الأخيرة تثير الشكوك إزاء تلك المسألة.
وتضع تلك الازدواجية – بمقاربتها الراهنة- القاهرة في مأزق حقيقي، بين التواطؤ مع الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية عبر الإطاحة بالمقاومة وتمرير السردية الإسرائيلية، أو الانبطاح أمام الضغوط الأمريكية والإسرائيلية كما هو حال بعض الأنظمة العربية الأخرى، وفي الحالتين تفقد مصر -تحت ولاية هذا النظام- ما تبقى لها من ثقل إقليمي، فهل تتحرك قبل فوات الأوان؟