تُشكل الأفلام الوثائقية ذاكرة بصرية لا يمكن الاستغناء عنها، فهي تُسجل الواقع وتحفظ أرشيف الشعوب وترصد المتغيرات الحياتية بأشكالها كافة، تزداد الحاجة لها في الحروب والأزمات والتي تنعكس على العديد من المخرجين بسبب تأثرهم بالكثير من الأحداث التي تدور حولهم أو تلك القضايا التي تعنيهم بشكل شخصي، وفي مقالته “السينما التسجيلية وجماليات الواقع” يقول الناقد السينمائي الأردني عدنان مدانات “الاهتمام بالتوثيق بالفن يتزايد في أوقات الانعطاف التاريخي الكبرى وفي حالات الأزمات التي تؤثر في العالم”.
خلال العمل على فيلمي الوثائقي “ما زلنا معا”، عام 2007، عن الفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل وزوجها الفنان التشكيلي الراحل إسماعيل شموط، قدمت تمام درسًا مهمًا عن كيفية التوثيق بالفن للقضية الفلسطينية قائلةً “… غير مستعدة أن ألهو باللون وأجعله مكملاً للجماليات تحت شعار المعاصرة والحداثة على حساب قضيتنا، يعيبون علينا في بعض الأوقات أننا تسجيليون، فأقول: نعم، أنا أُسجل قضية”، في فيديو أرشيفي عُرض في الفيلم يقول شموط: “لم يكن بالنسبة لنا الفن مجرد رفاهية ولم يكن فقط لتجميل الحياة وهو هدف أجلّه وأُقدّره، لكن عندما يحين الوقت المناسب لكي أعمل من أجل تجميل الحياة أقوم بذلك”.
ما زلنا معًا
ومع يجري في بلادنا العربية من حروب وثورات فمن الطبيعي أن ينشغل المخرج الوثائقي الملتزم بقضايا شعبه في محاولات توثيق ما يجري في وطنه، ساعيًا وراء الحقيقة لإيصال صوت الناس وللتأثير في المُشاهد (المتلقي) وحتى تظل أفلامه محفورة في ذاكرة التاريخ شاهدة على ما حصل.
استغرق العمل على الفيلم أكثر من ثلاث سنوات، ويحكي عن رجال الدفاع المدني السوري أو “رجال الخُوذ البيضاء” كما يُعرفون، وتحديدًا قصة الشهيد خالد الحرح ورفاقه
ولهذا كان فيلم “آخر الرجال في حلب”، إنتاج عام 2017 للمخرج السوري فراس فياض، يُسجل حضوره بقوة في العديد من المهرجانات والمحافل الدولية لما فيه من توثيق يتجاوز حدود تناول القصة بشكل عام عما يجري في سوريا إلى توثيق خاص لأبطال فيلمه، فيحكي من خلالهم عن الحياة والموت وصمودهم بوجه طغيان النظام وآلة الحرب.
استغرق العمل على الفيلم أكثر من ثلاث سنوات، ويحكي عن رجال الدفاع المدني السوري أو “رجال الخُوذ البيضاء” كما يُعرفون، وتحديدًا قصة الشهيد خالد الحرح ورفاقه، والذي يظهر أيضًا في فيديو شهير انتشر له وهو ينقذ طفلاً رضيعًا ظل تحت الأنقاض لمدة 16 ساعة، وشاهدنا نفس الفيديو في فيلم “الخُوذ البيضاء” الفائز بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي هذا العام 2017، وهو من إنتاج “Netflix” وإخراج أورلاندو فون إينسيدل.
تريلر فيلم “آخر الرجال في حلب”
يُميز فيلم “آخر الرجال” بالإضافة إلى زاوية تناوله وقوة قصته ولغته السينمائية وعدم وجود أي مقابلات مباشرة مع أبطال الفيلم، إنجازه بفضل شجاعة فريق العمل، كما يوضح المخرج، خصوصًا من المصورين الذين خاطروا بحياتهم، مما ترك أثرًا كبيرًا على الفيلم وعلى ما أُبدع فيه، وكان استمرارًا لهمّ المخرج الدائم وسعيه لأن يوظف ذاكرته ومعايشته للواقع ليقول ما يجب قوله عن قضية شعبه، ويبدو ذلك جليًا من خلال أفلامه ذات المواضيع الإنسانية عن سوريا.
