في تطور لافت بالعراق، أصدرت قوى الإطار التنسيقي بيانًا عبّرت فيه عن إدانتها للهجمات التي تعرضت لها السفارة الأمريكية في بغداد فجر الجمعة الماضي، وهي المرة الأولى التي تدين فيها هذه القوى هجمات تقوم بها “خلايا الظل” التي تتبع بعض الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق.
ولم تتوقف قوى الإطار عند هذا الحد، بل أعلنت عن تأييدها لإجراءات حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، في القبض على الجهات التي تقف خلف هذه الهجمات، وممارسة سلطة فرض القانون على أي جماعة مسلحة تهاجم البعثات الدبلوماسية في البلاد.
إن بيان قوى الإطار التنسيقي يشير بما لا يقبل الشك إلى عمق الخلاف الذي بدأ يتّسع بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وتحديدًا حركة النجباء وكتائب “حزب الله” العراقي من جهة، وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر من جهة أخرى.
ولعلّ مردّ هذا الخلاف أيضًا إلى الدور الذي لعبته إيران في العراق خلال الفترة الماضية، عبر تقريب فصائل وإبعاد أخرى عن دائرة الاهتمام الإيراني، إذ عبّر زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي، عن امتعاضه من استمرار عمليات الهجوم على المواقع الأمريكية في العراق، معتبرًا أنها بلا جدوى، ومؤكدًا على ضرورة التعاطي السياسي وليس العسكري مع الوجود الأمريكي في العراق.
أظهرت عملية الهجوم الأمريكي على مقرّ تابع للحشد الشعبي في كركوك الأسبوع الماضي، والذي راح ضحيته 5 عناصر من حركة النجباء التي يتزعّمها أكرم الكعبي، عمق التعاون الأمريكي العراقي في الحدّ من هجمات الفصائل المسلحة.
إذ عبّرت السفيرة الأمريكية في بغداد، ألينا رومانوسكي، في تغريدة لها على موقع إكس، عن تنسيق عراقي أمريكي لإيقاف هذه الهجمات، وأن الولايات المتحدة تنتظر من حكومة السوداني تقريرًا عن خلفية هجوم مزعوم كانت حركة النجباء تسعى للقيام به، وهو ما دفع الكعبي إلى الردّ على تغريدة السفيرة الأمريكية، مطالبًا الولايات المتحدة بسحب قواتها من العراق، أو عليها أن تستقبل جثث جنودها في أقرب وقت.
السوداني في وضع حرج للغاية
نجحت الولايات المتحدة، وعبر دور السفيرة الأمريكية في بغداد، بتهذيب سلوك قوى الإطار التنسيقي، وتحديدًا بعض الأجنحة المسلحة المنضوية فيه، وبالشكل الذي أنتج ثنائية جديدة، تتمثل بـ”فصائل الحكومة” و”فصائل المقاومة”، عبر إدانة الأولى لهجمات الثانية، بل تحميلها مسؤولية الردود الأمريكية في الداخل العراقي، والأكثر من ذلك مثّل البيان الذي أصدرته جماعة أصحاب الكهف، والتي يعتقَد في ارتباطها بحركة النجباء، تحولًا خطيرًا في التعاطي مع حكومة السوداني، وأشارت إليه بصفته “عميلًا للولايات المتحدة”.
تصعيد أصحاب الكهف جاء بعد بيان السوداني إثر قصف السفارة الأمريكية في بغداد، والذي أشار فيه إلى أن “التلاعب باستقرار العراق، والإساءة للأمن الداخلي، ومحاولة التعريض بسمعة العراق السياسية، واستهداف أماكن آمنة محمية بقوة القانون والأعراف والاتفاقيات الدولية، هي أعمال إرهابية، وأن قواتنا الأمنية والأجهزة الحكومية والتنفيذية، ستواصل حماية البعثات الدبلوماسية وصيانة المعاهدات الدولية والالتزام بتأمينها”، طبقًا لما نقلت “وكالة الأنباء العراقية” عن البيان.
ورغم أن بيان السوداني يحمل رسالة واضحة لواشنطن عبر إبعاد الحكومة عن التغطية على هذه الهجمات، إلا أنه يحمل رسالة أخرى للداخل، فمّما لا شك فيه أن استمرار مثل هذه الهجمات سيؤثر على مستقبل حكومة الإطار التي يرأسها السوداني، وبالتالي هي تمثل تهديدًا لمستقبل وجود قوى الإطار بمعادلة السلطة، ولعلّ هذا ما يوضّح سبب التأييد الإطاري لبيان حكومة السوداني، عبر اتخاذ مواقف صريحة من هذه الهجمات.
الخيار الاستراتيجي المتاح أمام حكومة السوداني يتمثل بممارسة سياسة احتواء التصعيد، خصوصًا مع قرب موعد إجراء الانتخابات المحلية.
يتمثل التحدي الحقيقي الذي تواجهه حكومة السوداني بالموقف الإيراني من هذا الصراع الداخلي، فهذا الموقف يحدد بدرجة كبيرة مستقبل هذا الصراع، أو على أقل تقدير استمرار الهجمات على المواقع الأمريكية في العراق.
