حصل أخيرًا ما توقعه الكثيرون بإصدار العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز قرارًا بتنصيب محمد بن سلمان وليًا للعهد بعد إعفاء محمد بن نايف من جميع مناصبه المتمثلة بولاية العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، ليصبح الملك القادم للسعودية محمد بن سلمان مع احتفاظه بمنصبه السابق وزيرًا للدفاع ومهامه السابقة المتعلقة بالاقتصاد والسياسة الخارجية.
وحسب ما جاء في وكالة الأنباء السعودية فقد تم تعديل الفقرة “ب” من المادة الخامسة من النظام الأساسي لتكون بالنص الآتي “يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملكًا ووليًا للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسس”.
عزل ابن نايف
حمل قرار عزل ابن نايف من جميع مناصبه مفاجأة للجميع، إذ لم يُمنح منصبًا آخر بل تم إزاحته من المشهد السياسي كاملًا بشكل يدعو للدهشة، وسائل إعلام سعودية قالت إن القرار برمته جاء بعد تقدم ولي العهد محمد بن نايف بطلب إعفائه من منصبه نظرًا لظروفه الخاصة بحسب ما تضمنه الطلب الذي عرض على مجلس هيئة البيعة الذي بدوره وافق على تنحيه بـ31 صوتًا من أصل 34 صوتًا من أعضاء هيئة البيعة.
مراقبون يشيرون أن مسألة مرض محمد بن نايف أمر مستبعد، إنما جاء هذا لدواعي السياسة والكياسة في تولي محمد بن سلمان لمنصب ولي العهد لكي لا يقول أحد إنه انقلب على ابن عمه.
يوصف ابن نايف بأنه جنرال الحرب على الإرهاب كما لقبته شبكة MSNBC الأمريكية، بسبب تلقيه العديد من الدورات العسكرية لمكافحة الإرهاب ولمنصبه كوزير للداخلية
محمد بن نايف لم يعد الرجل الثاني في البلاد بعد اكتساح ابن سلمان الجهاز البيروقراطي للدولة، إذ أمسك ابن سلمان بملفات الاقتصاد والتنمية وقرار إدارة ثروة البلاد النفطية كما يملك قرار الحرب والسلم ويهيمن على ملف السياسة الخارجية، حتى قرب نايف من دوائر القرار في الولايات المتحدة تمكن محمد بن سلمان من اختراقها والتأثير عليها، وكتبت صحيفة واشنطن بوست في 8 من أيلول/أغسطس من العام الماضي بعد أربعة أيام على لقاء القمة بين الملك سلمان والرئيس الأمريكي أوباما بحضور محمد بن سلمان، “الابن الذي سيكون ملك السعوديين”.
عزل ابن نايف بهذه الطريقة يثير تساؤلات عن مدى تخلي واشنطن عن شخص بخبرته وتربطه بها سنوات من العمل الأمني والاستخباراتي، ولا تفسير لهذا سوى المكانة التي احتلها ابن سلمان في البيت الأبيض مؤخرًا والتي كنّها له الرئيس الأمريكي ترامب بشكل خاص، إذ اقنع ابن سلمان إدارة البيت الأبيض من خلال سياساته الاقتصادية والعسكرية بأنه خير من يعتمد عليه في المنطقة، وكانت صفقة السلاح الأخيرة التي عقدت في قمة الرياض لا تخرج عما أسماه مراقبون شراء موقف إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لصالح ابن سلمان.
كما يرى محللون أن واشنطن في حال وصول ابن نايف للسلطة لن تتوقع منه أي مفاجآت بحكم علمه لتوازنات القوة بدقة داخل وخارج البلاد، وتعرف كذلك أنه شخصية محافظة متزنة، ولن تتوقع منه تغيرات جذرية لا في السياسة الداخلية ولا في السياسة الخارجية، وهو ما كان يدعم أنه سيكون رجل واشنطن القادم في السعودية، بينما على النقيض ابن سلمان لا تعرفه واشنطن مطلقًا وهو حديث عهد بالسياسة وإدارة شؤون البلاد، إلا أنه برأي البعض يمثل فرصة حقيقية لإجراء تحديث مؤجل داخل المملكة ينقلها للقرن الحادى والعشرين على غرار ما ذهبت إليه الإمارات على سبيل المثال، بفضل فكره المتحرر وتبنيه لسياسات ليبرالية لم يتجرأ أحد على تبنيها سابقًا.
