ترجمة وتحرير نون بوست
على الرغم من التصريحات الحادة والحظر المفروض وتنامي حدة التوترات في منطقة الخليج العربي، إلا أن ذلك لا ينذر بنشوب سلسلة من الحروب في منطقة الشرق الأوسط المنكوبة في ظل تواتر الصراعات. ففي الواقع، يعد الصراع القائم بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من جهة وقطر من جهة ثانية ضارب في القدم، مع بعض التفاصيل المستحدثة، ولكن جذور الخلاف بين هذه الدول لم تتغير على الإطلاق.
في المقابل، تضافرت جملة من المعطيات الجديدة التي دفعت بالدول المجاورة لقطر لمقاطعتها. ففي الواقع، اقتنصت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات الفرصة التي أتيحت لهما للعمل على إزاحة كل العقبات التي تقف في طريقهما والتخلص من عدوان أساسيين ألا وهما إيران والإخوان المسلمين، خاصة في ظل وجود حليف جديد في البيت الأبيض. وفي الأثناء، لجأت السعودية وحليفتها الإمارات لاتباع سياسة التهديد والتخويف، وذلك بهدف دفع قطر لإحداث تغييرات جذرية فيما يتعلق بقراراتها وسياستها، علما وأن حالة الضعف التي تشهدها كلتا الدولتين والاختلافات العميقة بينها تحول دون المزيد من التصعيد.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه على الملأ أن قطر تدعم “الإرهاب”، مع العلم أن هذه التهمة أصبحت شائعة وتعتمد لوصف أي معارض سياسي أو مجموعات جهادية، بادرت الدولتين العضوتين في مجلس التعاون الخليجي بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في 5 من حزيران/ يونيو، في حين سارعت بغلق الحدود البرية والجوية، تاركتين منفذا واحدا لقطر للتزود بالإمدادات الضرورية.
ما الذي فعلته قطر حتى تستفز هذه الدول وتشعل غضبها؟
في الحقيقة، سعت قطر لاستثمار قدراتها المالية الهائلة التي حظيت بها بفضل احتياطي الغاز الهائل الذي تملكه وتوظيفها لخلق مكانة دبلوماسية بارزة بشكل لا يتناسب مع حجمها. وفي الأثناء، تعتبر قرارات ومواقف وزارة الخارجية القطرية، التي حظيت بفرصة زيارتها في السنة الماضية حاسمة وفعالة. قبل عقد من الآن، دأبت قطر على لعب دور الوسيط في خضم العديد من النزاعات، لعل أبرزها، الأزمة التي نشبت بين الشقين الفلسطينيين حماس وفتح في سنة 2006. بالإضافة إلى ذلك، توسطت قطر بين الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين على امتداد مختلف جولات القتال التي خاضها الطرفان في الفترة ما بين سنة 2003 وسنة 2009، وأيضا في الحرب الأهلية السرمدية في السودان.
خلال تلك الفترة، تواترت الاجتماعات التي كانت تعقد بشكل سري أو علني في إحدى فنادق قطر الفخمة، بصفة أسبوعية. وقد جمعت هذه اللقاءات المتنازعين من مختلف البلدان، على غرار فلسطين وأفغانستان ولبنان. وقد لاقت هذه المبادرات القطرية استحسان مختلف الأطراف، الذين منحوا فرصة الابتعاد عن عناء ساحات المعارك، حتى وإن كانت نتائج مفاوضات السلام متواضعة.
عموما، كانت قطر تضطلع بدور أكبر من حجمها في المنطقة. ولكن ونظرا لأنها لم تكن تمثل أي تهديد حقيقي لأي جهة، فضلت جارتها الأكبر والأغنى والأكثر قوة، المملكة العربية السعودية غض الطرف عن ممارسات جارتها المبالغ فيها. وفي الأثناء، اكتفت السعودية بممارسة سياسة خارجية ترتكز على الدولار في حين لم تعول كثيرا على الجانب الدبلوماسي. من جانب آخر، كانت العلاقة بين الدولتين غير مستقرة، وقد تجلى ذلك من خلال المحاولة الانقلابية في الدوحة وبعض المناوشات الحدودية. من جهتها، لطالما اعتبرت المملكة العربية السعودية قطر مصدر إزعاج وحليف غالبا ما كان يدين بأفكار وسياسة خارجية مغايرة عن بقية الدول في صلب مجلس التعاون الخليجي.
