لنُعِد أولاً استحضار أحداث أزمة الخليج العربي خلال الشهر الأخير وفقًا لتسلسلها الزمني، 19 من مايو/أيار 2017: زيارة “تاريخية” لترامب إلى المملكة السعودية، بدأت بفنجان قهوة لا يعرف ترامب تقاليد احتسائه، وانتهت بصفقة ضخمة تضخ بموجبها السعودية 350 مليار دولار في الخزينة الأمريكية مقابل تزويدها بالأسلحة.
20 من مايو/أيار: أكدت الدوحة تعرضها لحملة “مُمنهجة ومُغرِضة”، قبل زيارة ترامب للمملكة السعودية.
21 مايو: دعا ترامب، في خطاب ألقاه أمام قمة الرياض، المجتمع الدولي والدول العربية والمسلمة إلى عزل إيران، وتجميد قنوات تمويل جماعات من بينها تنظيم الدولة، وحزب الله، وعقد مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لقاءً ثنائيًا في اليوم نفسه.
الساعة 00.15 من ليلة 24 من أبريل/نيسان: تعرضت وكالة الأنباء القطرية للاختراق، وتداولت وسائل إعلام عربية تصريحًا منسوبًا للأمير القطري تميم بن حمد، تحدث فيه عن موقفه من إيران وحماس، ثم إعلان وزير خارجية قطر، سحب سفراء بلاده من السعودية ومصر والكويت والبحرين والإمارات، وطلب مغادرة سفراء هذه الدول لدى الدوحة خلال 24 ساعة، قبل أن تعلن الدول نفسها بعد أيام قليلة، باستثناء الكويت طرد سفراء قطر من أراضيها.
24 من مايو/أيار: إعلان الدوحة تعرّض وكالتها الرسمية للاختراق من قِبل جهة غير معروفة، مشددة على أن ما تم نشره عارٍ تمامًا عن الصحة.
25 من مايو/أيار: هاجمت وسائل إعلام خليجية التصريحات المنسوبة للشيخ تميم، فيما ندّد وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بما وصفه بالحملة المُمنهجة ضد قطر، مؤكدًا أن الدوحة ستتصدى لها.
2 من يونيو/حزيران: مصدر قطري رسمي في الدوحة أعلن أن محققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي) يساعدون قطر في تحديد مصدر “القرصنة” التي تعرضت لها وكالة الأنباء القطرية الرسمية، ما أدى إلى تأجيج التوترات القطرية – الخليجية.
5 من يونيو/حزيران: قرّرت السعودية ومصر والإمارات والبحرين، في بيانات متزامنة، قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع قطر، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية أمامها، لاتهامها صراحة بدعم الإرهاب، وتبعها في اليوم نفسه اليمن وليبيا وموريشيوس والمالديف، وأعلنت إيران وتركيا دعمها لقطر واستعدادها لتزويد السوق القطرية بالمواد الغذائية بعد قطع المنافذ البرية مع المملكة السعودية.
6 من يونيو/حزيران: قرّر الأردن خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع دولة قطر، وإلغاء تراخيص مكتب قناة الجزيرة في المملكة، وتعرقلت الحركة الجوية في دول الخليج بعد أن أوقفت العديد من شركات الطيران العربية الكبرى رحلاتها من وإلى قطر، وتوجّه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، إلى السعودية لإجراء محادثات لحل الأزمة، فيما علّق ترامب على الأزمة قائلًا: “عزل قطر يمكن أن يكون بداية النهاية لرعب الإرهاب”.
أدرجت مصر والسعودية والإمارات والبحرين 59 فردًا و12 كيانًا في “قوائم الإرهاب” المدعومة من قطر
8 من يونيو/حزيران: جزر القمر وجمهورية تشاد تنضمان للمقاطعة، وجيبوتي تُعلن خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع قطر، ووزارة الداخلية القطرية تُعلن النتائج الأولية للتحقيقات الجارية في “جريمة قرصنة موقع وكالة الأنباء الرسمية ” قائلة إن الاختراق وقع باستخدام تقنيات عالية وأساليب مبتكرة، مؤكدة أنها حدّدت مصادر الاختراق وتعمل على جمع الأدلة لملاحقة المسؤولين قانونيًا، كما أدرجت مصر والسعودية والإمارات والبحرين 59 فردًا و12 كيانًا في “قوائم الإرهاب” المدعومة من قطر.