يعد أول من أسس لجنة للمناصحة في السعودية والخليج العربي التي تهدف إلى إعادة تأهيل المقبوض عليهم في قضايا الإرهاب، عن طريق إخضاعهم لدورات تعليمية تتضمن برامج نفسية ودينية وقانونية واجتماعية
على كل حال فمحمد بن نايف لاقى تهميشًا مستمرًا من قبل الإدارة الأمريكية لصالح محمد بن سلمان، رغم أن العلاقة بين واشنطن وابن نايف ليست عابرة فهي تعرفه جيدًا، درس في جامعتها وتدرب في مكتب التحقيقات الفيدرالية، وفي أثناء خدمة أبيه كوزير للداخلية كان محمد نائبًا له، واقترب من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية نتيجة إشرافه على ملفات شديدة الحساسية كمواجهة تنظيم القاعدة داخل السعودية، وتبنيه لبرامج إعادة تأهيل وإصلاح للإرهابيين.
كما أشرف بشكل مباشر على التنسيق الأمنى والاستخباراتى مع نظرائه الأمريكيين، وهو ما دعا جورج تينيت، المدير الأسبق للسى آى إيه للقول إنه “الأهم من بين الأشخاص الذين تحدثت إليهم فهو شاب نسبيًا، وقد وضعنا فيه قدرًا كبيرًا من الثقة وأوليناه احترامًا عظيمًا”.
ويرى الخبير بمعهد بروكينجز بروس ريدل، والذى عمل لعقود فى وكالة الاستخبارات ومجلس الأمن القومى بالبيت الأبيض، فى دراسته الصادرة فى سبتمبر/أيلول الماضى تحت عنوان “أمير مكافحة الإرهاب” أن محمد بن نايف لديه ميل فطرى شديد لدعم المصالح الأمريكية، وخلال اجتماعات قادة مجلس التعاون الخليجى الصيف الماضى مع الرئيس الأمريكى، بدا ابن نايف مرتاحًا تمامًا للعمل بشكل وثيق مع الأمريكيين، ومنسجمًا بصورة كبيرة مع الرئيس أوباما.
محمد بن نايف.. جنرال الحرب
الأمير محمد هو أكبر أبناء الأمير نايف بن عبد العزيز من زوجته الأميرة الجوهرة بنت عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود، عُين وليًا للعهد خلفًا للأمير مقرن بن عبد العزيز، ليكون بذلك أول أحفاد الملك عبد العزيز آل سعود الذين يتم تصعيدهم لهذا المنصب، ولد في جدة في 30 من أغسطس/آب 1959، والتحق بالجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1981، تلقى دورات عسكرية متقدمة، منها دورات متخصصة في مكافحة الإرهاب داخل وخارج السعودية، وهو متزوج ولديه من الأولاد سارة ولولوة.
عزل ابن نايف بهذه الطريقة يثير تساؤلات حول مدى تخلي واشنطن عن شخص خبِرته جيدًا وتربطه بها سنوات من العمل الأمني والاستخباراتي
سبق لابن نايف أن عمل في القطاع الخاص حتى صدر أمر ملكي بتعيينه مساعدًا لوزير الداخلية للشؤون الأمنية بمرتبة وزير عام 1999، وفي نفس العام صدرت موافقة من ولي العهد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني الأمير عبد الله بن عبد العزيز بضمه إلى عضوية المجلس الأعلى للإعلام، وفي عام 2008 تم التمديد له كمساعد لوزير الداخلية للشؤون الأمنية، وفي عام 2012 ترقى لمنصب وزير الداخلية خلفًا للأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود، وفقًا لأمر ملكي.
يوصف ابن نايف بأنه جنرال الحرب على الإرهاب، كما لقبته شبكة MSNBC الأمريكية بسبب تلقيه العديد من الدورات العسكرية لمكافحة الإرهاب ولمنصبه كوزير للداخلية، ويوصف ابن نايف بالدهاء والحنكة كما وصفته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، حيث استطاع القضاء على تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية باستخدام وسيلتي الحرب ولجان المناصحة لإعادة تأهيل من انضموا لهذه المنظمات المتطرفة، كما تمكن من حصر موجات الإرهاب التي شنها تنظيم القاعدة بين أعوام 2003 و2006، ليبقى التنظيم منحصرًا في اليمن.
ويعد أول من أسس لجنة للمناصحة في السعودية والخليج العربي وتعرض بسببها لمحاولة اغتيال في العام 2009 في مكتبه بجدة، إذ تهدف اللجنة إلى إعادة تأهيل المقبوض عليهم في قضايا الإرهاب، عن طريق إخضاعهم لدورات تعليمية تتضمن برامج نفسية ودينية وقانونية واجتماعية.
يمثل ابن سلمان بالنسبة لواشنطن فرصة حقيقية لإجراء تحديث مؤجل داخل المملكة ينقلها للقرن الحادى والعشرين على غرار ما ذهبت إليه الإمارات
إلى جانب مكافحة الإرهاب، قاد ابن نايف مع رجاله أكبر عمليات مواجهة عصابات المخدرات وأشرف على أكبر عمليات ضبط تمت في المنطقة، ويُذكر أنه عمل على تطوير هياكل ومهام القطاعات الأمنية بوزارة الداخلية السعودية المرتبطة به، مثل المديرية العامة للمباحث، قوات الأمن الخاصة، المديرية العامة للأمن العام، المديرية العامة للدفاع المدني، المديرية العامة للجوازات وغيرها.