سبق للمخرج فراس فياض أن جرب قساوة الاعتقال في سجون النظام السوري ومنها اعتقاله مرة بسبب فيلمه “على الضفة الأخرى” والذي اعتبر إساءة إلى النظام، بسبب المقولة التي وردت على لسان الشخصية الرئيسية فيه “الشاعر لا يقبل أن يكون مع الظلم ولا يقبل استبدال ديكتاتورية بأخرى”
يقول المخرج السوفييتي أندريه تاركوفسكي في كتابه النحت في الزمن: “تحقيق الفيلم، مثل أي إبداع فني آخر، ينبغي أن يكون في المقام الأول خاضعًا لحاجات باطنية ملحة، وليس لمتطلبات خارجية يفرضها الانضباط والعملية الإنتاجية، هذه المتطلبات يمكن أن تدمر إيقاع العمل إذا زادت عن الحد، يمكن تحريك الجبال حين يعمل الأفراد معًا لتحقيق فكرة الفيلم كلٌ بشخصيته الخاصة، بمزاجه وحساسيته وعمره وتاريخه وتجربة حياته التي تختلف عن الآخر، وحين يتحدون كعائلة واحدة ويتوهجون بعاطفة واحدة”.
سبق للمخرج فراس فياض أن جرب قساوة الاعتقال في سجون النظام السوري ومنها اعتقاله مرة بسبب فيلمه “على الضفة الأخرى” والذي اعتبر إساءة إلى النظام، بسبب المقولة التي وردت على لسان الشخصية الرئيسية فيه “الشاعر لا يقبل أن يكون مع الظلم ولا يقبل استبدال ديكتاتورية بأخرى”، كما ذاق قهر الحرب في بلاده، وعاش مرارة اللجوء وقدم عنها فيلمه “الهروب إلى أوروبا” والذي يرصد رحلة طفلين سوريين للوصول إلى أوروبا، وعرضته البي بي سي في أبريل 2016.
تريلر فيلم ” على الضفة الأخرى”
يُشبه واقع فراس ما تعرض له المخرج الكمبودي ريثي بان وقدمه في فيلمه الوثائقي “الصورة المفقودة” والذي رُشح لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 2014، وحاز على جائزة “نظرة ما” في مهرجان كان عام 2013، حيث حاول البحث عن تفاصيل ذاكرته وما عاشه خلال فترة حكم الخمير الحمر في بلاده والمجازر التي ارتكبوها بحق المدنيين، وحينما تم سؤاله خلال عرض فيلمه في الدوحة عام 2016، عما إذا شُفيت روحه بسبب محاولاته السينمائية، كان جوابه: “السينما لا يمكنها شفاء أي شيء، يمكنها فقط أن تُساعدك على الاستمرار في الحياة”.
تريلر فيلم “الصورة المفقودة”
إنها الحياة التي ينتشلها رجال الخُوذ البيضاء من وسط الدمار والحرب، فنراهم في “آخر الرجال في حلب” يحفرون عميقًا في المباني المهدمة بفعل القصف لانتشال أي أثر للحياة تحت الركام، “الحياة الأكثر غرابة من القصة” هكذا يقول الكاتب الروسي دوستويفسكي، تشاهدها بأُم عينك في هذا الفيلم، فلم يتردد المخرج في أن ينقل لنا غرابة الحياة المتمثلة في أبطال قصته أنفسهم، العالقين على أطراف الموت، فيأخذنا معهم إلى قعر الأنقاض وبين أشلاء الجثث، وإن حاول قدر الإمكان إخفاء صورها التي قد تبدو قاسية، إلاّ أنه جعلنا نحسّ بها وكأنه يحاول سحبنا إلى ذلك الواقع الذي يعيشه أبطاله.
