انطلقت الانتخابات الرئاسية المصرية (تجري خلال فترة 10-12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري) لاختيار الرئيس القادم للبلاد لولاية جديدة تمتد 6 سنوات وحتى عام 2030، في مشهد يعيد الأجواء بشكل كبير إلى ما كانت عليه إبّان عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، من حيث هي “استفتاء” أكثر منه انتخابات.
وتأتي هذه الانتخابات الغائبة تمامًا عن اهتمامات الشارع، والتي لا يوجد أي دليل عليها سوى ملصقات صور الرئيس الحالي عبد الفتاح السياسي على كل جدار ولوحة إعلانية متاحة في جميع أنحاء البلاد، كما وصفت صحيفة “الغارديان” البريطانية، وسط انشغال الجميع بما يحدث في غزة، حيث حرب الإبادة التي تشنّها قوات الاحتلال بحقّ سكان القطاع منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
انتخابات تكاد تكون محسومة النتائج، فكل الأجواء تمّ تعبيدها لإعلان فوز السيسي بالولاية الثالثة له، في ظل منافسة شبه معدومة أمام مرشحين لا يعرف كثير من المصريين حتى أسمائهم، ناهيك عن برامجهم الانتخابية، ومن المقرر إعلان النتائج بشكل رسمي في 18 من الشهر الجاري، إن لم تكن هناك جولة إعادة، وهو أمر مستبعد في ضوء المؤشرات الراهنة.
#الانتخابات_الرياسيه_المصريه
اهل المنوفية ينتخبوا
عبدالفتاح السيسي pic.twitter.com/KG94Hca0kr— ⭐ÀFaF Badawy⭐ (@tahiamasr___99) December 11, 2023
انتخابات شكلية محسومة سلفًا
وصف النائب السابق في البرلمان والمرشح الرئاسي أحمد الطنطاوي، تلك الانتخابات بأنها “شكلية” وأنها “مسرحية” تمّت هندستها من أجل أن يفوز السيسي بها، لافتًا في تصريحات لقناة “الحرة” أن جميع المصريين يعرفون ذلك.
وأضاف الطنطاوي أن السلطة الحاكمة في مصر استبعدته عبر التضييق عليه في جمع التوكيلات المطلوبة للترشح، لأنه كان المرشح الوحيد الجادّ والقادر على منافسة السيسي والفوز عليه في تلك الانتخابات على مستوى النتيجة الحقيقية، على حد قوله.
ويشاركه في هذا الرأي الحقوقي بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات محمد لطفي، الذي يرى أن الانتخابات محسومة قبل انطلاقها، وأنه لا يبدو هناك انتخابات تجرى في الأساس، لافتًا في تصريحاته لـ”الغارديان” أن الشيء الوحيد الذي يمكن لتلك العملية أن تجلبه هو ولاية ثالثة للسيسي.
"وجود اسمي في الانتخابات كان يعني فوزي"… سياسي مصري ينتقد سحب ترشحه من الانتخابات بسبب الضغط على معارضي السيسي#السيسي #مصر #أحمد_الطنطاوي pic.twitter.com/afqY3Hl4rv
— DW عربية (@dw_arabic) December 8, 2023
وأوضح لطفي أن المرشحين المنافسين للسيسي (عبد السند يمامة – حازم عمر – فريد زهران) لا يترشحون من أجل الفوز، في ضوء غيابهم عن المشهد وتواضع حضورهم وثقلهم السياسي، لكن من أجل الحصول على مزايا سياسية في المستقبل، فهم يعلمون ذلك جيدًا والمصريون يعرفون هذا أيضًا.
ويذهب كثير من المراقبين أن خوض 3 منافسين بهذا المستوى والحجم أمام السيسي في تلك الانتخابات، إنما الهدف منه تجميل الصورة العامة، ومحاولة إكمال ضلع الديمقراطية المفتقد في المشهد الانتخابي، وإخراج المشهد بالشكل اللائق كما حدث في المرتَين السابقتَين، حيث استعان السيسي في المرة الأولى بالقيادي الناصري حمدين صباحي، وفي المرة الثانية برئيس حزب الغد موسى مصطفى موسى.
الرشاوى الانتخابية.. العزف على وتر العوز
رغم أن العملية محسومة وفق آراء الخبراء والمحللين والمتابعين للشأن المصري، وما تبرهنه المؤشرات الأولية، إلا أن الماراثون الانتخابي كعادة المشهد المصري لم يخلُ من بعض الثوابت والمرتكزات التقليدية في مثل تلك الاستحقاقات، وعلى رأسها العزف على وتر عوز المواطنين واحتياجاتهم، في ظل فقر مدقع يخيّم على أكثر من نصف الشعب المصري.
وشهدت الأجواء الانتخابية موجات متدفّقة من الرشاوى الانتخابية التي بلغت مستويات غير مسبوقة، إذ كانت في السابق تتأرجح بين 50 و100 جنيه على أقصى تقدير، بجانب بعض السلع التموينية كالزيت والسكّر، لكنها اليوم وبحكم التضخم زادت وتيرتها وقيمتها بشكل ملحوظ.