9 من يونيو/حزيران: رجب طيب أردوغان دعا لرفع الحصار على قطر، مؤكدًا أن بلاده لن تتخلى عن الدوحة، وصادق على قرار البرلمان الذي وافق على تطبيق اتفاقية نشر قوات تركية على الأراضي القطرية، حسب بيان للرئاسة التركية الذي نقلته وكالة “الأناضول” (المصدر: موقع المصراوي بتصرف).
ما الذي أخذته السعودية مقابل سحب مليارات الدولارات من خزينتها ثم ضخها في الخزينة الأمريكية؟ وهل رفضت قطر دفع “الجزية” لترامب مقابل إعطائها الأمان؟ ما دور الإمارات العربية المتحدة في هذه الأزمة؟ ما الأوراق التي وظفها محور المقاطعة خلالها؟ وكيف تأثرت ثوابت منطقة الشرق الأوسط بالأزمة الخليجية؟
محور القطيعة بين المملكة السعودية والإمارات المتحدة ومصر
العمامة الأولى: الملك سلمان
ما يبدو كما لو أنه تحالف استراتيجي بين المملكة السعودية والإمارات المتحدة ومصر والبحرين، هو في الحقيقة التقاء مصالح عرضية بين أنظمة غبية وأنظمة أخرى عميلة، وذيولها، فهناك عديد من المؤشرات التي تدفعنا للاعتقاد بأن الأخطاء التي ارتكبتها المملكة السعودية تنم أساسًا عن ضعف بصيرتها السياسية، وهي نتيجة حتمية لغياب الرؤية الاستراتيجية لقادتها وتخبط العالم العربي والإسلامي بأسره في فوضى عارمة.
فالنظام السعودي لديه تحالفات استراتيجية مع العديد من الدول العربية والإسلامية التي تربطه بها مصالح متبادلة ربما أساء النظام السعودي فهمها باعتبارها “تبعية كاملة”، ثم إن المملكة السعودية بحكم المكانة الدينية والاستراتيجية التي تحظى بها في العالم الإسلامي، لا يمكن أن تكتفي بمشاهدة المنطقة العربية تتخبط في الفوضى العارمة، بينما تهدد هذه الفوضى كيانها مع اقترابها تدريجيًا من حدودها.
ما هدمته المملكة السعودية خلال الأزمة الأخيرة بسبب موقفها الأناني سيحتاج سنوات طويلة لإعادة بنائه، فقد ساهمت السعودية في تصدع الصف الإسلامي والعربي من خلال حشره في الأزمة الخليجية
إن من الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها المملكة السعودية استغلالها لمكانتها الدينية والاقتصادية في المنطقة، لفرض وصايتها على بعض الدول العربية والإسلامية من أجل تبني مواقف معادية لقطر، اعتقادًا منها بأن ما يربطها بالدول العربية تحالفات عمياء ترتقي غالبًا إلى التبعية الاقتصادية والدبلوماسية، دون أن تدرك أن أقصى ما يمكنها الحصول عليه لا يمكن ضمانه إلا عن طريق المعاملة القائمة على الاحترام والثقة المتبادلين، ولو لم يكن الأمر كذلك لما رفضت نيجريا قطع علاقاتها مع قطر بناءً على الطلب السعودي، ولما اكتفت بعض الدول العربية الأخرى بالتزامها موقف حياديًا من الأزمة.
ولذلك فإن ما هدمته المملكة السعودية خلال الأزمة الأخيرة بسبب موقفها الأناني سيحتاج سنوات طويلة لإعادة بنائه، فقد ساهمت السعودية في تصدع الصف الإسلامي والعربي من خلال حشره في الأزمة الخليجية، بهدف عزل قطر دبلوماسيًا، والانتقال بالخلاف الخليجي إلى أروقة الأمم المتحدة، ومن بين المواقف الأخرى التي اصطدم بها “محور القطيعة” موقف الأمم المتحدة من “قائمة الإرهاب” التي تقدم بها التحالف للمصادقة عليها، أو في أسوأ الأحوال انتزاع موقف شبه داعم لهذه القائمة.
ولم يكن موقف الأمم المتحدة من هذه القائمة بغض النظر عن الأسماء التي تضمنتها سوى رد فعل طبيعي على القائمة شكلاً ومضمونًا، بعدما صرّح المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أن أي قوائم غير تلك الصادرة عن إحدى وكالات الأمم المتحدة هي قوائم غير ملزمة لنا (…)، ومن حيث المبدأ فالأمم المتحدة ملتزمة فقط بقوائم العقوبات الصادرة من قبل مجلس الأمن”.