في أعقاب ذلك، وإبان اندلاع ثورات الربيع العربي تغيرت المعطيات السياسية في المنطقة بشكل جذري. فقد تساقط المستبدون العرب كأحجار الدومينو، في الوقت الذي أدركت فيه العائلة الملكية في السعودية، فضلا عن غيرها من الدول، أن عرشها بات مهددا بالانهيار. وبالتالي، قررت الرياض شن ثورة مضادة استهدفت أولا الحكومة المنتخبة للرئيس المصري محمد مرسي في مصر. والجدير بالذكر أن الرئيس المصري السابق مرسي كان يتزعم جماعة الإخوان المسلمين، التي أثبتت أنها وحدة متماسكة ومنظمة وقوة سياسية منضبطة قادرة على تعويض الأنظمة العربية المتآكلة.
وفي هذا السياق، تلقى الإخوان المسلمون دعما قويا من قطر، التي عرفت بدور الوساطة المحايد في فترة ما قبل سنة 2011 الأمر الذي مهد الطريق أمام حشد العديد من المناصرين المتحمسين لهذه الحركة. وفي الأثناء، استضافت قطر قائد حماس، إحدى جبهات المقاومة الفلسطينية، الذي طرد من دمشق. في المقابل، وفي تموز/ يوليو 2013، تم تنحية مرسي من السلطة على يد الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي، وبدعم من السعودية، وذلك بهدف التصدي للتقدم الكبير الذي أحرزه الإخوان المسلمون في كامل المنطقة العربية.
وتجدر الإشارة إلى أن المستفيد الرئيسي الثاني من فشل الربيع العربي هي إيران التي لم تكشف جل أوراقها بعد، في حين نجحت في كسب موطئ قدم مهم جدا في العراق منذ سقوط صدام حسين سنة 2003. وقد تنامى نفوذها وامتد حضورها العسكري منذ سقوط سوريا في مستنقع الفوضى بعد سنة 2011، حيث بادرت طهران بالتدخل في البلاد بهدف إنقاذ حليفها بشار الأسد.
من جانبها، عمدت المملكة العربية السعودية إلى مراقبة امتداد النفوذ الإيراني بحذر شديد، في حين لم تتوان عن توجيه أصابع الاتهام لطهران على اعتبار أن لها مطامع للهيمنة على العديد من الدول في المنطقة، خاصة بعد رفع العقوبات الدولية المسلطة عليها إثر الاتفاق النووي في سنة 2015. وفي الوقت الراهن، يعتقد السعوديون أن إيران تحاول استغلال مكانتها الدولية الجديدة والمكاسب التي حققتها فضلا عن استثماراتها المربحة من خلال تكثيف دورها العسكري في سوريا واليمن والعراق.
وفي سياق متصل، مثل فوز ترامب وتقلده لرئاسة الولايات المتحدة فضلا عن تعيينه لمسؤولين بارزين معارضين للاتفاق النووي، الذين لقوا دعما من قبل العديد من الأطراف في البيت الأبيض وفي مجلس الشيوخ، فرصة للمملكة العربية السعودية لمواجهة إيران بالوكالة، أي من خلال جيش الولايات المتحدة الأمريكية.
في المقابل، لا تزال قطر تمثل حجر عثرة أمام مطامع المملكة العربي السعودية في حين ترفض التنحي وافساح المجال للرياض حتى تكون القائد الأول في المنطقة دون منازع. خلافا لذلك، لم تعارض هذه الإمارة الصغيرة على الإطلاق سياسة المملكة السعودية تجاه إيران، بل على العكس تماما. فقد حرصت قطر على مساندة المملكة ودعمها في في كل من سوريا واليمن في مواجهة مباشرة مع إيران. وعلى الرغم من ذلك، حافظت قطر بالإضافة إلى بعض دول الخليج الصغيرة على علاقاتها الودية مع الجارة إيران. (من المهم للغاية أن تحافظ قطر على علاقاتها الجيدة مع إيران نظرا لأنهما يتشاركان أضخم حقل غاز بحري في الخليج).