وتتباين الرشاوى المقدَّمة للتصويت في الانتخابات بين 200 و500 جنيه مصري (6-16 دولارًا) بجانب كيلو سكّر أو زجاجة زيت، كما تناقلت العديد من المقاطع التي نُشرت على منصات التواصل الاجتماعي وبحسب شهود العيان.
“قالوا لي تعالي انتخبي وستحصلين على 300 جنيه وكيس سكّر”.. هكذا قالت إحسان (55 عامًا) تعليقًا على دوافع مشاركتها في الانتخابات، وأضافت في حديثها لـ”نون بوست”: “كانت هناك حافلة تقف على أول الشارع، وأتى إليّ جاري الذي يعمل في حزب، وقال لي إنه سيأخذني ويعود بي خلال ربع ساعة، لأنتخب وآخذ المال والسكّر والزيت، وأخذ مني بطاقة الهوية وذهبت معه”.
"300 جنيه لكل صوت"..
مواطن يوثق توزيع رشاوى على المواطنين لانتخاب السيسي في عين شمس بالقاهرة pic.twitter.com/0uAkHJ9OfK— شبكة رصد (@RassdNewsN) December 10, 2023
أما معتز (37 عامًا) فيقول: “بكل الحالات السيسي سيفوز، ذهبت أم لم أذهب، وبالتالي أنا أولى بالمال والسكّر طالما صوتي لن يشكّل فرقًا”، لافتًا أن المنطقة التي يسكن فيها في السيدة عائشة بالقاهرة، معروفة منذ سنوات بحشدها في الانتخابات عن طريق الحزب الوطني سابقًا وحزب مستقبل وطن حاليًّا، مضيفًا: “الرشاوى تدفع في الشارع عيني عينك، والسيارات مصطفة لجمع الناس في الطريق دون مشكلة”.
ومن الاستثناءات التي شهدتها الانتخابات الحالية، أن تصل الرشاوى إلى مستوى الأجهزة الكهربائية، وهو ما كشفته بعض المقاطع لأحد التجّار في قرية تابعة لمحافظة الدقهلية (شرق)، ممسكًا بميكروفون ويطالب الناخبين بالمشاركة نظير كوبون يوزَّع عليهم، والفائز سيحصل على هدية عبارة عن جهاز كهربائي، وبالفعل أُعلن عن فوز فتاة بجهاز تلفزيون.
اللافت هنا أن الإعلان عن تلك الرشاوى يتمّ على الملأ، وعبر الميكروفونات، دون أي حرج أو قلق من المساءلة والحساب، وهو الأمر الذي يثير الكثير من الشكوك حول ما يمكن تسمّيته بـ”التواطؤ” بين أجهزة الدولة والمعلنين عن تلك الرشاوى، الذين في أغلبهم أعضاء داخل حزب مستقبل وطن الداعم للسيسي في تلك الانتخابات.
توزيع سلع غذائية وأجهزة كهربائية على الناخبين أمام اللجان الانتخابية بإحدى لجان محافظة الدقهلية pic.twitter.com/qu1p4Gntin
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) December 10, 2023
ترهيب وتحشيد
وعلى الجانب الآخر، فما لا يحصَّل بالرشاوى يحصَّل بثنائية الترهيب والحشد، حيث اعتاد النظام في مصر، منذ مبارك وحتى اليوم، على انتهاج السياسات ذاتها، لكنها ازدادت تطرفًا وحدّة في عهد السيسي، ويمكن حصرها في عدة مؤشرات:
– حثّ مدراء المدارس وعمداء الكليات على حشد أعضاء هيئة التدريس والمعلمين والطلاب للمشاركة في الانتخابات ودعم السيسي، وتأتي تلك التعليمات بشكل مباشر وصريح، وهو ما تناقلته الصفحات الرسمية لبعض الكليات والمدارس بشكل واضح، حشود طلابية للهتاف باسم السيسي، مقابل حثّ الطلاب الجامعيين على الانتخابات والتصويت للرئيس بشكل جماعي تحت إشراف الكليات والجامعات.
– إجبار أصحاب المصانع والشركات على توجيه العمال والموظفين للمشاركة في الانتخابات والتصويت للسيسي، وهو ما تصوّره حشود الحافلات الخاصة بالشركات، والتي تنقل العمال بزيّهم الرسمي لتوثيق اللحظة والمشاركة الفعلية، وتقديم رجال الأعمال أوراق الاعتماد لدى السلطات، للظفر بامتيازات سياسية مستقبلية أو تجنُّب أي تضييقات في نشاطهم الاقتصادي، علمًا أن الكثير من كبار رجال الأعمال أعضاء في الأحزاب المؤيدة للنظام، لمثل تلك المواقف التي يحتاجون فيها إلى الحشد الشعبي.