وفي الحقيقة لو اتخذت الأمم المتحدة أي موقف مغاير من هذه القائمة، فإن ذلك كان سيمثل منعرجًا خطيرًا في السياسات الدولية، وقد يؤدي إلى خلق أزمة دبلوماسية ستكون الأمم المتحدة في حد ذاتها أول المتضررين منها.
الشيخ محمد بن زايد
مع كل أزمة عربية، هناك أخطاء تقترفها أنظمة غبية، ومؤامرات تدبرها أنظمة عميلة، وفرص تستغلها أنظمة معادية، فإذا كنا نتفق على أن الغباء قد يدفع صاحبه للعمل ضد مصلحته الذاتية، فإن الخيانة لا تختلف كثيرًا عن الغباء باستثناء أن صاحبها تحركه دوافع خفية ليس على استعداد للتنازل عنها إلا بزواله، أو هي كما عرفها القرطبي “الغدر وإخفاء الشيء”.
ولذلك فإن موقف الإمارات المتحدة من الأزمة الأخيرة ودورها في الأزمات المتتالية في المنطقة العربية ودورها الغامض في المحاولة الانقلابية في تركيا ليلة 15 من تموز وموقفها المعادي للثورات العربية، كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بأن قادتها بريئون من تهمة الغباء، فقد عملت الإمارات العربية المتحدة قبل أيام من الأزمة الخليجية على تحريك بيادقها في كل دول العالم، وابتزاز الدول العربية للخروج بموقف أو كلمة تدعم “محور القطيعة” في مواجهة قطر.
ولم يكن دور الإمارات المتحدة ليقف عند هذا الحدّ، فقد عملت أولاً على توفير الظروف المناسبة لاندلاع الأزمة، ثم تغذيتها، وحرصت بعد ذلك على توفير العوامل الضرورية لاستمرارها لأطول وقت ممكن، قبل أن تعمل على حشد العوامل الكافية لخروجها منتصرة منها.
كانت البداية في مصر، من خلال بناء قوة الثورة المضادة التي عملت على جرّ مصر إلى الخلف، وحرصت على توفير كل العوامل المناسبة لتشكيل جبهة الثورة المضادة، إعلاميًا وسياسيًا واقتصاديًا
انتهجت الإمارات العربية المتحدة خلال العقود الأخيرة دبلوماسية جريئة وصاخبة في قطيعة تامة مع إرث مؤسس الدولة، الشيخ زايد الذي انتهج سياسة هادئة تقوم على منطق التوافق والاحترام لخيارت الشعوب العربية في التعامل مع دول المنطقة الخليجية والعربية، لكن ذلك سرعان ما تغير مع الصعود الاقتصادي للدولة العربية الصغيرة، وهو ما بدا واضحًا مع بداية الثورات العربية، فقد أعلنوا موقفهم المعادي لها صراحة، وعملوا على معاداة كل من يتبنى موقفًا مساندًا لها إعلاميًا وسياسيًا، وحرصوا على تقويضها والإطاحة بالأنظمة التي أنتجتها هذه الثورات.
وكانت البداية في مصر، من خلال بناء قوة الثورة المضادة التي عملت على جرّ مصر إلى الخلف، وحرصت على توفير كل العوامل المناسبة لتشكيل جبهة الثورة المضادة، إعلاميًا وسياسيًا واقتصاديًا، فقد كانت البداية ببناء تكتل إعلامي عمل على معاداة الإخوان المسلمين واستغلال هفواتهم إعلاميًا، ثم تحويل هذه الهفوات الإعلامية إلى مكاسب سياسية لصالح قوى الثورة المضادة، لتساهم في وصول نظام عسكري قوي على شعبه، ضعيف على أعدائه، ويمكن ابتزازه وضمان ولائه الأعمى وغير المشروط، وهو ما يفسر تمامًا محركات الموقف المصري الذي جاء متناغمًا مع العزف السيء على أوتار الأزمة بالطبلة الإمارتية والمزمار السعودي.
