ها قد هلت علينا العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم وتكاد تودعنا، ولم يبق من شهر البركة غير أيام معدودات، وبدأ الناس يستعدون لليلة القدر، ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، هذه الليلة العظيمة التي نزل فيها القرآن الكريم والتي أخبر عنها المولى بأنها “خير من ألف شهر”.
ليلة القدر ارتبطت في تونس بليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، لذلك يختصها التونسيون بالجمع بين العادة والعبادة، وهذه العادات ذات البعد الديني هي في حد ذاتها موروث حضاري وثقافي تناقلته الأجيال جيلًا عن جيل.
“القسيمة” من التراث التونسي بذبح شاه يوم 26 رمضان وتوزيعها بين عدد من العوائل
يوم السادس والعشرون من شهر رمضان يتجمع الرجال في الأحياء الشعبية ويذبحون شاه تقسم بينهم مقابل مبلغ رمزي وتعرف هذه العادة بالقسيمة، ونجد هذه العادة تغلب على الناس في الضواحي والأرياف أي خارج مواطن العمران.
ومن العادات المتوارثة في المجتمع التونسي طبخ أكلة الكسكي ليلة السابع والعشرين، وقبل حلول أذان المغرب يتبادل الجيران والأقارب أطباق الكسكسي مزينًا بما لذ وطاب، وذلك في دعوة إلى التسامح والتحابب فيما بينهم.
كما يقوم البعض الآخر بشراء ما يساوي عشاء صائم في تلك الليلة ويتصدق به إلى العائلات الفقيرة والمعوزة، وفي ليلة السابع والعشرين تقوم بعض العائلات بختان أولادهم، فيلبسونهم الجبة التقليدية التونسية والشاشية وتضفي عليها طابع الحناء والحرقوس جمالًا يعكس براءة “المطهر”.
ختان الأطفال في ليلة القدر من العادات التونسية
ومن العادات الحميدة والجميلة التي يتناقلها المجتمع التونسي أن تتكفل إما الجمعيات الخيرية أو العائلات الغنية بمهمة ختان أطفال العائلات المعوزة والمحتاجة ويقام لهم حفل ختان جماعي، وفيه كل مظاهر البهجة والفرحة وترتفع الزغاريد وحتى الأناشيد الدينية فرحًا بالمطهر الذي لا ينقصه شيئًا، فشأنه شأن أبناء العائلات التي يكون باستطاعتها ختان أولادها.
ومن العادات الجميلة أيضًا أن تقام الاحتفالات الدينية في مسجد الزيتونة بالعاصمة ويهل الناس من كل حدب وصوب حيث ترتفع أجمل التلاوات والأدعية والأذكار ويكرّم حافظو وحافظات القرآن الكريم ويشارك ساسة البلاد في ذلك.
جامع عقبة بن نافع في مدينة القيروان
وتشهد مدينة القيروان عاصمة الأغالبة ورابعة الثلاثة، وفود العديد من الزوار من كل جهات البلاد ليحتفلوا بليلة القدر في جامع عقبة بن نافع، الذي بني سنة 670 ميلاديًا – 50 هجريًا، ويرتفع عدد الزوار في ليلة القدر ليصل إلى الآلاف، حيث بلغ عدد الزوار في مدينة القيروان قرابة خمسين ألفًا السنة الماضية.
على مدى السنين حافظ التونسيون على هذه العادات القيمة والنبيلة ذات البعد الديني وتناقلت بين الأجيال.
عادات اجتماعية غريبة متوارثة
ولكن ثمة بعض الظواهر والعادات الغريبة والتي يتوارثها الناس في بعض الجهات والتي ترتبط خاصة بالمعتقد والتفسير الخاطئ لسورة القدر وليلة القدر.
فمثلًا في إحدى جهات البلاد من الجنوب الغربي، منطقة القوسه التابعة لمدينة السند من جهة قفصة، يطلقون على ليلة القدر أو ليلة السابع والعشرين عيد الموتى، فيقومون بطبخ أكلة الكسكسي بما جهز وحضر ويركزون كثيرًا على أهمية توفر اللحوم الحمراء وذلك لأن الأكلة سيقدم جزء منها صدقة لأرواح من رحلوا عن الدنيا ولو كانوا من الأقارب أو الجيران.
طبق الكسكسي التونسي الشهير
وحين يجهز الكسكسي تقوم السيدات بأخذ حفنة تلو حفنة ويضعنها باسم فلان، وبطبيعة الحال لا ينسين وضع قطعة لحم لكل حفنة وفي أثناء ذلك يتجهز الصغار ليزوروا البيوت في تجمع، ويحملون معهم أكياسًا صغيرة لوضع اللحم، فيأكلون ثم يحملون معهم ما بقي.
في بعض مناطق الشمال يعتقد البعض أن الأموات هم من ينزلون في ليلة القدر ويزورون بيوتهم وعائلاتهم حتى مطلع الفجر، ويحرص البعض على وضع صحن في ركن من أركان الدار ليؤكل منه.