هل تتخيل كيف كانت الحياة قبل 300 سنة، بلا كهرباء أو هواتف أو سيارات أو غسالات كهربائية أو ثلاجات كهربائية أو أي مظهر من مظاهر التكنولوجيا الحديثة؟! هل هززت رأسك رافضًا الفكرة لأنك تظن أن الحياة دون هذه الوسائل مستحيلة؟! إذًا عليك التعرف على حياة طائفة الآميش Amish التي تستوطن بعض ولايات أمريكا، واختارت أن تلتزم بحياة أسلافها الذين هاجروا إلى أمريكا من جنوب ألمانيا وسويسرا والألزاس بشرق فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر هربًا من الاضطهاد الديني، فانعزلوا بمحض إرادتهم عن أي اتصال مع العالم الخارجي ومحاولات دمجهم مع الثقافات والمجتمعات الأخرى، ونبذوا كل وسائل التكنولوجيا الحديثة، وما زالوا يعيشون بلا كهرباء أو هواتف، ويركبون عربات تجرها الخيول!
من الآميش؟
طائفة مسيحية منشقة عن طائفة المينونايت Mennonite، وتأسست على يد “جيكوب أمان” بعدما ادّعى تساهل طائفة المينونايت مع تعاليم الإنجيل الأصلية.
وطائفة الآميش ترى أن الخلاص والفلاح يتمثل في التمسك بتعاليم الإنجيل الحرفية في كل نواحي الحياة والرجوع إلى تعاليم المسيحية الأولى، ورفض سلطة الكنيسة وعدم الاعتراف بالبابا، ويلجأون في كل أمورهم وشؤون حياتهم إلى استشارة ما يُعرف بـ”مجلس الأعيان”، الذي يفتي في كل صغيرة وكبيرة وهل تتماشى مع تعاليم الإنجيل أو تخالفه، حيث يُعد السلطة العليا لدى الآميش.
والآميش مجموعة بروتستانتية تؤمن بتجديد التعميد بعد سن الرشد Anabaptist، فلا يؤمنون بتعميد الطفل رغمًا عنه، بل يؤمنون أن رغبة المرء في أن يكون مسيحيًا، ينبغي أن تكون رغبة راشدة، يقررها المرء بنفسه بين سن 16 إلى 25، ولذلك لا يعتبرون أبناءهم على ديانة الآميش حتى يجرى تعميدهم بعد الوصول لسن الرشد، كما أن التعميد شرط من شروط الزواج الذي لا يسمح به إلا داخل الطائفة.
واختيار التعميد أو ترك الطائفة قرار صعب، يُسمح للمراهق بترك مجتمعه من أجل تجريب الحياة الحديثة في العالم الخارجي بشكل مؤقت قبل التعميد، حيث يطلق على هذه المرحلة رومسبرينجا Rumspringa، وتبدأ بين سن 14 إلى 16، ويستغل بعض المراهقين هذه المرحلة لتجريب كل ما هو محرم على الآميش، من استخدام الهواتف الخلوية، وارتياد النوادي الليلية وشرب الكحول وربما يمتد التجريب إلى المخدرات وممارسة الجنس المحرم قبل الزواج على الآميش.
كما يتسامح الآميش مع المراهقين وأفعالهم، لأنهم قبل التعميد لا يعتبرون من الآميش، لكنهم صارمون جدًا مع من تم تعميده، إذ يهجرون الأعضاء الذين لا يلتزمون بمبادئهم وتعاليم الإنجيل الحرفية، فيقاطعونهم مقاطعة تامة ولا يكلمونهم أو يتعاملون معهم، بهدف الضغط عليهم لكي يتوبوا ويعودوا إلى حظيرة الإيمان.
عودة الابن الضال
والغريب أن الشباب الذين يجربون الحياة المدنية الحديثة، يعودون مرة أخرى إلى مجتمع الآميش بكامل إرادتهم، فنحو 80% “4 من كل 5” من شباب الآميش، ينتهون من مرحلة الرومسبرينجا Rumspringa وهم على استعداد تام للعودة لحظيرة الإيمان واختيار التعميد، حيث يرى كبار الطائفة أن السبب في ذلك يعود إلى أن حياة الآميش رغم بساطتها، تُغلفها السعادة والترابط الأسري القويّ، على عكس ما تصبغه الحياة الحديثة والسريعة على الأسر الأخرى برغم كل ما فيها من وسائل متقدمة وسُبل رفاهية.
في حين يرى البعض أن السبب في عودة الأبناء، مدى الترابط الأسري الحميم الذي عايشوه، وعدم قدرتهم على مغادرة الأسرة والتخلي عنها.
أين يستقرون وكيف يعيشون؟!
وفي البدء، عندما أتت طائفة الأميش من أوروبا في القرن السادس عشر، استقرت في بنسلفانيا بشمال شرق أمريكا وأوهايو وأنديانا بشمال أمريكا، ثم انتشرت في 28 ولاية أمريكية، بالإضافة إلى مقاطعة أونتاريو الكندية.