وفي الأثناء، وفي ظل الممارسات المستبدة، إن جاز التعبير، من قبل الرياض، يبقى الاختيار الأنسب بالنسبة للدوحة التماهي مع سياسة المملكة، نظرا لأن عامل الجغرافيا يجبرها على التأقلم مع ذلك. وفي حال وجدت قطر نفسها بين خيارين، فمن المرجح أنها ستميل إلى إرضاء الرياض بدلا عن طهران. عموما، ليس هناك أي داع للقلق بالنسبة لأمير قطر فيما يتعلق بخروج الخلافات الحالية عن السيطرة، فحلفائه الخليجيون، الذين تحولوا إلى أعداء، مؤخرا، لديهم دوافع ومصالح تلزمهم بإخضاعه لطاعتهم المطلقة وإملاءاتهم.
في المقابل، لطالما عرفت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بعدائهما الشديد لإيران أكثر بكثير من حنقهما على الإخوان المسلمين، الذين ينظر إليهم على أنهم أعداء محليون. وفي الأثناء، عمدت كلا الدولتين على محاربة جماعة الإخوان المسلمين في الداخل والخارج، حيث قامتا بسجن أعضائها في الداخل والتصدي لممثليها في الخارج على غرار الموجودين في ليبيا. وفي اليمن، عارضت الإمارات العربية المتحدة بشكل كبير حزب الإصلاح المنتسب للإخوان المسلمين الذي شارك في حرب الإمارات والسعودية ضد الحوثيين بهدف دعم الحكومة اليمنية. أما في تونس، تحاول الإمارات إفشال حكومة الوحدة الوطنية الهشة خاصة في ظل مشاركة حزب النهضة، الحزب الإسلامي المعتدل في تونس.
في الوقت الذي بادرت فيه الإمارات العربية المتحدة بمنع القطريين من دخول الإمارة على خلفية قرار المقاطعة، لا يزال الإيرانيون والاستثمارات الإيرانية مرحبا بها في أبو ظبي. في المقابل، أبدت المملكة العربية السعودية اهتماما بليغا بتنامي الدور الإيراني في المنطقة وخاصة في اليمن. وقد أعربت عن استعدادها للعمل مع حزب الإصلاح، على عكس الإمارات، بهدف زحزحة الحوثيين ومن خلفهم الإيرانيين.
في واقع الأمر، لدى كل من المملكة العربية السعودية والإمارات أسباب الخاصة التي تدفعها لمحاولة إعادة قطر إلى ركب البلدان الخليجية من خلال ممارسة جملة من الضغوط. ولكن، ونظرا لأولويات المعارك والتحالفات فضلا عن عجزهما عن إقحام جيوشهما في حرب جديدة، سرعان ما تراجعت حدة التهديدات التي وجهتها هذه البلدان لقطر.
في الأثناء، من المهم للغاية أن تبادر بعض دول الخليج الصغيرة مثل الكويت وعمان بلعب دور الوساطة، علها تجد حلا يرضي الطرفين. فمن جهة يمكن للسعودية والإمارات أن تتراجعا عن بعض مطالبها وتقلصا من حدة ضغوطها مقابل أن تحد قطر من حجم دعمها ومساندتها العلنية للإخوان المسلمين. وتجدر الإشارة إلى أن إدارة ترامب التي غالبا ما تتسم بالغموض والتناقض في ردود أفعالها قادرة على نزع فتيل الأزمة.
نأمل أن لا يكون هذا الصراع أكثر من زوبعة في فنجان. ومن المثير للاهتمام أن الاسم الذي يطلق على منطقة الخليج (عربي أم فارسي)، في حد ذاته يمثل مصدرا للخلاف. وفي الأثناء، قد يؤدي أي سوء فهم أو قراءة خاطئة لإحدى المعطيات إلى انبثاق سلسلة من التحركات من قبل مجموعة من القوى التي لن تتوقف على الإطلاق قبل تحقيق مأربها، علما وأنها قادرة على إحداث ضرر بليغ بالسعودية والإمارات أكثر مما كانت تطمح إليه قطر.
المصدر: نيويورك تايمز