وبنفس الوقت نُشاهد محمود أحد رجال الدفاع المدني وهو وسط الأنقاض إثر غارة للنظام على المدنيين يقول لصاحبه بأن عليه أن يغادر في الساعة الفلانية من أجل حضور زفاف أحد أصدقائه ثم يسخر من الأقدار قائلاً: “عالم غريب.. ناس بتموت وناس بتتزوج”.
الغوص في نفوس أبطال الفيلم يتجلى في رصد لحظات الصمت والتفكير والخوف والترقب وصولاً إلى الأغنية التي ألّفها خالد وهو يجلس مع أصحابه عن طبيعة عملهم وانتشالهم للجثث، أغنية تبدو ساخرة بين رغبة في الحياة والخوف من الموت
يتنقل بنا مخرج الفيلم ببراعة بين المشاعر والأحاسيس راصدًا الكثير من التفاصيل العفوية، بل حتى تلك المتناقضات التي تختلج في النفس ومنها عند حديث أبطاله عن الهرب إلى تركيا ثم رفضهم للفكرة وإصرارهم على البقاء في حلب، فيقول خالد لصديقه “هذه مدينتي”، على الرغم من أننا شاهدنا كيف فشلت محاولاته لإقناع أحد الأشخاص بمساعدته على إخراجه وعائلته من المدينة.
الغوص في نفوس أبطال الفيلم يتجلى في رصد لحظات الصمت والتفكير والخوف والترقب وصولاً إلى الأغنية التي ألّفها خالد وهو يجلس مع أصحابه عن طبيعة عملهم وانتشالهم للجثث، أغنية تبدو ساخرة بين رغبة في الحياة وخوف من الموت.
لم تغب جمالية الصورة عن الفيلم، وإن كان يبدو قاسيًا أن نقول بأن في الأمر جمالاً ونحن نشاهد واقعًا مُرًا، إذ كانت حاضرة على الدوام حتى عندما كانت رهنًا باللحظة نفسها، ولم تغب تفاصيل المكان، فنُشاهد المدينة ويرسم لنا المخرج علاقتها بناسها، ويسجل كل ما يمكن من صور حياة رجال الخوذ البيضاء، وكان مستعدًا لكل طارئ، فنرى كيف يُنتزع الفرح من زحمة الموت، وكيف يلعب خالد ورفاقه في الحديقة عندما يصطحبون أطفالهم للعب هناك، قبل أن يتوقف كل شيء فجأة، حينما تحلق طائرة حربية في الأجواء، فيضطرون إلى مغادرة المكان خوفًا من القصف.
فيديو لخالد حرح ينتشل أحد الأطفال من وسط الركام
كان الفرح البادي في وجه خالد وهو يلعب كطفل صغير تسكنه البراءة لقطة لا تُنسى، تأخذنا حينما تغيب إلى مدى فظاعة الجريمة بحق شعب سرقت منه السعادة، وكانت هذه اللحظة التي تم التقاطها أكثر صدقًا بل وبراعة فيما لو أعيد تمثيلها في فيلم روائي ومهما وُظفت لها من قدرات تمثيلية وفنية.
يقول الناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم في مقابلة صحفية معه بعنوان “الأمل معلق بالسينما المستقلة”: “السينما الوثائقية إن أحسن صنّاعها العمل على تحقيقها بالاحترافية والمهارة المناسبة، يمكن أن تأخذنا إلى مستوى إبداعي لا ينفك عن المستوى الواقعي، ويعيد إنتاجه محملًا بوجهة نظر ذات علاقة بالراهن، الذي ننتظر قولًا سينمائيًا بصدده”.
