ترجمة وتحرير: نون بوست
إن السرد الذي تعمل وسائل الإعلام والطبقة السياسية الأمريكية على تشكيله بناء على ما يتم تحليله ومناقشته بشأن الوضع في غزة يختلف تمامًا عما يتم مناقشته في وسائل الإعلام الإسرائيلية وبين القادة السياسيين الإسرائيليين. هذه الفجوة الناشئة من العنصرية العرضية والسذاجة المتعمدة والانحياز الانعكاسي مع الخط الحزبي لحكومة الولايات المتحدة، نتج عنها فشلٌ إعلامي لم نشهد مثله منذ الفترة التي سبقت حرب العراق.
تنخرط إسرائيل في عمليات تهجير قسري للسكان في محاولة لإخلاء غزة من سكانها، وكل ما تفعله يجب أن يُفهم من خلال هذه العدسة. قالت الحكومة الإسرائيلية ذلك صراحة منذ البداية بدءًا بإصدار أمر إخلاء شمال غزة في 13 تشرين الأول/ أكتوبر – ولا توجد استثناءات. كل ما فعلته إسرائيل منذ ذلك الحين هو تنفيذ لأمر الإخلاء ودفع أكثر من مليون شخص من شمال غزة نحو مخيمات اللاجئين في جنوبًا. هذا ما توعّدوا بفعله، وهذا ما يفعلونه.
مع ذلك، استمرت وسائل الإعلام الأميركية طيلة شهر تشرين الثاني/ نوفمبر في تصوير كل تحرك تقوم به قوات الدفاع الإسرائيلية في شمال غزة وكأن كل هدف تحاول تطهيره كان جزءًا من عملية “مطاردة” متقنة لحماس. أبرز مثال على ذلك الفترة التي استغرقت أسابيع قبل “مداهمة” إسرائيل لمستشفى الشفاء في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر. وفي الأيام التي سبقت الاستيلاء على المجمع الطبي، أعطت الصحافة الأمريكية مرارًا وتكرارًا انطباعًا لمستهلكي وسائل الإعلام بأن القوات الإسرائيلية كانت تقتحم مجمع بن لادن في أبوت آباد، باكستان. ونشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مقطع فيديو يظهر مخبأً متقنًا أسفل مجمع المستشفى، وقد تناقلت وسائل الإعلام الأمريكية هذا الادعاء إلى حد كبير.
Hamas-ISIS is sick.
They turn hospitals into headquarters for their terror.
We just released intelligence proving it.
Here it is: pic.twitter.com/F82OxaIPN6
— Benjamin Netanyahu – בנימין נתניהו (@netanyahu) October 27, 2023
“مطاردة إسرائيل لحماس تضع مستشفى الشفاء في غزة تحت الحصار”، هذا ما جاء في عنوان صحيفة واشنطن بوست. وورد في عنوان صحيفة نيويورك تايمز: “مستشفيات مدينة غزة عالقة في مرمى النيران المميتة. القوات الإسرائيلية، التي تقاتل حماس، تضيّق الخناق على المستشفيات حيث تقطعت السبل بآلاف الأشخاص”.
تركت وسائل الإعلام لدى القراء والمشاهدين الأمريكيين انطباعًا بأن الجيش الإسرائيلي كان عليه الاستيلاء على المستشفى – حيث مات ثمانية رُضّع في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة إلى جانب عشرات المرضى الآخرين – لأن هذا المجمع الموجود تحت الأرض كان “القلب النابض لحماس”. ثم استولت إسرائيل على المبنى وزعمت أنها عثرت على بعض الأسلحة، ونفق واحد، وعدد قليل من الغرف تحت الأرض مع سريرين معدنيين، وحمام – لكن لا شيء يشبه “مركز القيادة والسيطرة” المتطور المزعوم.
نشر الجيش الإسرائيلي مقاطع فيديو لعدد قليل من الرهائن أثناء إحضارهم إلى مستشفى الشفاء في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولكن قد يكون ذلك من أجل الرعاية الطبية فقط (الرهائن القتلى ليس لهم فائدة كبيرة). ولم تقدم السلطات الإسرائيلية أي دليل آخر يثبت أن المجمع الموجود تحت الأرض هو مركز قيادة. وفي تحليل صحيفة نيويورك تايمز قبل قيام إسرائيل بتفجير البئر المعني مباشرة، خلصت الصحيفة إلى أن مقاطع الفيديو التي قدمها الجيش الإسرائيلي “لم تظهر دليلًا قاطعًا على وجود شبكة واسعة من الأنفاق”.