الإسكندر الأكبر.. محمد بن سلمان
قالت مجلة الإيكونوميست الأمريكية إن ولي ولي عهد السعودية الشاب، الأمير محمد بن سلمان، يُفضل أن يسميه الأشخاص في الدائرة المقربة منه بـ”الإسكندر الأكبر”، واليوم صار الشاب الثلاثيني من العمر والصاعد إلى عالم السياسة والمال والأفكار الحداثوية وليًا للعهد بفضل قرار والده الملك الفعلي للبلاد وهو ما رأى فيه البعض تطورًا دراماتيكيًا وغير مسبوق في تاريخ السعودية.
ويُقال إن محمد بن سلمان كان في صباه يحتك مع أبيه كثيرًا في مجالس الأمراء والسياسة ويحضر نقاشاتهم، بالرغم من أنه ليس أكبر أبناء الملك سلمان ولكنه أكثرهم تأثيرًا ويحمل شهادة في الحقوق من جامعة الملك سعود.
يروج الأمير محمد بن سلمان لحلول جديدة تقلل من اعتماد ثروة المملكة على عائدات النفط، عبر خطة لخصخصة شركة نفط السعودية أرامكو
منذ توليه منصب ولي ولي العهد ومحمد بن سلمان ينظر إلى مكان ابن عمه محمد بن نايف، فمحطات كثيرة طول العامين الماضيين شهدتها السعودية كانت تركز على تقديم ابن سلمان للواجهة وتراجع محمد بن نايف، قرار جاء في شهر حافل من التطورات المهمة في منطقة الخليج بدأت بزيارة الرئيس الأمريكي ترامب للرياض وحضوره قمة الرياض في 21 من مايو/أيار الماضي ومن ثم إعلان الحملة الإماراتية السعودية ضد قطر.
مستقبل ولي ولي العهد محمد بن سلمان كان مرتبطًا بالنظام الأساسي للحكم الصادر في آذار 1992 الذي يمنح الملك صلاحيات مطلقة بما يجعله صانع القرار الوحيد، ويعني ذلك ببساطة أن كل السلطات التي يتمتع بها ابن سلمان حاليًا ليست نابعة من قوته الذاتية، بل مكتسبة من والده، ووفق هذه الحقيقة فبموت الملك سيتولى السلطة ولي عهده محمد بن نايف، وهو ما يعني النهاية السياسية لابن سلمان.
لذا سعى ابن سلمان ألا يحدث هذا، وحصلت إشارات عديدة أوصلت ابن سلمان إلى كرسي ولاية العهد، فمنذ توليه لمنصب ولي ولي العهد بعد تسلم أبيه الحكم في كانون الثاني/ يناير 2015 تم تعيين ابن سلمان في منصب وزير الدفاع، وكان أول قرار اتخذه قيادة تحالف للتدخل العسكري في اليمن ضد الحوثيين تحت اسم عاصفة الحزم ومن ثم إطلاق إعادة الأمل، ولا تزال الحملة على اليمن مستمرة إلى الآن بعد فشلها في تحقيق نتائجها المرجوة.
وبعدها توجه ابن سلمان إلى الداخل وتولى التخطيط لرؤية اقتصادية بعد انخفاض أسعار البترول العالمية بمستويات كبيرة، ويرتكز البرنامج الاقتصادي الذي قدمه ابن سلمان، “رؤية 2030″، على تطوير مصادر بديلة للبترول والاعتماد على خصخصة الاقتصاد السعودي ومصادر التنمية المستدامة، وكانت أولى قرارات هذا البرنامج فرض ضرائب جديدة وخفض الدعم ووضع خطة لتنويع مصادر الدخل من أجل إنشاء صندوق مالي يقدر قيمته بتريليوني دولار أمريكي.
أول قرار اتخذه ابن سلمان قيادة تحالف للتدخل العسكري في اليمن ضد الحوثيين تحت اسم عاصفة الحزم
ويروج الأمير محمد لحلول جديدة تقلل من اعتماد ثروة المملكة على عائدات النفط، عبر خطة لخصخصة شركة نفط السعودية “أرامكو”، الشركة التي تعد أغنى شركة في العالم بأصولٍ تُقدر بين 1.5 إلى 10 تريليون دولار، ويرغب الأمير في استغلال التمويل الناتج عن خصخصة الشركة من أجل بناء اقتصاد متنوع.
وكانت من بين القرارات التي اتخذها ابن سلمان قطع البدلات وتقليص المكافآت والمزايا ضمن برنامج التقشف الذي دخلت فيه السعودية، ومن ثم عمل على إعادتها مؤخرًا كبادرة لكسب رضى الحاضنة الشعبية السعودية.