رغم أنها ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال البنية التحتية بغزة، إلا أن حجم الدمار خلال الأسابيع الماضية هو أكبر خراب يطال القطاع في تاريخ دورات التدمير، وفي الحقيقة يعدّ الاستهداف المتعمَّد للبنية التحتية بغزة مبدأ ثابتًا في استراتيجيات الاحتلال، ونمطًا تاريخيًّا ورسميًّا من العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
من المعروف أن البنية التحتية هي العمود الفقري لإعادة بناء الحياة وتوفير سبل العيش لأي مجتمع، وبالتالي بمجرد تدميرها لن يكون لدى الناس الخدمات اللازمة للبقاء، ولذا كانت البنية التحتية بحدّ ذاتها من أوائل الأهداف العسكرية التي تعرضت للهجوم الممنهَج خلال كل الحروب الإسرائيلية على غزة.
والواقع أن غزة حاولت خلال فترات متقطعة إعادة بناء بنيتها التحتية، والتي طالما كانت في وضع متدهور، لكن أحبط الاحتلال جهود إعادة الإعمار وصمّم على عدم السماح بدخول المواد اللازمة لصيانة وإعادة بناء ما قام بتخريبه، ما أثّر بشكل رئيسي على تراجُع التنمية بغزة، وتعطيل الأنشطة الاقتصادية المحلية، كما اضطرت العديد من المصانع والشركات إلى إغلاق أبوابها، وعمل الكثير بأقل من طاقته، واستغرقت غزة بعد كل حرب خاضتها ضد “إسرائيل” سنوات طويلة من التعافي البطيء والذي يتناقص مع كل حرب.
لقد ركزت سياسة الاحتلال منذ عام 1967 على جعل غزة معتمدة عليه بشكل دائم، وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد تابع لتل أبيب، مع إضعاف مستمر لقدرة الاقتصاد المحلي على النمو والتوسُّع، من خلال منعه من الوصول وإنشاء البنية التحتية اللازمة، ثم التدمير المخطَّط والممنهَج لما استطاعت غزة أن تقوم ببنائه، ما أدّى إلى إدامة دورة الفقر وإلحاق ضرر كبير بقدرة المجتمع على دعم نفسه.
ثمّة 5 إستراتيجيات أساسية وراء حروب الاحتلال ضد البنية التحتية بغزة:
- تقويض جهود المقاومة ومنعها من خلق سلطة مدنية.
- معاقبة المدنيين الذين يُنظر إليهم كمتعاطفين مع المقاومة.
- عرقلة عجلة الاقتصاد وتضييق الخناق من خلال ضرب متطلبات العيش الضرورية والحرمان من حرية الحركة والتواصل.
- استنزاف غزة وضمان عدم قدرتها على دعم نفسها دون مساعدة خارجية.
- خلق حالة من الفوضى.
أرض محروقة: نكبة غزة
ما اختلف في الموجة الجديدة من حروب البنية التحتية، تصميم الاحتلال على خلق البيئة الملائمة للتهجير القسري عن طريق الإبادة الجماعية، أو من خلال التدمير الشامل للبنية التحتية على أمل أن يؤدي ذلك إلى طرد السكان.
ففي جميع أنحاء غزة، أحياء سكنية كاملة سُوّيت بالأرض، ومرافق المياه والكهرباء والطاقة وشبكات الاتصالات كانت أول ما تعرّض للهجوم، بجانب تدمير الشبكات المصرفية والبريدية، والشركات والمجمعات الصناعية، والقطاعات الطبية والمدنية، والإنتاج الغذائي والمزارع والماشية، ومباني الخدمات العامة والحدائق والموانئ.
ويلاحَظ أن الخراب الأكبر وقع على الأحياء والتجمعات السكنية والمباني التجارية، ووسائل النقل والطرق الرئيسية، والمؤسسات التعليمية والدينية، والتي ما زال يتم استهدافها بشكل متزايد، ما جعل العديد من الأماكن غير صالحة للحياة بسبب تدمير أساسيات البقاء.
إن السحق الشامل للبنية التحتية بغزة لا يعطّل فقط حياة الناس اليومية، من خلال تقويض إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية ومصادر كسب العيش، بل يهدف الاحتلال بشكل رئيسي إلى تفريغ المناطق من ساكنيها.
