يضع العدوان المتواصل على غزة والضفة الغربية منذ بدء “طوفان الأقصى”، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، البشرية -حقيقة وليس مجازًا- أمام أسئلة كبرى، يقف العالم أمامها مشدوهًا ممّا حصل ويحصل، وكأن يد غزة قد أطاحت بكل الأولويات التي كانت مصفوفة على الطاولة وطرقت بكفيها حاميًا بعد سنوات الحصار المشينة، هذه الأصوات التي انطلقت من منطقة لا تتعدى الـ 360 كيلومترًا وصلت العالم وزعزعت استقرار منظومات فكرية وسرديات مهيمنة بُذلت المليارات لتثبيتها.
لدى متابعة الإعلام الغربي، وحتى بعد أن اجتاز تعداد الشهداء والجرحى عشرات الآلاف، يظل السؤال ذاته يواجهك مرارًا وتكرارًا: “هل تدين حماس؟”، وفي حقيقة الأمر هذا السؤال فيه من الاصطفافات والتعقيدات ما لا يُجاب عليه بنعم أو لا.
وقد حاول العديد من ضيوف الشاشات تجاوزه بسؤال بدا في بداية الأمر خجلًا ثم أصبح صوته أعلى: هل يدين المحتل-المستعمر نفسه؟ وهل يستطيع الغرب أن ينظر إلى “إسرائيل” كونها كيان احتلال واضطهاد؟ هل يستطيع الغرب رؤية “إسرائيل” التي صنعها بالمرآة دون أن يرى كيانًا يشبهه؟
“إسرائيل” ومن خلفها الإعلام الغربي الذي يسوّق دعايتها، اعتمدت مجموعة من السرديات أو القصص المتسلسلة الرئيسية، والتي استندت إليها لتبرير وجودها وترويجه وتنظيفه، فبدلًا من طرح “إسرائيل” كحلّ ظالم لمشكلة أوروبية داخلية على حساب الشعب الفلسطيني، تستند إلى ادّعاء الحق التاريخي في أرض فلسطين، وبدلًا من الحديث عن الشعب الذي تمّ تهجيره وطرده من أرضه، يتم الحديث عن تلك صحراء القاحلة والمستنقعات التي تمّ تجفيفها واستصلاحها والنجاح في خلق شيء من لا شيء.
وأيضًا بدلًا من إظهار المجازر والجرائم التي يندى لها الجبين، والتي تمّت في فترة تأسيس الدولة الصهيونية، يتم التركيز على النسخة الأوروبية من الشرق الأوسط في الحداثة والانفتاح والإقبال على الحريات والتقدم، وهذه هي الأفكار والصور التي تمّ ضخّها بكثافة وبتمويلات هائلة، حتى أصبحت عند الغرب سرديات مهيمنة لا شبهة فيها.
السردية الأولى: “شعب إسرائيل” وجد ضالته في أرض بلا شعب
هذه السردية رغم تهافتها علميًّا وأخلاقيًّا، إلا أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد أعادت تكريسها في خطابها، أثناء زيارتها الأخيرة لدولة الاحتلال لتهنئتها بعيد “استقلالها” الـ 75، حيث وصفت “إسرائيل” بأنها واحة الديمقراطية والنابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط، والتي جعلت الصحراء تزهر!
وأكدت على سردية الأرض “البكر” التي جاء اليهود “المجتهدون” إليها، فجفّفوا مستنقعاتها وزرعوا الصحراء وبنوا ميناء تل أبيب، وقادوا التطور التكنولوجي والعسكري والسياسي في المنطقة.
وقد مثلت هذه السردية قصص النجاح التي أحبَّ الغرب أن يسمعها ويراها، ولو على حساب الجماجم والدماء، فكان رد أصحاب السردية المضادة بعد أحداث السابع من أكتوبر سيلًا من مقاطع الفيديو والصور الأرشيفية والخرائط التاريخية، التي تظهر أن فلسطين احتوت حياة ثقافية وتجارية وفكرية رائدة منذ مئات السنين، وأن ميناء يافا الذي استقبل اللاجئين اليهود الهاربين من ألمانيا سبق ميناء تل أبيب بمئات السنين.
وقد حظيت صورة السفينة المكدَّسة باليهود اللاجئين التي رست في الموانئ الفلسطينية وهي ترفع لافتة “لقد دمّر الألمان عائلاتنا وبيوتنا، فلا تدمّروا أحلامنا”، بتغطية واسعة جدًّا في أواسط النشطاء الأمريكيين.
السردية الثانية: “شعب إسرائيل” يشبه الشعوب الغربية، كونه الديمقراطية الوحيدة في المحيط العربي المتخلف و”بدو” العرب يفتعلون المشاكل
في الحقيقة، ربما تكون هذه السردية هي الأكثر تعقيدًا والأكثر تأثيرًا، فهي تربط دولة الاحتلال بالمجتمعات الغربية أخلاقيًّا من ناحية، واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا من ناحية أخرى، كون الأخلاق في الدول الرأسمالية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقدم المادي الملموس، لا سيما التكنولوجي، وفي هذه السردية إجابة على الكثير من الدعم اللاأخلاقي وغير المحدود الذي نراه منذ بداية العدوان على قطاع غزة.