تلقى الجمهور الأمريكي، الذي تعرض عليه أيضًا ادعاءات غامضة من قبل إدارة بايدن، سردًا مثيرًا بعنوان “30 دقيقة بعد منتصف الليل” يشير ضمنًا – وفي بعض الأحيان صراحةً – إلى أن إسرائيل كانت تداهم المقر الرئيسي لحماس الموجود أسفل وداخل مستشفى الشفاء. ولكن عندما دخلت القوات الإسرائيلية، لم يكن هناك مقاتلون من حماس، كما اعترفت إسرائيل فيما بعد. دخلت قوات الكوماندوز الإسرائيلية المبنى وسيطرت على منشأة للرعاية الصحية. فهل كانت الغارة حقًا “مطاردة لحماس” كما تروّج له واشنطن بوست؟ هل وقع المستشفى في مرمى “تبادل إطلاق النار المميت” كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز؟ مما لا شك فيه أن مقاتلي حماس هاجموا القافلة العسكرية الإسرائيلية أثناء توجهها إلى المستشفى، لكن جميع التقارير التي أشارت بشكل كبير إلى حدوث إطلاق نار من داخل المستشفى كانت غير صحيحة.
إن النظر إلى الهجمات الإسرائيلية من خلال عدسة “مكافحة الإرهاب” يجعل القرارات العسكرية الإسرائيلية تبدو محيّرة. لماذا تهاجم إسرائيل مستشفى إذا لم تكن تعتقد أنه مركز قيادة لحماس؟ لقد قصف الجيش الإسرائيلي وهاجم عددًا من المستشفيات، معظمها لم يكلف نفسه عناء الادعاء بأنها قواعد عسكرية لحماس وذلك لأن إطار “مطاردة حماس” – الذي تتبناه وسائل الإعلام الأمريكية باستمرار ـ خاطئ.
أما إذا فهمت هدف إسرائيل المتمثل في إجبار السكان على مغادرة غزة تكون حينها هذه الإجراءات منطقية تمامًا. لقد احتاجت إسرائيل إلى استخدام القوة العسكرية لإخراج الجميع من المستشفى لأن المستشفيات، بحكم طبيعتها، من آخر الأماكن التي سيتم إخلاء الناس منها. وكانت إسرائيل قد أصدرت أمر إخلاء في 13 تشرين الأول/ أكتوبر لجميع سكان شمال غزة – بما في ذلك المرضى الضعفاء – وتوجّه جنوبًا. وحسب ما ورد، اتصل المسؤولون الإسرائيليون بمستشفى الشفاء عشرات المرات مطالبين بإخلاء المستشفى.
بالنسبة للعاملين في المنشأة الطبية، كان هذا يعني الموت المحقق للعشرات من مرضاهم الذين كانوا بحاجة إلى رعاية طبية مستمرة ولن يتمكنوا من القيام برحلة لمسافة 30 ميلًا إلى جنوب غزة سيرًا على الأقدام عبر منطقة حرب بلا ماء أو وسائل نقل. لكن إسرائيل لم تهتم ولا تهتم فهي تقوم بعمليات نقل قسري للسكان، وهذا يشمل الجميع. إنها أبسط طريقة لتفسير تصرفات إسرائيل، ومع ذلك فإن وسائل الإعلام الأمريكية – المرتبطة بروايات “مكافحة الإرهاب” – لا تستطيع أو بالأحرى لا تريد أن تركز اهتمامها على الحقيقة الواضحة المتمثلة في أن إسرائيل تحاول إخلاء غزة من سكانها على مراحل.