لم يتوقف الدور الإماراتي عند هذا الحدّ، فقد عملت على الإطاحة بمكاسب الثورة في تونس، وتدخلت بقوة لخلق جبهات سياسية معادية لحركة النهضة، وقد ضمنت لها الأموال الإماراتية صعودًا عنيفًا خلال فترة وجيزة، وليس من المستبعد أن تكون الإمارات العربية المتحدة وراء عدد من الاغتيالات السياسية في تونس خلال السنوات التي تلت الثورة، فقد كشفت بعض الوثائق المسربة المنسوبة لمركز الإمارات للسياسات الذي يقوده ضاحي خلفان ويلعب محمد دحلان دورًا رئيسيًا في صياغة توجهاته الكبرى، عن مخططات سرية حملت عنوان “الاستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس”.
في ليبيا، لم يختلف الأمر كثيرًا عما حدث في مصر وتونس، فقد اتهم قبل بضعة أيام تقرير للأمم المتحدة أعده خبراء المنظمة، دولة الإمارات بانتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا وتقديم مروحيات وطائرات حربية لقوات خليفة حفتر
كشفت هذه الوثيقة عن “خطة إماراتية” لحشر الإسلام السياسي في الزاوية وبسط نفوذ الإمارات في تونس، وقد قدمت الوثيقة رغم صياغتها المقتضبة معرفة دقيقة بتطورات المشهد السياسي في تونس، أما الهدف منها فيكشف عن رغبة في التدخل بشؤون البلاد سعيًا إلى إضعاف نفوذ حركة النهضة وتهميش دور قطر مقابل خلق أطراف موالية للإمارات، ولم يكن الموقف التونسي الذي التزم “الحياد” ظاهرًا سوى نتيجة حتمية للتركيبة السياسية التي تميل للتوزان بين جبهة حركة النهضة وحركة نداء تونس، فهذه الأخيرة التي وصل رئيسها للسلطة تعيش أزمة ثقة داخل كوادرها السياسية، وتبحث عن منفذ للتعافي من أمراضها المستفحلة، وهو ما أكده لي أحد أعضائها السابقين في جهة سوسة، الذي ذكر أن الحزب ظهر خلال فترة قياسية من العدم وضم في صفوفه “مجموعة من الانتهازيين”، ولو أعلنت الدولة التونسية وقوفها إلى جانب جبهة المقاطعة، فإن ذلك كان سيؤدي إلى إعلان نهايتها السياسية، لكن رغم حياد الدولة ظاهريًا فإنها تميل في الباطن للوقوف إلى جانب محور المقاطعة، نظرًا للعلاقات الوطيدة التي تربط حزب نداء تونس بكل تياراته بالإمارات العربية.
وفي ليبيا، لم يختلف الأمر كثيرًا عما حدث في مصر وتونس، فقد اتهم قبل بضعة أيام تقرير للأمم المتحدة أعده خبراء المنظمة، دولة الإمارات بانتهاك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا وتقديم مروحيات وطائرات حربية لقوات خليفة حفتر.
بعد المحاولة الانقلابية في تركيا ليلة 15 من يوليو/تموز، تحدث وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو عن دولة مسلمة “أنفقت 3 مليارات دولار للإطاحة بأردوغان والحكومة التركية، وعملت على تقديم الدعم للانقلابيين ليلة 15 من يوليو/تموز.
هذه الدولة لم تكن سوى الإمارات العربية المتحدة، حسبما ذكر الكاتب التركي محمد أسيت في مقال في صحيفة يني شفق، وقد لعب محمد دحلان الذي يشغل خطة مستشار ولي عهد أبو ظبي دورًا رئيسيًا في رسم المخططات الإماراتية، بداية من الاغتيالات السياسية في تونس، مرورًا بالدعم العسكري لخليفة حفتر في ليبيا، وصولاً إلى دعم المحاولة الانقلابية في تركيا، إضافة إلى فرض حصار خانق على قطاع غزة.
محمد دحلان
خلال “مؤتمر الأمن التعاوني والتهديدات المترابطة” في مدينة بروكسل البلجيكية هاجم محمد دحلان حركات الإسلام السياسي، وانتقد سياسات تركيا في المنطقة، وأضاف “هل موقفكم المتفرج على تركيا وهي تغذي الإرهاب في سوريا موقف مسؤول”؟ وقد تداولت العديد من الصحف التركية تقاريرًا ذكرت أن دحلان أجرى اتصالات مع زعيم تنظيم غولن، فتح الله غولن، ونقل أموالاً للانقلابيين قبل أيام قليلة من المحاولة الانقلابية، وذلك عن طريق رجل أعمال فلسطيني يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما كشفت عنه مصادر مقربة من الاستخبارات التركية لموقع Middle East Eye.