لكن مع ذلك يدرك الاحتلال أن مخطط التهجير يواجه عدة عقبات، لذا في حالة تعديل تكتيكاته، فإنه يريد إذلال أهل غزة وإلحاق أضرار نفسية وجسدية بهم ودفعهم إلى اليأس، فإن لم ينجح في طردهم من أرضهم، فسيجعل غزة غير قادرة مستقبلًا على الحفاظ على أي شكل من أشكال الحياة الطبيعية، وتعاني لعقود قادمة من إعادة بناء متطلبات البقاء الأساسية التي دمّرها.
ويذهب فريق الأورومتوسطي إلى أنه حتى لو انتهت الحرب اليوم، فسيستغرق الأمر عقودًا قبل أن تعود غزة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، والذي كان بالأساس وضعًا سيّئًا.
وبالتالي تدمير البنية التحتية هو في الحقيقة أول أهداف هذه الحرب، وليس مجرد أثر جانبي للقصف المتكرر الذي يشنّه الاحتلال، وهو حقيقة النهج نفسه الذي طبّقته روسيا في الشيشان، واستنزف وأرهق الشيشانيين من كل جانب، وكذلك نفس نهج نظام الأسد في سوريا، والذي استخدم البنية التحتية كأداة حرب رئيسية، وكانت في الحقيقة القشة التي قصمت ظهر السوريين في ثورتهم.
جبل الأنقاض: ما الذي تمّ تدميره حتى الآن؟
رغم أن الحجم الكلي للدمار لم يتضح بعد، إذ ما زال الاحتلال يواصل شنّ الضربات على ما تبقى من البنية التحتية، لكن لا شك أن الأرقام الجديدة اليوم تشكل تحديًّا كبيرًا لخطط إعادة بناء غزة، وفيما يلي أهم المرافق التي دمّرها الاحتلال حتى الآن:
تظل الحصة الأكبر من التدمير في غزة هي قطاع الإسكان، وبحسب مركز الدراسات العليا بجامعتَي نيويورك وأوريغون، وباستخدام تحليل بيانات الأقمار الصناعية، فقد تعرض ما يقرب من 900 ألف مبنى في مختلف أنحاء غزة للتدمير والأضرار الجسيمة، كما يقول مسؤولون في غزة إن أكثر من 60% من الأبنية السكنية قد سُوّيت بالأرض.
وبالفعل هناك قرى ومدن تمّت إبادتها بالكامل حتى لم يعد بالإمكان تعرُّفها، حتى الأحياء التجارية والتي لا تنتمي إلى حماس أو يسكنها أحد قيادتها، مثل حي تل الهوا والرمال، والأخير كان حيًّا مزهرًا تسكنه الطبقة المتوسطة، وهو من أوائل الأحياء التي سوّتها القوات الجوية الإسرائيلية بالأرض.
وخلال الأيام الأولى من الحرب، جرى استهداف معظم قطاعات البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إذ كانت الهجمات على شبكة الاتصالات الأرضية والإنترنت ومحطات توليد وإمدادات الطاقة والمحطات الفرعية من الأهداف الأولى للاحتلال.
كما دمّر الاحتلال المولدات الكهربائية وقصف محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، والتي توفر 30% من الكهرباء، وحاليًّا توقفت عن العمل بعد التدمير ونفاد الوقود، كذلك دمّر الاحتلال مشاريع الطاقة الكهربائية البديلة في جميع أنحاء غزة.
أيضًا هوجمت شبكات الصرف الصحي ومحطات معالجة المياه، وكذلك محطات ضخّ وخطوط إمدادات المياه، للحدّ من وصول المدنيين إلى المياه العامة، وإيصال الهجوم على البنية التحتية للمياه إلى أعلى مستوى من الضرر مقارنة بأي نوع من البنية التحتية الأخرى، فحتى خزّانات المياه والآبار تمّ استهدافها، فعلى سبيل المثال في بيت لاهيا تم قصف خزانات المياه، وفي جباليا قُصفت الآبار الرئيسية.