من الغريب أن تصدر إسرائيل أمر الإخلاء، وتنفذ أمر الإخلاء هذا حرفيًا، بينما لا تزال معظم وسائل الإعلام الأمريكية تصور أفعالها على أنها “مطاردة لحماس”. من وجهة النظر الإسرائيلية، لا يوجد أي تمييز. ونحن نعرف ذلك لأن المسؤولين الإسرائيليين قالوا ذلك مرارًا وتكرارًا. وبصرف النظر عن الأمثلة العديدة لخطاب الإبادة الجماعية، التي وثقت صحيفة نيويورك تايمز الكثير منها، هناك حقيقة مفادها أن إخلاء غزة من سكانها على مراحل هو الخطة الأكثر شعبية بين القادة الإسرائيليين.
ووفقًا لتقرير صادر عن “المونيتور” في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، فإن الخيار الذي “يحظى بأكبر قدر من الدعم بين صناع القرار الإسرائيليين هو أن تسيطر مصر على المقاطعة مقابل الإعفاء الكامل من ديونها الخارجية الضخمة… وتشمل المقترحات إعادة بناء غزة في جنوب موقعها الحالي – بدلاً من إعادة بناء مناطق الدمار التي خلفتها القنابل الإسرائيلية – ونقل بعض سكانها إلى دول عربية أو دول أخرى وترك الباقي في غزة المعاد بناؤها”.
أوضحت خطة مماثلة عرضتها وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية جيلا جمليئيل في مقالة افتتاحية نشرتها صحيفة “جيروزاليم بوست” في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر، أن النتيجة المفضلة للحكومة هي التطهير العرقي. وكان الخيار الوحيد الذي اقترحته “تشجيع إعادة التوطين الطوعي للفلسطينيين في غزة، لأسباب إنسانية، خارج القطاع”.
قال عضو مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي ووزير الزراعة آفي ديختر على شاشة التلفزيون الإسرائيلي في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر: “نحن الآن نواصل نكبة غزة. نكبة غزة 2023. وهكذا ستنتهي”. وكما أشار جيت هير في صحيفة “ذا نيشن” يوم الإثنين، فإن “نتنياهو يدرس الآن اقتراحًا لتقليص عدد سكان غزة وتوزيع السكان الباقين على قيد الحياة على البلدان المجاورة – وهو الاقتراح الذي يطرحه على قادة كلا الحزبين في الكونغرس”.
“لكن مصر والدول العربية الأخرى لن تسمح بذلك” وهي عبارة شائعة عند طرح هذه الخطط، ولكن ما إذا كانت هذه الخطط قابلة للتنفيذ أم لا، فهي ذات أهمية ثانوية. ما يهم هو النية، ومن الواضح أن إسرائيل تنوي تمهيد الطريق لإخلاء السكان، حتى لو ظلت التفاصيل النهائية حول مكان وكيفية “إعادة توطين” الفلسطينيين قضية مفتوحة.
ووفقًا لمجلة الإيكونوميست، فإن شمال غزة سيكون “غير صالح للسكن لسنوات”، وخطة إسرائيل الحالية هي أن تفعل بمعظم جنوب غزة ما فعلته بشمال غزة. هذا من شأنه أن يجعل الجزء الأكبر من غزة غير صالح للحياة البشرية بشكل أو بآخر. ونشرت صحيفة وول ستريت جورنال تفاصيل عن خطط مماثلة لتجميع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في مخيمات بالقرب من الحدود المصرية. وذكرت الصحيفة في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر أن “بعض المسؤولين العسكريين الإسرائيليين يعترفون بأنه سيكون من المستحيل حشد مليوني شخص من سكان غزة في المواصي، وهو بحجم مطار لوس أنجلوس الدولي تقريبًا”، لكن هذه، مرة أخرى، عقبة لوجستية، وليست أخلاقية أو سياسية.
أضف إلى ذلك أن استهداف البنية التحتية المدنية بشكل متعمد هو جزء من استراتيجية الحرب الإسرائيلية، وليس من الواضح ما الذي تعنيه عبارة “مطاردة حماس” أو “الحرب على حماس” في الواقع. وفقًا لتقرير حديث لـ “+972” (وهي مجلة يديرها صحفيون إسرائيليون وفلسطينيون) فإن إسرائيل تقصف ما يسمى بـ “أهداف الطاقة”، التي تُعرف بأنها “المباني العامة والبنية التحتية والمباني الشاهقة”، وهي أفعال “تهدف في الأساس إلى الإضرار بالمجتمع المدني الفلسطيني” و”إحداث صدمة”.