ظهر دحلان من وراء الكواليس بعدما نبذته حركة فتح، ووجهت إليه أصابع الاتهام في تورطه في اغتيال ياسر عرفات، ثم تلقفته الإمارات وضمدت جراحه، ودفعت به إلى الواجهة، ولم يخف دحلان منذ ذلك الوقت موقفه المعادي للثورات العربية والإسلام السياسي والنظام السياسي في تركيا، وقد جاءت مواقفه متناغمة مع السياسة الإماراتية في المنطقة، وفي حوار له في وكالة عمون الأردنية، قال دحلان: “أردوغان بياع كلام، بيفكر نفسه عمر بن الخطاب، بينما غيره من العرب كالسيسي والإمارات والأردن قدموا لغزة ما لم يقدمه أحد”.
حرب إعلامية: عربية بحروف كاذبة وأخبار السماء من وحي ماردوخ
لم تكن الإمارات العربية راضية عن التعاطي الإعلامي لبعض القنوات مع ثورات “الربيع العربي”، وخاصة قناة الجزيرة التي تبنت رؤية داعمة للثورات العربية منذ بدايتها، ولذلك سعت الإمارات للثأر من قناة الجزيرة من خلال وقف بث الشبكة في العديد من الدول الخليجية، وهو ما يمكن أن يفسر أيضًا شروط المصالحة التي تداولتها العديد من وسائل الإعلام الإماراتية، والتي تضمنت وقف بث قناة الجزيرة في قطر، مقابل العمل على خلق أبواق إعلامية تعمل على التسويق للسياسات الإماراتية في المنطقة العربية، من بينها قناة سكاي نيوز العربية وقناة العربية.
إذا كان الدور الإماراتي في أزمة الخليج قد تخفى تحت عباءة الملك سلمان، فإن السعودية في الحقيقة تبقى الدولة الوحيدة التي يمكنها التصدي للنفوذ الإماراتي في الخليج العربي
وقد لعبت هاتان القناتان دورًا رئيسيًا في الترويج للسياسات الإماراتية في المنطقة، من خلال تداول أخبار زائفة وتوجيه الرأي العام، وهو ما حدث خلال المحاولة الانقلابية في تركيا عندما بثت سكاي نيوز العربية خبرًا يفيد بأن أردوغان طلب اللجوء إلى ألمانيا بهدف التأثير على المعطيات الميدانية وإضعاف الشارع التركي، وخلال أزمة الخليج العربي كانت هاتان القناتان أول من بادر بنقل التصريحات المفبركة لأمير قطر، وعرضت تقارير واستضافت شخصيات عديدة خلال ساعات قليلة من بث التصريحات المفبركة على وكالة الأنباء القطرية.
وعمومًا، فإذا كان الدور الإماراتي في أزمة الخليج قد تخفى تحت عباءة الملك سلمان، فإن السعودية في الحقيقة تبقى الدولة الوحيدة التي يمكنها التصدي للنفوذ الإماراتي في الخليج العربي.
عبد الفتاح السيسي
من الآن فصاعدًا، فإن كل أزمة جديدة تختلقها الإمارات في أي بقعة عربية، ستدعمها مصر، فالنظام المصري في الحقيقة صناعة إماراتية، يتغذى على الدعم الاقتصادي من قادة الدولة الخليجية، وتحديدًا الجبهة المعادية للإسلام السياسي، ويستمد شرعيته من الدعم الدبلوماسي لقادة الدول التي ساهمت في وصول السيسي للسلطة، ومن المستبعد أن تلعب مصر أي دور قيادي في المنطقة طالما تربطها علاقة تبعية مع الإمارات ودول أخرى، التي يدين لها النظام العسكري ببقائه.
أما البحرين، فإن موقفها من الأزمة الخليجية لم يكن له أي تأثير كبير عليها، سوى إضافة رقم آخر لمحور القطيعة، كما هو الحال بالنسبة للمالديف وموريتانيا، بينما فضلت هذه الأخيرة الصدام مع الموقف الشعبي بعدما رضخت للضغوط السعودية.
الدين ورقة سياسية تحت عباءة ملوك آل سعود
نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تقريرًا تحدثت فيه عن الجهود الدبلوماسية التي بذلتها المملكة السعودية من أجل انتزاع موقف داعم لمحور المقاطعة في مواجهة قطر، وفي هذا السياق تحدثت “لوموند” عن أسلوبين استخدمهما سفراء السعودية للضغط على هذه الدول من خلال التهديد بوقف مساعدة مالية متواضعة من خارج المشاريع الممولة من الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبتوجيه تهديدات بالكاد مبطنة بتعقيد عملية الحصول على تأشيرات لموسم الحج.