بجانب إحراق الريف وتجريف أشجار الزيتون، وتدمير البساتين والدفيئات الزراعية، كما أفواج كاملة من مزارع الثروة الحيوانية تم تدميرها، ما أدّى إلى تآكُل التربة وتشرُّد المزارعين، وقد لا تتمكن غزة من العودة إلى مستوى إنتاجها الزراعي قبل الحرب، وحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإجمالي الخسائر الزراعية حتى أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني وصل إلى 180 مليون دولار.
كذلك استهدف الجيش الإسرائيلي الأسواق بشكل مباشر وخلال ساعات الذروة، وعندما تكون مأهولة بالسكان الذين يتطلعون إلى الحصول على الضروريات الأساسية، بجانب تدمير غالبية المباني الإدارية والإدارات المحلية الرسمية والشركات ومخازن المصانع، بل حتى المخابز تم استهدافها عدة مرات.
استمرارًا لسيناريو تدمير البنية التحتية والمقار الحكومية.. قوات الاحتلال تفجر مبنى محكمة العدل العليا وسط قطاع غزة pic.twitter.com/WOQ6naV3uI
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) December 4, 2023
جميع قطاعات الاقتصاد والصناعة في حالة يرثى لها، فحتى الآن تمّ تدمير 1040 منشأة صناعية بالكامل، و140 مقرًّا صحفيًّا ومكتبًا إعلاميًّا، وأدت الأربع أسابيع الأولى من الحرب إلى تدمير نحو 390 ألف وظيفة، وفقد 170 ألف عامل وظائفهم بشكل كامل، وفي الواقع غالبية العمالة في غزة تعطلت، باستثناء العاملين في قطاعات الصحة والإغاثة والإعلام.
اختفت البنية التحتية من المصانع إلى الطرق الزراعية إلى المياه والصرف الصحي، ودُمّرت المعدّات الأساسية التي تستخدمها المستشفيات والجامعات والمدارس والمصانع، كما أدّى نقص الوقود والكهرباء إلى تدمير الخدمات العامة، وتراكمت مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة في الشوارع، وعانى السكان من الجفاف واستنشاق الغبار وسوء التغذية والتلوث الجوّي الهائل والعيش بين الحطام.
وزاد الحصار من انتشار الجوع وتفشّي الأمراض والأوبئة، والتي باتت أمرًا لا مفر منه عندما يكون الماء والهواء والتربة ملوثة بالإشعاع والمواد السامة، وهذا سيؤدي إلى مخاطر جسيمة على البيئة والصحة العامة، وقد ظهرت بالفعل العديد من الالتهابات الجلدية والأمراض المعدية القاتلة، وفي الواقع أصبح الدمار جزءًا من المشهد الطبيعي، يتحرك الناس حوله مرارًا وتكرارًا.
مع ذلك إن أكبر جروح غزة هو استهداف المستشفيات والمرافق الطبية المليئة بالجرحى والنازحين والأيتام، بحسب التوثيق الميداني الذي قام به فريق الأورومتوسطي، فقد تمّ تدمير ما لا يقل عن 124 منشأة طبية منذ بداية الحرب (22 مستشفى، و55 عيادة، و46 سيارة إسعاف)، ما أدّى إلى تعطيل النظام الصحي بشكل كبير، بجانب نفاد الإمدادات الطبية من المستشفيات، ويقول الأطباء إنهم يجرون عمليات جراحية دون تخدير، بسبب الحصار الذي خلّف نقصًا حادًّا في الأدوية والمياه والغذاء والوقود.
لقد انهار نظام الرعاية الصحية في غزة بعد ما يزيد على شهرَين من القصف والحصار، وأصبحت مناطق شمال غزة دون خدمات صحية، وفي الأسبوع الماضي وحده حاصر الجيش الإسرائيلي عدة مستشفيات وقصفها، ما أسفر عن مقتل وجرح عدد من العاملين في مجال الرعاية الصحية والمرضى والنازحين الذين كانوا يحتمون في أروقة المستشفيات.
وحتى الآن، أدى استهدف مرافق الرعاية الصحية إلى استشهاد 206 من العاملين في مجال الرعاية الصحية، وإصابة 222، كما خرجت 22 مستشفى عن الخدمة من أصل 36 بغزة، وما زالت الخسائر في قطاع الرعاية الصحية في تصاعُد.