لقد صرفت الصهيونية ملايين الدولارات لتعزيز فكرة التقاطع مع الغرب أخلاقيًّا وماديًّا، فـ”إسرائيل” مثلًا تلعب كرة القدم مع دوري أبطال أوروبا، وتسعى إلى أن تقود المنطقة في التطور التكنولوجي، خاصة في مجال الصناعات العسكرية والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى ترويج “إسرائيل” كدولة متقدمة في الطب والبحث العلمي، باحتوائها مثلًا على أكبر بنك للجلد في العالم.
أما الفلسطينيون في هذه السردية فهم البدو أو العرب أو الرحّل، متخلفون أو رجعيون يسعون للمشاكل، إرهابيون يهاجمون اليهود فقط لكونهم يهودًا، لذلك من حقّ “إسرائيل” الدفاع عن نفسها، وهنا يتم استخدام عبارات موحّدة في هذه السردية، مثل “حق إسرائيل في الوجود” و”ضرب الإرهابيين” والتهديد بتهمة “معاداة السامية”.
أما السردية المضادة فقد أحلت عبارات تكررها بشكل دائم، مثل “الفصل العنصري” و”سرقة الأراضي” و”التطهير العرقي”، بدلًا من العبارات التي يتبنّاها الغرب بسردياته المهيمنة، وذلك في بيانات وقّع عليها آلاف المثقفين والفنانين في الولايات المتحدة وكندا وغيرهما.
وقد حاول أنصار القضية الفلسطينية في الغرب تسليط الضوء على قضية سرقة أجساد الشهداء الفلسطينيين، وسرقة الأعضاء البشرية، بل حتى جلود من أسرى وشهداء لا تزال جثامينهم محتجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي، حيث شكّلت تلك الجلود المنهوبة أكبر بنك للجلد في العالم، ما أحدث صدمة مدوية لسردية التقدم الطبي والعلمي والحضاري لهذا الكيان.
كما ظهر تأثير السردية المضادة لفكرة أن الفلسطيني مسلم متخلف بموجات البحث عن الإسلام الذي يلهم الفلسطيني كل هذا الرضى وكل هذه الشجاعة، من خلال حملات قراءة القرآن بلغات مختلفة، وأهمها في أمريكا وفرنسا، وتحول العديد من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي إلى الإسلام، وقد بلغت أعداد المسلمين الجدد في فرنسا وحدها 20 ألف مسلم منذ بداية أحداث السابع من أكتوبر بمعدل 400 مسلم جديد كل يوم.
السردية الثالثة: إذا كنت يهوديًّا فلا بدَّ أن تكون صهيونيًّا
ربما لا يتسع المقام هنا للحديث عن ظهور الصهيونية وجذورها وإرهاصاتها، ونكتفي بالإشارة إلى حداثة الفكر الصهيوني الذي سعى إلى خلق كيان لليهود في أي مكان لإنهاء “معاناتهم” داخل أوروبا، وهنا سعت الصهيونية لتثبيت فكرة إحلال نفسها مكان العقيدة اليهودية شيئًا فشيئًا، فأصبح الحديث عن الفكر الصهيوني والترويج له وإن تعارض مع العقيدة اليهودية أولوية، بل تتم مهاجمة اليهود غير المقتنعين بالفكر الصهيوني وغير المروّجين له.
إن هذه السردية المهيمنة لم يكن بالإمكان نفيها إلا بجهود من اليهود المعارضين للفكر الصهيوني في داخل فلسطين وخارجها، فبدأوا بتشكيل سردية مضادة مفادها أنه بإمكانك أن تكون يهوديًّا غير صهيوني، يهوديًّا ضد قيام “دولة إسرائيل” أصلًا.
وقد خرج اليهود في مدينة نيويورك بأكبر الحملات في تاريخهم للاعتراض على الحرب الدموية التي تشَنّ باسمهم، والمطالبة بوقف إطلاق النار بكل الطرق الممكنة تحت شعار “ليس باسمنا”، أي لا تسرقوا أرض الآخرين وتقصفوا الآمنين وتشعلوا الحرب باسم اليهود.
لقد أُشعلت حرب السرديات الكبرى والسرديات المضادة حول الصراع الفلسطيني الصهيوني مجددًا، وخلقت هذه الحرب اصطفافات جليّة بين معسكرات تحاول إبقاء سردياتها مهيمنة، ومعسكرات أخرى تقلب الطاولة على روايات باتت في أذهان المواطن الغربي من المسلَّمات، وهذا ما سنتناوله في المقالة القادمة حول حرب الاصطفافات وعلاقتها بالسرديات.