نشرت كتائب القسام، يوم 7 ديسمبر/ كانون الأول 2023، مقطع فيديو ميدانيًّا لعملياتها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، تحدث أحد المقاتلين فيه بلهجة غزاوية واضحة بعد أن دمّر دبابة إسرائيلية، قائلًا: “لعيونك أبو حسين فرحات”.
ينتشر هذا المقطع انتشار النار في الهشيم عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع العبرية، التي سلطت الضوء على الكتيبة التي يترأسها فرحات نجل مريم فرحات التي أُطلق عليها وصف “خنساء فلسطين”، بعد أن عُرفت بتوديعها لأبنائها قبيل خروجهم للجهاد ومشاركتهم بعمليات المقاومة.
ما سبق أعاد حي الشجاعية إلى دائرة الضوء، وهو أبرز الأحياء في المدينة وأقدمها تاريخيًّا، وله دور بارز في معظم المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي، على صعيد العمليات المتقدمة أو تشكيله خط دفاع عن الفلسطينيين.
ولسنوات طويلة شكّل الحي عقدة بالنسبة إلى الجيش الاحتلال الإسرائيلي، نظرًا إلى الثمن الباهظ الذي كان يدفعه في كل جولة من جولات المواجهة، سواء على صعيد القتلى أو صعيد الإصابات، إلى جانب الدور الذي لعبه الحي وكتيبته التابعة لكتائب القسام في معركة “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تعدّ نسب الإنجاب في حي الشجاعية من بين الأعلى في العالم، حيث يبلغ معدل الأسرة الواحدة ما بين 8 و16 فردًا، ويستقبل الحي نحو 10 آلاف مولود جديد كل عام.
تاريخيًّا.. متى تأسّس الحي؟
يقع حي الشجاعية شرق مدينة غزة، ويعود تاريخ تأسيسه إلى عهد الأيوبيين، وسُمّي نسبة إلى شجاع الكردي الذي استشهد في إحدى المعارك بين الأيوبيين والصليبيين عام 1239مـ، وينقسم إلى قسمَين: حي التركمان في الجنوب نسبة إلى العشائر التركمانية الذين استقروا هناك في عهد السلطان الأيوبي الصالح أيوب بالقرن الـ 13 ميلادي، وحي الأكراد في الشمال والذين استقروا بالمنطقة قادمين بالخصوص من الموصل.
يوجد فيه أكبر سوق للملابس والسلع المنزلية في غزة، ويعرَف بـ”ساحة الشجاعية” ويقام به أسبوعيًّا سوق الجمعة الذي يرتاده غالبًا مربّو الأغنام، بالإضافة إلى سوق البسطات الذي يعتبر من أبرز المعالم الموجودة في المنطقة الغربية من حي الشجاعية.
وفي حي الشجاعية تقع تلة المنطار إلى الشرق من مدينة غزة، وترتفع بنحو 85 مترًا فوق مستوى سطح البحر، من هنا جاءت أهميتها كموقع استراتيجي عسكري وكمفتاح لمدينة غزة، عسكر عليها جنود نابليون بونابرت حيث قتل فيها آلاف من جنود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى أمام تصدي القوات العثمانية، دُفنوا جميعًا في “مقبرة الحرب العالمية الأولى” في غزة.
واللافت للنظر هنا أن تل المنطار حظيَ بهذه المكانة في المدينة، وأصبح موضعًا ومركزًا، فقد أصبحت له ذاتيته المستقلة عن مدينة غزة الفوقية، التي هدم الصليبيون سورها إبّان الحروب الصليبية.
وأصبح تل المنطار علمًا تلتف حوله جميع القبائل العربية، التي عززها القائد صلاح الدين بجنده من قبائل التركمان والأكراد والخوارزميين، وأقطعها الأراضي الواقعة إلى الشرق من غزة، خاصة تلك الواقعة بينها وبين تل المنطار، لتصبح النواة لتأسيس حي الشجاعية بقسمَيه التركمان وجْدَيدة الأكراد (الجديدة)، اللذين سُمّيا بهذين الاسمَين نسبة إلى تلك القبائل الداعمة لصلاح الدين، ولما أصبح لها من مكانة ديموغرافية وهيبة لا يستهان بهما، وكانت هذه القبائل تحتشد جميعًا بفرسانها يوم موسم المنطار في يوم الخميس السابق ليوم عيد الفصح من كل عام.
يقطن حي الشجاعية أكثر من 100 ألف نسمة، وينقسم إلى حي الجديدة وحي التركمان، فيما يعتبر جامع أحمد بن عثمان أو الجامع الكبير -الذي يقع عند مدخل المدينة القديمة- أكبر جوامع الحي، ويضمّ قبر أحد مماليك السلطان برقوق ويُدعى يلخجا.
ويوجد بالحي عدة مساجد تاريخية أخرى، منها مسجد الهواشي ومسجد السيدة رقية ومسجد علي بن مروان، فيما تبعد مقبرة الحرب العالمية الأولى مسافة 2000 متر شمال الشجاعية، وإلى الشرق تقع مقبرة التونسي.