وخلال بحثهم الدؤوب عن أراضٍ زراعية منخفضة السعر، وبعيدة عن المدنية، بدأ الآميش في الاستقرار في ولايات أخرى مثل أركنسو وكولورادو ومين وميسيسيبي وفرجينيا الغربية، كما تضاعف عدد أبناء هذه الطائفة في عشر ولايات بشكل كبير، مثل فرجينيا +400%، وكنتاكي +200%، ومونتانا +150%.
أسرة آميشية
ويرى الباحثون وعلى رأسهم دونالد كرابييل، أن السبب في تزايد أعداد أعضاء الطائفة يرجع لعدة أسباب، أولها كثرة النسل، حيث تنجب العائلات ما لا يقل عن 5 أطفال ويصل حتى 10 أطفال، وثانيها استقرار الشبان وعودتهم من رحلتهم إلى العالم الخارجي وارتياحهم لنمط العيش داخل الطائفة، حيث الهوية والانتماء إلى طائفة مترابطة أسريًا ودينيًا، حيث تزايد عددهم إلى 231 ألف عام 2008، مقابل 125 ألفًا عام 1992، بزيادة قدرها 84%.
والآميش طائفة لا تؤمن بالكهرباء واستخداماتها ولا بالسيارات، ويستخدمون عوضًا عنها العربات التي تجرها الخيول، كما لا يتعاملون بالنقود الحكومية الورقية إلا في بعض الحالات طارئة، كما أصدر مجلس الأعيان فتوى بجواز ركوب سيارة للضرورة بشرط ألا يقودها الآميشي بنفسه.
ولا يؤمن الآميش بإدخال أطفالهم للمدارس، واحتراما لمعتقداتهم، صدر عام 1972، قانونًا خاصًا يستثني طائفة الآميش من التدريس الإلزامي في المدراس، حيث يعلمون الآميش أبناءهم في مدارسهم الخاصة ذات الفصل الواحد، حتى الصف الثامن، ثم يتوقفون عن الدراسة للالتحاق بتدريب مهني أو حرفي يخدم مجتمعهم ويفيدهم في النواحي الحياتية، تحت إشراف أولياء أمورهم والمشرفين المدرسيين.
إحدى مدارس الفصل الواحد الآميشية
كما أنهم لا يؤدون أي نوع من أنواع الخدمة العسكرية، ومُعفيون من دفع ضريبة الضمان الاجتماعي لأنهم يرفضون أن يتلقوا مستحقاتها ويؤمنون بالتكافل بدلاً منها، فهم يتكاتفون فيما بينهم ويمدون يد العون المادي والمعنوي لبعضهم البعض عند وقوع المصائب.
وبالطبع لا يشترون أي بوليصات للتأمين، ولا يترشحون للانتخابات ولا يأخذون أي معونات من الحكومة، لكنهم يدفعون ضرائب عن الدخل والممتلكات ويلتزمون بالقانون.
كما أنهم يتحدثون ثلاث لغات، الهولندية البنسلفانية “وهي خليط من الألمانية والهولندية” والألمانية القديمة فيما بينهم وفي صلواتهم، والإنجليزية في المدارس ومع جيرانهم.
ملابس آميشية تقليدية
وتطبيقًا لتعاليم الإنجيل الحرفية وحرصًا من الآميش على التواضع وعدم التفاخر والظهور، ترتدي النساء فساتين طويلة ساترة ذات لون واحد، لا تحمل أي نقوش أو زركشات، كما يلتزمن بتغطية رؤوسهن بمناديل، لأن تغطية الرأس شرط من شروط صلاة المرأة عند الآميش.
أما الرجال فيضعون على رؤوسهم قبعات سوداء في الشتاء، وأخرى من القش في الصيف، وتخلو ستراتهم من أزرار، لأنها كانت تعد في أوروبا علامة من علامات الفخر والثراء والمنصب الحكومي أو العسكري الذي ينبذه الآميش.
شابان من الآميش
والشبان والفتيات في طائفة الآميش يتواعدون في حدود معينة، من أجل الزواج، حيث إن الزيجات بالاختيار لا مدبرة من قِبل الأهل، كما في بعض المجتمعات المحافظة الأخرى، لكن الجنس خارج نطاق الزواج محرم تمامًا.
الفرد من أجل الجميع، والجميع من أجل الفرد
مجموعة من الآميش يساعدون بعضهم البعض في بناء حظيرة
وتنحصر ممارسة الآميش الدينية في مفهومين أساسيين، هما رفض الغطرسة والفخر والكبرياء، وتعظيم التواضع والإيثار والاستقرار والهدوء، حيث يتجلى مفهوم “إنكار الذات” في العقيدة الآميشية، واستحضار إرادة يسوع، عبر التماهي في الجماعة، والبُعد التام عن الفردية الشائعة في المجتمع الأمريكي.