ومن المؤكد أن الدين ورقة دبلوماسية مطروحة دائمًا بين الأوراق التي يمكن أن توظفها المملكة السعودية باعتبارها قبلة للمسلمين، وهي ليست المرة الأولى التي تطرح فيها السعودية ورقة الدين في صراع دبلوماسي، فقد سبق أن منعت الإيرانيين من الحجّ بسبب التوتر الشديد في العلاقات بينها وبين إيران، وإذا كانت هذه السياسة قد نجحت في إقناع بعض الدول مثل جزر المالديف وموريتانيا بالاصطفاف وراء محور المقاطعة، فإنها فشلت فشلاً ذريعًا في استقطاب العديد من الدول الأخرى في إفريقيا، وخاصة نيجيريا.
أما داخل المملكة السعودية، فإن علاقة آل سعود برجال الدين كانت كافية لحشد بعض المواقف إلى صف محور المقاطعة، أبرزها موقف مفتي الديار السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل شيخ، الذي قال إن القرارات التي اتخذتها المملكة ضد قطر إثر اتهامها بدعم الإرهاب “فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم”، وأضاف المفتي في حوار مع جريدة “الحياة” السعودية، نُشر الأحد: “المملكة العربية السعودية بلد إسلامي مستقيم، ولها عمل كبير في خدمة الإسلام وتضمد جراح المسلمين وتعينهم في أي مكان، يمدون العون ويساعدون للخير في كل مكان، وهي بلاد آمنة ومطمئنة، ولم ولا تتدخل في شؤون أحد، وإنما تسير على الطريق الحق والمستقيم، وهي بلد إسلامي صحيح، ولم يرَ أحد منها سوءًا، كونها بلدًا يحب الخير للجميع كما تحبه لهم، وهي بلد يمول كل خير”.
وما يتضح لنا من خلال هذه الفتوى السياسية لمفتي الديار السعودية، مدى تجذر العلاقة بين رجال الدين وملوك آل سعود بما يتماشى مع الخيارات السياسية للمملكة، بغض النظر عما إذا كانت مبنية على عقيدة دينية صحيحة أم لا.
شيوخ آخرون في المملكة السعودية ومصر دخلوا على الصفيح الساخن للأزمة مع قطر، إما رضوخًا للضغوط التي سلطتها عليهم دولهم أو بإرادتهم الذاتية، فقد تداولت بعض وسائل الإعلام العربية تقاريرًا تتحدث عن دعاء عبد الرحمن السديس، إمام الحرم المكي على قطر في صلاة التراويح بصفة مبطنة، بينما نسب موقع أخبار السعودية اليوم تصريحًا للسديس حذر فيه من التعامل مع “الفئة الضالة والجهات الإرهابية المصنفة وفقًا لما نص عليه البيان المشترك بين السعودية وبعض الدول العربية”.
أكثر الشخصيات الدينية توظيفًا في الأزمة الحالية هو إمام مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي وسيم يوسف، الذي نشر تغريدات عديدة على حسابه على تويتر هاجم فيها قطر، ومن بين التغريدات نشر إعلانًا لحلقة برنامج تليفزيوني على قناة أبو ظبي يحمل عنوان “رحيق الإيمان”، وكان عنوان تلك الحلقة “لحى غسلت بأموال قطر”
ومن بين التناقضات الغريبة، أن وزير الخارجية الأمريكي ريكس تلريسون دعا لتخفيف الحصار عن قطر في شهر رمضان، وعلّق عمرو خالد أيضًا على الأزمة الخليجية بتغريدة نشرها على حسابه الرسمي على تويتر، قال فيها: “وأنا أساند كل قرارات بلدي مصر تجاه كل من يمس أمنها سواء من حكومة قطر أو غيرها”.
لعل من أكثر الشخصيات الدينية توظيفًا في الأزمة الحالية هو إمام مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي وسيم يوسف، الذي نشر تغريدات عديدة على حسابه على تويتر هاجم فيها قطر، ومن بين التغريدات نشر إعلانًا لحلقة برنامج تليفزيوني على قناة أبو ظبي يحمل عنوان “رحيق الإيمان”، وكان عنوان تلك الحلقة “لحى غسلت بأموال قطر”.