استهدفت إسرائيل ودمرت المحاكم والجامعات والقاعات التشريعية وعددا لا يحصى من المباني الحكومية الأخرى. لقد دمرت البساتين والأراضي الزراعية والدفيئات الزراعية، وهدمت تمثال ياسر عرفات – عدو حماس القديم – في الضفة الغربية حيث لا تملك حماس أي سيطرة أو قوة.
فهل يبدو أي من هذا “مطاردةً لحماس”؟
هل يبدو هذا الرسم البياني الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست والذي يعرض تفاصيل وفيات الأطفال منذ الشهر الأول من الحرب وكأنه “مطاردة لحماس”؟
A must-read visual investigation by my colleagues:
Gaza reports more than 11,100 killed. That’s one out of every 200 people. https://t.co/Go7ILRKVEr
— Ishaan Tharoor (@ishaantharoor) November 13, 2023
هل يبدو هذا المستوى من الدمار “مطاردةً لحماس”؟
"military analysts say the destruction of northern Gaza in less than seven weeks has approached that caused by the years-long carpet-bombing of German cities during the second world war" https://t.co/jrE1nRWmzV pic.twitter.com/kzUulJB36B
— Tom Gara (@tomgara) December 6, 2023
هل تبدو هذه الصورة لشاطئ غزة قبل الحرب وبعدها بمثابة “مطاردة لحماس”؟
هذا هو السبب وراء تقديم وسائل الإعلام لدينا على نحو متزايد تأطيرا مربكًا لما في حديث في غزة، على غرار عنوان رويترز واسع الانتشار والذي يعتبر عنوانًا ساخرًا يوم الإثنين “إسرائيل تأمر سكان غزة بالفرار، وتقصف حيثما ترسلهم”، لأنه مع تزايد حدة حملة التهجير السكاني يصبح من الصعب التوفيق بين إنكار ما يحدث – ودمجه في إطار مطاردة الإرهابيين – مع الحقائق على أرض الواقع.
هذا مثلا حوار دار يوم الإثنين بين جيك تابر من شبكة سي إن إن ومارك ريجيف، أحد كبار مستشاري نتنياهو. ويبدو تابر، الذي لا يعتبر بأي حال من الأحوال منتقدًا قاسيًا لإسرائيل، مرتبكا حقًا من المنطق العسكري الإسرائيلي، بعد أن قُتل تسعة من أفراد من عائلة أحد منتجي شبكة سي إن إن في القصف الإسرائيلي:
Israeli Spokesman: "The IDF has done everything possible to safeguard innocent civilians"
Jake Tapper: "It's hard to believe that, especially when one of our producers lost 9 family members"
But lets be clear here: All 16000 civilians killed were members of someone's family. pic.twitter.com/517Dzd4Hwk
— Rami Jarrah (@RamiJarrah) December 5, 2023
“أين من المفترض أن يذهبوا؟”، الجواب واضح إلى أي مكان غير غزة، حيث سيكون من المفيد لوسائل الإعلام الأمريكية أن تبدأ في استخدام هذا الإطار. تقوم إسرائيل بتهجير 2.2 مليون من سكان غزة قسرًا، كليًا أو جزئيًا، إما إلى مخيمات صغيرة، أو إلى بلدان أخرى، أو إلى كليهما. وليس هناك سوى القليل من الأدلة على وجود أي حملة لملاحقة المسؤولين عن أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر بأي طريقة محدودة أو مستهدفة.
والحقيقة أن حماس، وفقًا لصحيفة واشنطن بوست، لا تزال “سليمة إلى حد كبير” بعد مقتل 15 ألف فلسطيني. ولدينا الكثير من الأدلة، التي تتزايد يومًا بعد يوم، على اتباع سياسة العقاب الجماعي والذنب الجماعي. يجب على أولئك الذين يتخذون القرار في وسائل الإعلام الأمريكية أن يبدأوا تحديث تأطيرهم لهذا الصراع وفقًا لذلك خاصة أن المسؤولين الإسرائيليين لمي يتظاهروا بخلاف ذلك.
المصدر: ذا نيشن