فمثلاً من بعض أسباب رفضهم للكهرباء أنها تتسبب في تقليل الاعتمادية على المجتمع، كما أن التنافس في إنتاج سلع كهربائية مثلاً، قد يثير الصراع بين أبناء المجتمع ويؤدي إلى تشرذمهم.
وينُظم نمط الحياة اليومية لدى طائفة الآميش عن طريق تعاليمهم المعروفة بـ”الأوردنونج” والتي تعني بالألمانية “النظام”، والذي يختلف من مجتمع آميشي لآخر، كما قد يختلف من منطقة إلى منطقة، فما هو مقبول في أحد المجتمعات الآميشية، قد لا يكون مقبولاً في مجتمع آخر.
ويرى الآميشيون أن الحمل بالأطفال وتربيتهم وتنشئتهم الاجتماعية على القيم والأخلاق وإقامة علاقات طيبة مع الجيران والأقارب، أعظم الوظائف والواجبات المنوطين بها، حيث يؤمنون أن الأسر الكبيرة المتحابة، نعمة من نعم الله.
العمل في أحد الحقول الزراعية الآميشية
وكما أشرنا سابقًا، فالعائلة الآميشية قد يصل أعداد أطفالها إلى 10 أطفال، وغالبًا ما تحتوي المنازل على عدة أجيال أسرية، ومنازل الآميش كبيرة، حيث عادة ما تكون المنازل عبارة عن منزلين أو ثلاث متصلة فيما بينها بممرات تربط منازل الجد والابن والحفيد ببعضها البعض، كما تتميز منازلهم بأن لكل منزل زريبة وإسطبل وأرض زراعية كبيرة.
ولا يعترف الآميش بالكنائس، حيث يؤمنون أن الكنيسة بأعضائها لا مبانيها، لذلك لا يقومون بتخصيص مبانٍ معينة لأداء الصلوات والعبادات، بل يقيمون صلوات الأحد في بيوت بعضهم وجدير بالذكر أن طائفة الآميش تحرم الموسيقى، وفي تراتيلهم الدينية في أيام الآحاد، لا يستخدمون إلا الإنشاد الصوتي فقط.
امرأتان من الآميش تتهيأن لصلاة يوم الأحد
ولا يؤمن الآميش بالتبشير، لكنهم رغم ذلك يتقبلون دخول غير الآميش إلى طائفتهم، لكن ذلك لا يحدث إلا نادرًا جدًا وبعد التأكد من قدرة من عاش ونشأ خارج المجتمع الآميشي على التكيف مع تعاليمهم وقواعد دينهم وحياتهم.
الرغبة في الانفصال عن العالم
صورة من داخل أحد المنازل الآميشية
ومن الأسباب الرئيسية لتحريم الآميش استخدام الكهرباء، أن الخطوط التي تمد المنازل وغيرها بالتيار الكهربائي، تُعد نوعًا من الاتصال بالعالم الخارجي، وتحريم الاتصال بالعالم الخارجي واحد من أهم تعاليم ومفاهيم الآميش، ولذلك نراهم لا يمانعون في استخدام البطاريات، لأنها لا تجعلهم مرتبطين بشكل مباشر بالعالم الخارجي.
ويعتمدون على استخدام الهواء ومحركات الطاقة الهيدروليكية من أجل تشغيل الآلات التي يستخدمونها في الزراعة، وماكينات الخياطة والغسيل البدائية في المنازل، كما أنهم يعتمدون على الغاز الطبيعي، في إضاءة المنازل وتسخين المياه ومواقد الطبخ وتشغيل الثلاجات الخاصة بهم.
القبول بالظلم عن طيب خاطر
حادث إطلاق النار على مدرسة آميشية في أكتوبر 2006
السبب الرئيسي لعدم انضمام أفراد طائفة الآميش للخدمة العسكرية، التزامهم التام بمبدأ اللاعنف ونهج عدم المقاومة non-resistance، حيث يؤمنون بضرورة عدم الرد على أي اعتداء يقع عليهم، ولذلك لا يؤدون أي نوع من الخدمة العسكرية، ولا يرفعون القضايا القانونية ولا يطالبون بأي تعويضات مقابل أي ضرر يقع عليهم، ويفضلون أن يقبلوا بالظلم بدلاً من ذلك.
والدة إحدى الضحايا
فمثلاً، عندما وقع في الثاني من أكتوبر عام 2006، اعتداءً بشعًا على إحدى مدارس الآميش في مقاطعة لانكيستر، حين فتح مسلح النار على طلبة مدرسة من مدارس الآميش، فقتل 6 وأصاب خمسة آخرين قبل أن ينتحر.
كان رد أفراد الطائفة، التسامح الفوري والعفو الكامل عن القاتل، بل إن جد إحدى الفتيات المقتولات صرّح آنذاك أنه لا ينبغي اعتبار هذا الرجل شرير، ويجب تقديم العون إلى أسرته.