وفي 9 من أبريل/نيسان نشر موقع “أسرار عربية” وثيقة سرية مسربة من مكتب وزير الداخلية الإماراتي الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، كشفت أن جهاز أمن الدولة الإماراتي أخضع اثنين من كبار المسؤولين في الإمارات للتحقيق من أجل معرفة من سرّب بعض المعلومات السرية، حيث تم استجواب العميد سعيد راكان مدير عام الجنسية في دولة الإمارات عن كيفية تسرب معلومات عن وسيم يوسف، ومن بينها صورة عن جواز سفره.
وسيم يوسف شاب أردني حصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة من جامعة البلقاء التطبيقية، لكنه لم يتتلمذ على أي من العلماء المسلمين المعروفين، وبحسب الوثيقة الرسمية التي حصل عليها الموقع فقد اتصل ضابط من جهاز أمن الدولة الإماراتي يوم الخامس من تشرين ثاني/نوفمبر 2014 بالعميد سعيد راكان يطلب منه إصدار جواز سفر بصورة عاجلة لشخصية مهمة.
لقد استنفد محور القطيعة كل أوراقه الإعلامية والدبلوماسية والدينية والثقافية، ولم يبق أمامه سوى ورقة واحدة كانت ستكلفه وتكلف المنطقة بأسرها ثمنًا باهظًا لو لوّح أحد أطراف الأزمة باستعمالها، ولم يكن أي طرف ليجرؤ بطرح خيار التدخل العسكري من بين دول الخليج سوى المملكة السعودية، لأن هذا التدخل لا يمكن قراءته لو حدث، سوى باعتباره “احتلال سعودي لقطر”، وهي قراءة محتملة ليس فقط من طرف قطر نفسها، ولكن أيضًا من طرف حلفائها في المنطقة وخارجها، مما يعني أن هذا الصراع سيأخذ حتمًا شكل التحالفات الدولية، وهي الرسالة التي أرادت تركيا تبليغها للمملكة السعودية، التي ليس من المستبعد أبدًا أنها طرحت كل الخيارات أمامها في أثناء الأزمة الخليجية، بما في ذلك التدخل العسكري، ثم صرفت النظر عنه، فكل ما حدث كان مقدمات بديهية لتدخل عسكري محتمل.
ولا أعتقد أن النظام السعودي غبي إلى درجة أنه لم يفهم الرسالة التي أرادت أن تبعث بها تركيا أولاً عندما بادرت بإنشاء جسر جوي مع قطر بعد قطع المنافذ البرية أمام السلع القادمة من السعودية، وثانيًا بعد مصادقة البرلمان التركي على التسريع في عملية إنشاء القاعدة العسكرية التركية على الأراضي القطرية، وقد عملت تركيا على تثبيت موقفها الداعم من قطر دون اختلاق أزمة دبلوماسية مع المملكة السعودية، لأن تخاذلها في دعم قطر يعني رضوخ حليفها في المنطقة لضغوط المحور المعادي لتركيا الذي تقوده الإمارات المتحدة في الخليج، كما أن موقفًا أكثر حدّة كان سيؤدي إلى أزمة دبلوماسية ليست في مصلحة السعودية أو تركيا.
لا شيء ثابت في الشرق الأوسط
لم يعد هناك شيئًا ثابتًا في منطقة الشرق الأوسط، فالتحالفات التي تدوم لعقود هناك يمكن أن تنهار في يوم واحد، والمصالح المشتركة يمكن أن تتحول إلى صدام عنيف يعصف بالمنطقة كلها، والصداقات كما العداوات ليست خالدة، ويمكن أن تنهار بعد فنجان قهوة مع قليل من السكر ورقصة شرقية بالسيوف مع ترامب.
إن كل الثوابت في منطقة الشرق الأوسط مبنية على أساس هشّ، بداية بالعلاقات الاستراتيجية ووصولاً للتحالفات الإقليمية، فكل الأنظمة السياسية في المنطقة تدرك جيدًا أن العاصفة قادمة، وكل ما يمكنهم فعله هو تأخيرها قدر المستطاع، لتجد ما يكفي من الوقت لاختبار تحالفاتها القائمة، والمراهنة على تحالفات جديدة يمكن التعويل عليها في الأوقات الصعبة، أو الدفع نحو التسليح الشامل بوتيرة جنونية قد تجعل المنطقة بأكملها في نهاية الأمر حقل ألغام، لن ينجو منه حتى الذين يدعون أنهم يحفظون مكان الألغام جيدًا.