ففي الوقت الذي تستفيد فيه إيران من استمرار الهجمات على القواعد الأمريكية، من أجل فرض مزيد من الضغوط على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، سواء على مستوى الحرب في غزة أو مستقبل العلاقة بين طهران وواشنطن، فإنها بالوقت ذاته تخشى من أن يتسع هذا الصراع، ويتحول من صراع سياسي إلى مواجهة مسلحة ما بين الفصائل المتمردة والحكومة أو مع فصائل مسلحة أخرى، وهي معادلة خطيرة ستحاول إيران تجاوزها بأقل الأضرار.
الخيار الاستراتيجي المتاح أمام حكومة السوداني يتمثل بممارسة سياسة احتواء التصعيد، خصوصًا مع قرب موعد إجراء الانتخابات المحلية في 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، فمن جهة تطمح حكومة السوداني في إنجاح العملية الانتخابية، كجزء من التزامها بالبرنامج الحكومي الذي سبق وأن أعلنت عنه، ومن جهة أخرى لا تريد أن تكون طرفًا في صراع بين الفصائل المسلحة، لأنها ستكون الحلقة الأضعف في هذا الصراع.
ورغم البيان الحاد الذي أصدرته الحكومة عقب الهجوم على السفارة الأمريكية، فلا يتوقع أن تتجه إلى التصعيد أكثر، كي لا تكون هي الأخرى عرضة لهذه الهجمات، كما كان عليه الحال في زمن حكومة مصطفى الكاظمي، رغم أنه بالوقت الذي تم فيه استهداف السفارة الأمريكية في بغداد فجر الجمعة، تم استهداف مبنى جهاز الأمن الوطني في بغداد أيضًا، ولعلّ في ذلك رسالة أرادت الجهة المنفّذة إيصالها لحكومة السوداني أيضًا.
ممّا لا شكّ فيه أن السوداني يجد صعوبة في التعامل مع الفصائل المسلحة التي تستهدف الأمريكيين، حتى وصل به الحال إلى عدم التعليق على حادثة كركوك التي قُتل فيها 5 عناصر من النجباء، ولم يردّ على بيان الجيش الأمريكي الأخير، كما فقد إثرها مساحة المناورة والتوازن في العلاقة ما بين الولايات المتحدة وإيران.
كما أنه يواجه صعوبة في ضبط الفصائل المسلحة، لأن هذه الفصائل هي الركيزة الأساسية للحكومة أصلًا، وأن أي محاولة منه سيفقد بسببها الدعم السياسي لحكومته، كما أن تبنّيات الفصائل هي عقائدية وأيديولوجية، تتلخّص في مواجهة الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وأن مواجهة السوداني لهذه العقيدة قد تعرضه لمشاكل.
تدرك حكومة السوداني حجم التحديات الكبيرة التي يكتنفها العمل في ظل بيئة تسيطر على الفصائل المسلحة، وما يزيد من صعوبة المهمة هو الدور الإيراني.
وما يزيد من تعقيد المهمة أمام حكومة السوداني، هو أنه على هامش الخلاف المحتدم بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران من جهة، وموقف حكومة السوداني من جهة أخرى، أشار البيان الذي أصدره وزير القائد، والذي يعتبَر الناطق الرسمي باسم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، إلى تحول مهم في سلوك التيار الصدري.
إذ طالب البيان بضرورة احترام البعثات الدبلوماسية في البلاد، وعلى ما يبدو إن الصدر قرأ الخلاف جيدًا بين الفصائل، كما أنه وعبر بيانه الأخير أراد تقديم صورة مغايرة عن التيار، خصوصًا بعد أحداث اقتحام السفارة السويدية في بغداد، على خلفية حرق نسخ من القرآن الكريم على يد أحد المتطرفين من ذوي الجنسية العراقية في استوكهولم.
فضلاً عن ذلك، حاول الصدر عبر هذا البيان إبعاد التهم الموجّهة للتيار بالوقوف خلف الهجمات الأخيرة على السفارة الأمريكية في بغداد، وهي تهم سوّقتها بعض المواقع التابعة للفصائل المسلحة على تيليغرام، معتبرًا أن استمرار التحرش بالتيار له حدود، وأشار إلى أن “للصمت حدود”، في إشارة واضحة إلى إمكانية التصعيد في المرحلة المقبلة.
تدرك حكومة السوداني حجم التحديات الكبيرة التي يكتنفها العمل في ظل بيئة تسيطر عليها الفصائل المسلحة، وما يزيد من صعوبة المهمة هو الدور الإيراني، فرغم المحاولات الأمريكية المستمرة للضغط على حكومة السوداني بكبح جماح هذه الفصائل، إلّا أن الواقع على ما يبدو أكبر من هذه الحكومة، وهو واقع سيرسم إلى حد كبير مستقبل العلاقة بين الفصائل المسلحة وحكومة السوداني، ما يجعل بدوره الوضع الأمني في العراق أمام تحدٍّ كبير، فيما لو قررت الولايات المتحدة التصعيد المتطرف مع هذه الفصائل، أو الانسحاب الكلي من العراق.