الدور العسكري للشجاعية سابقًا
كان لحي الشجاعية دور كبير أثناء معارك عام 1967، وشهد انطلاق شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 1987 تحول الحي إلى ساحة مواجهات مسلحة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، وأسفرت الاشتباكات آنذاك عن مقتل ضابط إسرائيلي واستشهاد أربعة من أعضاء المقاومة، ويطلق على هذا اليوم اسم “معركة الشجاعية”.
وكان الحي عرضة لسلسلة مجازر ارتكبها جيش الاحتلال، حيث قام بمجزرة ضد الحي يوم 18 فبراير/ شباط 2003، استخدم فيها الدبابات والمروحيات، ما أدّى إلى استشهاد 13 مواطنًا وإصابة العشرات، فيما نفّذ مجزرة أخرى بالشجاعية فجر يوم 11 فبراير/ شباط 2004، خلفت 15 شهيدًا و44 مصابًا من بينهم 20 طفلًا وفتى دون سن الـ 18، وكان الحي هدفًا للغارات الجوية المتكررة في عدوانه على القطاع خلال فترة 2008-2009.
وخلال العدوان على القطاع عام 2014، كان الحي مسرحًا لمجزرة أخرى راح ضحيتها أكثر من 75 شهيدًا ومئات المصابين معظمهم من النساء والأطفال، وذلك بعد قصف عشوائي استهدف منازل بالحي، وتسبّب في انتشار جثث وأشلاء الشهداء بالشوارع وتحت الركام.
وعلى المكانة التاريخية يحظى الحي بمكانة هامة لأنه كان مقرًّا تاريخيًّا لانطلاقة أغلب الفصائل، إذ شهد البدايات الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية، والجبهتَين الشعبية والديمقراطية، وهو المقر الرئيسي للحركات الإسلامية، وفي مقدمتها حركتا المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي.
ومن أبنائه العديد من قادة كتائب القسام، ومن أبرزهم أحمد الجعبري نائب القائد العام للكتائب الذي اُغتيل بقصف إسرائيلي يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، كما ضمّ حي الشجاعية أشخاصًا بارزين على الساحة الفلسطينية، مثل مريم فرحات “خنساء فلسطين”، وشاعر الثورة الفلسطينية معين بسيسو الذي وُلد هناك.
قلق وتحدٍّ.. أخطر الأحياء بالنسبة إلى الإسرائيليين
يعد حي الشجاعية بالنسبة إلى الإسرائيليين من أخطر الأحياء، وهو ما يعبّر عنه المراسل العسكري لموقع “واللا” العبري أمير بوخبوط، الذي قال إنه “أحد أخطر الأحياء في الشرق الأوسط”، بعد أن رأى ما واجهه الجيش الإسرائيلي في الحي من صواريخ وآبار وأنفاق وألغام نصبتها كتائب عز الدين القسام خلال الجولة الحالية من الحرب.
ونقل بوخبوط الذي رافق جنود الاحتلال في الشجاعية، مدى تفاجُؤ جنود الاحتلال لدى دخولهم الحي، إذ قال نائب قائد اللواء 188 بالجيش، المقدم عوديد، للجنود إن المسلحين الفلسطينيين “لم يمتنعوا عن بناء الآبار والأنفاق في كل مكان، لقد عثرنا بالفعل على بعضها في المنطقة، وفي تقديرنا هناك كثير منها هنا”.
واعتبر بوخبوط أن ذلك “يمثل تحديًا للجيش الإسرائيلي”، مقارنًا هذا الوصف بما واجه جيش الاحتلال في معركة “العصف المأكول” صيف عام 2014، عندما قام لواء غولاني بمناورة برية بالشجاعية، بقوله: “يبدو الأمر كما لو أن اللواء دخل ورأسه على الحائط، ودفع ثمنًا باهظًا مقابل ذلك”.
وبالتالي إن المكانة العسكرية والميدانية الخاصة بحي الشجاعية، تكمن في كونه البوابة الشرقية للمدينة والعنوان الذي على الاحتلال أن يواجه مقاتليه في كل حرب ومواجهة مع غزة، في الوقت الذي تركز فيه المقاومة على هذه الجبهة عسكريًّا وعملياتيًّا.
وبالنسبة إلى الاحتلال، فإن الاعتراف بأن هذا الحي هو من أخطر الأحياء يعكس حالة الخوف والقلق التي تصاحب كل عملية عسكرية، لا سيما أن المنظومة العسكرية الإسرائيلية فشلت على مدار عقود في كسره، وبات يشكّل عقدة بالنسبة إلى العسكريين الإسرائيليين.
وبمحاذاة هذا الأمر، فإن البُعد الشعبي للحي تجاه المقاومة يعطيها رمزية خاصة، حولت حي الشجاعية ليصبح علمًا من أعلام القطاع، مثل مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، أو مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، حيث لا تقتصر هذه المناطق على لون سياسي بعينه.