ثوابت الشرق الأوسط كلها تتجه نحو الانهيار، وخلال هذه المرحلة ستتخذ الحروب شكلاً جديدًا من أشكال العنف والعنف المضاد، طالما ما زالت المنطقة تدار بالتعليمات والأوامر القادمة من وراء البحار، وطالما لم تتخل هذه الدول عن ثوابتها القديمة التي قامت على أسس هشة من الولاءات والصداقات المبنية على منطق “الثأر والدَين التاريخيين”.
الشرق الأوسط لم يعد اسمًا لمنطقة جغرافية تتميز بالتوترات والحروب، بل تحول ليصبح مفهومًا جغراسياسيًا يمكن إسقاطه على كل منطقة تتميز بنفس التركيبة الهشة والمعقدة من العلاقات والتحالفات، ولذلك فإن الحرب القادمة ستشهد ظهور أقطاب جديدة، تتغذى على الصراعات الطائفية، في الخليج العربي.
هذه الصراعات كانت تطبخ على نار هادئة منذ عقود، حتى مغادرة أوباما للسلطة، وما زالت الولايات المتحدة تنفخ في النار حتى صارت الطبخة جاهزة مع وصول ترامب، وفي الحقيقة، إن كل الأنظمة تصبح عمياء عندما تشعر بالتهديد، ولن يكون من المستحيل إقناعها بمحاربة الإسلام بحجة الدفاع عنه، أو احتلال دولة أخرى من أجل الدفاع عنها، لذلك كل ما تحتاجه هو إعطاؤها سببًا إضافيًا للشعور بالخوف، ثم تظاهر بأنك مستعد للتضحية من أجلها، وستجدها تتوسل إليك لمساعدتها على مواجهة هذا التهديد.
شعوب المنطقة هي الخاسر الوحيد في كل أزمة جديدة تتضافر فيها عوامل الخيانة والغباء والضعف، وما زالت أغلب دول الخليج العربي تعامل شعوبها بمنطق الراعي والرعية، تضع كلابًا يسهرون على حراستها وتعاقبها بمنع الطعام والشراب عنها إذا خالفت أوامرها
إن الشيء الوحيد الثابت في الشرق الأوسط اليوم هو المؤامرات والخيانات، وما يحدث اليوم هو جزء من خطة كبرى بدأت بفرض حصار على قطر، ثم تنفيذ “هجوم استخباراتي” على مقرات سيادية في إيران، ولن تنته قبل أن تدخل المنطقة كلها في فوضى عارمة، بسبب المواجهة القادمة بين السعودية وإيران، وليس من المستبعد أيضًا أن تؤدي الثوابت الفاسدة لحكام المنطقة إلى صدام داخلي، كما حدث في سوريا أو اليمن، وستكون السعودية ضحيته الأولى.
إن شعوب المنطقة هي الخاسر الوحيد في كل أزمة جديدة تتضافر فيها عوامل الخيانة والغباء والضعف، وما زالت أغلب دول الخليج العربي تعامل شعوبها بمنطق الراعي والرعية، تضع كلابًا يسهرون على حراستها وتعاقبها بمنع الطعام والشراب عنها إذا خالفت أوامرها، ولم يعرف تاريخ أغلب دول الخليج أنظمة ديمقراطية، باستثناء بعض الدول التي قررت الخروج عن القطيع، فكل دول العالم تضمن لشعوبها حرية التنقل لمواطنيها دون أن يؤثر ذلك على سلامتهم، وإذا كان هناك أي مكان يشكل تهديدًا على سلامتهم في الخارج، فإنها تكتفي بتحذيرهم أو قطع الرحلات الجوية مع تلك الوجهة، أما أن تفرض دولة ما على شعبها مغادرة دولة أخرى بالقوة، وعدم التوجه إليها، فإنما يدل على نظرة دونية للأنظمة السياسية في دول الخليج تجاه شعوبها.
لقد سقطت أقنعة وعمائم وقبعات كثيرة خلال الأيام الماضية، واكتشفنا بشاعة الوجوه التي تختبئ خلفها، إنه أمر مخجل حقًا أن تسقط كل هذه الأقنعة والعمائم والقبعات دفعة واحدة، لكن المثير للشفقة أنهم يعيدون في كل مرة التقاط هذه الأقنعة وارتدائها من جديد ليلعبوا نفس الأدوار.