– ترهيب كبار السن من الرجال والنساء المنتفعين بمعاشات صندوق تكافل وكرامة، وتخويفهم بأنه من لم يشارك سيتوقف معاشه، وهي مبادرات يطلقها المناصرون للنظام في الوحدات المحلية والقرى تحديدًا، حيث تجوب الميكروفونات الشوارع والميادين وفي المساجد لحثّ الناس على المشاركة والتحذير من عدم التصويت، وفي ظل الحاجة والفقر الذي تعاني منه الغالبية، فإن مجرد التهديد بقطع المعاشات والمنح مسألة لا تقبل التفكير لتكون المشاركة هي الخيار الوحيد.
على خطى الحزب الوطني
يسير حزب مستقبل وطن على ذات خطى الحزب الوطني المنحلّ، فيما يتعلق بالحشد والتجييش للوحدات الحزبية في القرى والنجوع والمناطق النائية وغيرها، حيث تحشد الأحزاب قواعدها لدعم الرئيس عبر مئات المؤتمرات التي يتحمّل كلفتها رجال الأعمال، بجانب حشد وسائل النقل المختلفة لجمع الناس والتوجُّه إلى صناديق الاقتراع.
وبدءًا من الأمانة المركزية للحزب، مرورًا بالأمانات الفرعية في المحافظات ثم المراكز والمدن، وصولًا إلى الوحدات الصغرى في القرى، يحشد الكل ما يستطيع حشده، حيث يوضّح هدفًا محددًا لا بدَّ أن يحققه الجميع للخروج بالمشهد بالشكل المطلوب، بل إن تقييم بعض قيادات تلك الأحزاب يكون على أساس قدرتهم على حشد أكبر عدد ممكن من الناس.
ويقوم بتلك المهمة عدد من الأحزاب الداعمة للنظام الحالي، على رأسها حزب مستقبل وطن، خليفة الحزب الوطني المنحلّ بكل كوادره وقياداته وقواعده، بجانب أحزاب حماة الوطن، ومصر الحديثة، والحرية المصري، والجيل، والمصريون الأحرار، وإرادة جيل، والمؤتمر، وحزب النور السلفي.
هناك كذلك الوحدات الحزبية في المحليات، وهي الإرث الشعبي الجماهيري الذي كان يعتمد عليها الحزب الوطني إبّان عهد مبارك، وورثها عنه حزب مستقبل وطن، حيث يتم حشد الموظفين في كل الإدارات المحلية للتصويت للسيسي والمشاركة في العملية الانتخابية بشكل إجباري، ومن يتخلف يتعرّض للمساءلة من قبل قياداته التي في أغلبها أعضاء في الأحزاب الداعمة للنظام.
اللقطة.. إخراج المشهد هو الهدف
لا يشك السيسي ولا أنصاره في مسألة الفوز في الانتخابات وحسم المعركة من جولتها الأولى، فهذا أمر شبه محتوم، وهو ما يؤكده تجاهل الرئيس المصري للعملية برمّتها منذ البداية.
فليس من المنطقي أن تكون هناك انتخابات ذو طبيعة تنافسية -هكذا يفترَض- دون أن يخرج المرشّح على جماهيره ولو لمرة واحدة، إذ لم يشارك السيسي في أي مؤتمر شعبي لاستعراض برنامجه أو رؤيته لما هو قادم، بل كفّل مدير حملته للقيام بتلك المهمة، في مشهد يعكس كيف ينظر الجنرال إلى تلك الانتخابات رغم وجود 3 مرشحين أمامه.
https://twitter.com/samaziad123/status/1734133064358392232
لكن النظام يسعى وبشتى السبل إلى تجميل المشهد، والحصول على لقطة الحشود والمشاركة الكبيرة لتوظيفها إعلاميًّا في الداخل والخارج، وإيهام المجتمع الدولي أن العملية الانتخابية في مصر تتم بشكل ديمقراطي، وأن هناك إقبالًا جماهيريًّا كثيفًا، عكس ما يروّج له الإعلام الأجنبي بأن الشارع المصري بعيد تمامًا عن الانتخابات، في ظل واقعه المعيشي المتدنّي والاحتقان الشديد من سياسات النظام خلال السنوات الأخيرة.
ويرى مراقبون أن المشاركة الحقيقية في الانتخابات ستكون هزيلة للغاية، جرّاء حزمة من الأسباب على رأسها الوضع في غزة الذي سحب البساط من تحت الجميع، وفقدان الثقة في نزاهة العملية الانتخابية، فضلًا عن اليأس من التغيير في ظل استفراد السيسي بالمشهد بعدما أطاح بمنافسيه الحقيقيين من حلبة المواجهة، هذا بخلاف الوضعية الاقتصادية الحرجة والمتدنّية للشعب المصري، والتي تجعل من الممارسة السياسية ترفًا ورفاهية غير متاحَين لغالبية المصريين في الوقت الحالي.