وبالاتجاه نحو المؤسسات التعليمية، يصبح المشهد أكثر فظاعة، فحجم الضرر الذي لحق بالأبنية المدرسية بلغ حتى الآن 88% من إجمالي المدارس بغزة، ومن المستحيل العثور على أي مدرسة أو جامعة نجت دون أضرار، ولا شكّ أن هذه خسارة مؤلمة.
إذ إن الاحتلال لم يتسبّب فقط في غلق مؤسسات التعليم أثناء الحرب، وخسارة الطلاب شهورًا من التعليم، بل إن طلاب غزة البالغ عددهم 625 ألفًا لن يتمكنوا من الوصول إلى التعليم، وسيعانون من نقص المهارات والمعرفة، وبدلًا من الذهاب إلى الدراسة يعاني الأطفال من الصدمة والدمار والتشريد، ويقضون أيامهم في البحث عن المياه والوقود والغذاء.
لقد دمّر الاحتلال بشكل كامل 60% من البنية التحتية في غزة حتى أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، و70% من السكان محرومون من الحصول على مياه صالحة للشرب، وفي كثير من الأحيان يقف الناس في طوابير طويلة حاملين الزجاجات البلاستيكية ينتظرون الماء لساعات.
وإذا استمرت الحرب في أشهر الشتاء الباردة، فهذا يعني أن معاناة أهل غزة ستزداد، فغالبيتهم يعيشون في أماكن تفتقر إلى أبسط شروط الحماية والحياة الإنسانية، ودون الحصول على المولدات الكهربائية والمعاطف الشتوية وإمدادات المياه النظيفة، أو خدمات صحية لعلاج الأمراض.
إن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه والكهرباء في غزة سوف تكلّف المليارات لإصلاحها، وحتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني كانت التوقعات تشير إلى أن تكاليف إصلاح البنية التحتية بغزة ستكلف 50 مليار دولار.
جروح غير مرئية
رغم أن حجم الدمار السابق ذكره معبّر بما فيه الكفاية، ومع ذلك وراء كل بيت هُدم وبنية تحية خُرّبت، قصص لأشخاص يعيشون بأنفسهم الكارثة، فقدوا منازلهم وتحولت مدنهم وقراهم الجريحة إلى أنقاض خلال أسابيع معدودة.
إن تدمير البنية التحتية لا يقتصر على مجرد دمار المباني والمرافق، بل يرتبط بمآسي الناس الذاتية، والصدمات النفسية العميقة غير المرئية والتي يمكن أن تستمر لأجيال، فهذه المساكن والمدن والشوارع مساحات متعددة الوظائف، ولذا فإن استهدافها يعدّ في الواقع إهانة لهذا المجتمع، واستهداف إحساس الناس بالكرامة والانتماء.
لقد جعل الاحتلال أهل غزة يعيشون في حالة خراب وفي ظروف لا تطاق، فتحت وطأة الموت والمجازر طردهم من منازلهم بالقنابل مع عدم وجود مكان يذهبون إليه، وأبقى على قطع المياه والغذاء والوقود والدواء وهاجم طرق الإخلاء بشكل متكرر، فاضطر الناس بشكل مأساوي إلى البحث عن مأوى في المستشفيات والمدارس، واعتمدوا على الخيام والعربات الكارو والمياه المالحة، وبعضهم ذهب إلى أنقاض منازلهم التي طالها التدمير.
جلب الاحتلال كل أشكال المعاناة إلى حياة المجتمع الفلسطيني بغزة، حرمهم كل شيء، وفرّق عائلاتهم وعمّق جراحهم، لم يصب أجسادهم وأرواحهم فقط، لكن أيضًا أجساد وأرواح المدن والبلدات والقرى التي كانوا يعيشون فيها، الأمر الذي سيشكّل عواقب وتحديات هائلة لإعادة بناء المستقبل، وبعد أن تنتهي هذه الحرب سنكتشف حجم الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والبيئية، ربما تُشيّد منازل جديدة بعد أن تعود الحياة إلى غزة، لكن سيظل ركام الأنقاض وندوب الاحتلال محفورة في ذاكرة وقلوب أهلها إلى الأبد.