“نحب الحياة” هي أصل الحكاية، وهو ما قد نشاهده في أفلام كثيرة، ومنها على سبيل المثال: وُلد في غزة للمخرج الإسباني هرنان زين حيث نسمع حكاية غزة والعدوان “الإسرائيلي” عليها عام 2104 بلسان الأطفال
يكتب فراس عن فيلمه على صفحته “عندما كنّا نوثق كنّا نوثق لأننا نريد أن نعلن الجريمة، كان هدفنا فضح الجريمة، طريقة حكاية الجريمة وإبعاد الفريم وجماليته وشاعرية طبقة الصوت بالنسبة لنا كانت ابتذالاً بالمطلق، نحب الشعر ولسنا شعراءً، نحب الحياة وهذا ما يهم وهذا ما كنا نحاول الحفر عنه في أعماق من نراهم ومن نصوره”.
“نحب الحياة” هي أصل الحكاية، وهو ما قد نشاهده في أفلام كثيرة، ومنها على سبيل المثال: وُلد في غزة للمخرج الإسباني هرنان زين حيث نسمع حكاية غزة والعدوان “الإسرائيلي” عليها عام 2104 بلسان الأطفال، في مزيج من الألم والأمل مع سحر بصري لم يغفل تفاصيل التقاط اللحظة وكأن غزة كلها تحكي عن ناسها وحصارها والحرب عليها.
تريلر فيلم “وُلد في غزة”
يكمن التحدي في الأفلام الوثائقية في أيهم يقدرعلى أن يهُزنا ويوقظ فينا المشاعر، ويظل أثره عميقًا، وحياة شخصياته حاضرة في المتفرج مهما طال الزمن، فلا معنى للفيلم الذي ينتزع منا كل مشاعرنا خلال مشاهدته، ثم ينتهي الأمر فلا يعنينا ما حصل مع أولئك الذين شاهدناهم باعتبار أننا قد منحناهم ما يمكن من أحاسيسنا في لقطات ومشاهد توقفت فينا زمانًا ومكانًا.
يترك “آخر الرجال في حلب” جُرحًا نازفًا مستمرًا منذ بدأت ثوراتنا، ولكن ما أصبح عاديًا وأقرب إلى ملهاة تراجيدية وكأن أخبار الحرب والدمار في سوريا صارت مألوفة للمتفرجين يلغيه فيلم وثائقي يقول لنا “ليست الأمور كما تبدو عليه في نشرات الأخبار” ويأخذنا إلى ما هو أكثر من تفاصيل الموت والمجزرة، إلى تلك الحرب المستعرة في نفوس أصحابها والتي يعيشونها وحدهم فنراها حية على الشاشة، وإن كانت حكايتهم مرهونة بمدة العرض، وصورها متجمدة داخل إطار كادر الشاشة، لكنها تترك أثرًا بالغًا في النفس.
“آخر الرجال في حلب” مثال واضح على ألق الوثائقي الذي يُسقطه منتجون ومخرجون ونقاد من حساباتهم، باعتبار الغلبة دومًا للروائي لأنه يحظى بانتشار أكبر وبالتالي أرباح أكثر
فكرة الفيلم بدأت عام 2013، وتم العمل عليه بتمويل ذاتي وبمجهودات شخصية، وبعد أن تم تصوير ما يقارب الـ80% بدأ التمويل بدفعات صغيرة إلى أن تم الانتهاء منه مع بداية عام 2017، ليُعرض في العديد من المهرجانات الدولية ويحقق الكثير من الجوائز أبرزها في مهرجاني سندانس في أمريكا وكوبنهاجن في الدنمارك، وقد علقت لجنة تحكيم مهرجان سندانس على الفيلم “بلا أدنى شك إنه فيلم استثنائي، رفعنا وحلّق بنا ثم أسقطنا في المكان، عمل متكامل من الفن والقوة والإنجاز السينمائي، ورواية مقنعة عن أبطال يكشفون في ظل ظروف مستحيلة تزداد استحالتها يوميًا عن المزيد من الرحمة والإنسانية والشجاعة غير الاعتيادية…”.
“آخر الرجال في حلب” مثال واضح على ألق الوثائقي الذي يُسقطه منتجون ومخرجون ونقاد من حساباتهم، باعتبار الغلبة دومًا للروائي لأنه يحظى بانتشار أكبر وبالتالي أرباح أكثر.