“إذا كنت على خطأ، فإنك ستفنى، ولكن الأمر لا يكون بتلك البساطة بالنسبة للشركات، فالشركات لا تفنى لأنها على خطأ، الشركات تفنى عندما تهدر مصادرها القيمة لكي تتخذ قرارًا ما، فالتحدي الأكبر الذي يواجه معظم الشركات هو تحدي البقاء بثبات”.
– آندي غروف، رئيس مجلس إدارة شركة إنتل
كما قالها “ميرفي” في الفيزياء الكميّة: “كل ما يمكنه أو باستطاعته الحدوث، سيحدث، وكل شيء بإمكانه أو باستطاعته أن يسير في الاتجاه الخطأ، سيسير في الاتجاه الخطأ دفعة واحدة”، لم يختلف آندي غروف، رئيس مجلس إدارة شركة إنتل، كثيرًا عن قانون ميرفي الأخير الخاص بالفيزياء الكميّة في فلسفته لإدارة أكثر الشركات إعجابًا حول العالم، فإن فلسفة غروف الخاصة تقول: “كل ما يمكننا أو باستطاعتنا فعله في عالم التكنولوجيا، سنفعله”.
يصف آندي غروف نجاح شركة إنتل الخاصة بإنتاج الرقائق الإلكترونية (semiconductor chip) والتي تنتج أغلب معالجات المعلومات (Processors) في أجهزة الحاسوب المختلفة من شركة آبل ولينوفو وإتش بي وكذلك ديل، في كتابه “يبقى مجانين العظمة وحدهم على قيد الحياة”، بأنه لا يمكن لأي شركة تحقيق هذا المقدار من النجاح، إن لم تكن قد اكتسبت خبرة عبقرية في فن الإدارة، واتبعت أسلوبًا غير اعتيادي في تطبيق ذلك الفن.
ربما يكمن سر كتاب آندي غروف (Only The Paranoids Survive) في عنوانه، والذي يجذب الكثير من القراء لمعرفة السبب الذي يجعل من أصحاب جنون العظمة أكثر الأشخاص الثابتين والباقين في الحياة، ولكن كتاب غروف لم يكن عن الأشخاص العاديين، بل كان عن الشركات، ذلك لأن إحدى المبادئ المهمة في ريادة الأعمال أن يعتبر المرء الشركة شخصًا، لها شريط حياة يبدأ مع الميلاد وينتهى بالممات كما الأشخاص، فالشركات أيضًا تفشل عندما لا تتكيف مع البيئة المحيطة بشكل سريع كما يحدث مع الأشخاص العاديين تمامًا.
يرى غروف أن المؤسسات والشركات تختار حلًا من بين اثنين للتكيّف مع المتغيرات الحادثة في بيئتهم المحيطة، وهي القرارات التي تُشكل نسبة كبيرة من احتمالية نجاح أو فشل الشركة، يكون الحل الأول ردة الفعل الاعتيادية لكل فعل أو مُتغير يحيط ببيئة تلك الشركة، وهو ما يرشد الشركة في أغلب الأوقات إلى “التكيّف السهل” واختيار أسهل الحلول للتكيّف السريع على المدى القصير، وهذا لا يؤهلها أن تكون شركة مُغامرة بحسب رأي غروف.
كتاب آندي غروف “Only the paranoid survive”
كتاب غروف لم يكن عن الأشخاص العاديين، بل كان عن الشركات، ذلك لأن إحدى المبادئ المهمة في ريادة الأعمال أن يعتبر المرء الشركة شخصًا لها شريط حياة يبدأ مع الميلاد وينتهى بالممات كما الأشخاص
أما عن الحل الثاني، والذي يُمثل بشكل كبير فلسفة آندي غروف في إدارة شركة إنتل، الشركة الأكثر إعجابًا على مستوى العالم والتي كان لها مكانًا متقدمًا بين الخمس شركات الأولى في قائمة أكثر 500 شركة ثرية على مستوى العالم في عهد إدارة آندي غروف، يتمثل في التغيير الجذري للقواعد، وهو ما تفتقده كثير من المؤسسات التي لا تتعامل مع المتغيرات في البيئة المحيطة على أنها هي الأخرى مُتغيّرات جذرية وباقية على المدى الطويل.
“يظن الناس في كثير من الأحيان أن آراءهم حقائق، وعواطفهم مادة جيدة للتحليل البناء”
آندي غروف مواليد عام 1936 وتوفي عام 2016
لم يكن حديث غروف عن تغيير القواعد بشكل جذري، والتعامل مع المتغيرات في البيئة المحيطة على أنها متغيرات جذرية من فراغ، حيث مرّت شركة إنتل تحت إدارة آندي غروف بالنوع الثاني من المتغيرات، والذي حتّم عليه أن يتعامل معها مُختارًا الحل الثاني المذكور سابقًا، وهو تغيير القواعد كليًا والاستعداد للمغامرة بأسلوب غير اعتيادي في فن الإدارة.
مرّت شركة إنتل بالتغيرات السابقة في مرحلتين مهمتين في تحديد مصير الشركة، كانت أولهما عندما هيمنت الشركة على صناعة RAM المعروفة بـ”ذاكرة الوصول العشوائية” أو الذاكرة المؤقتة في الحواسيب، لكنها لم تتمكن من الاحتفاظ بالمرتبة الأولى طويلًا، فكونها الشركة الأم في مضمار صناعة تلك الرقائق، لا يعني أنها ستظل الوحيدة في ذلك المجال، ذلك حدث بالفعل حينما دخل اليابانيون في المنافسة، والتي لم تكن منافسة على الجودة فقط، بل على السعر كذلك.
قرر غروف تحويل الصناعة التي أنشأتها وهيمنت فيها إنتل من قبل، لتتخذ الشركة بالفعل نقطة انعطاف استراتيجية، وتبدأ عهدًا جديدًا من صناعة CPU أو في سياق أكثر بساطة، العقل المدبر لكل عمليات الحواسيب
كان اليابانيون محظوظين بالفعل في تلك المنافسة، فكان إنتاجهم أكثر بتكلفة أقل، وكان يساندهم الدعم الحكومي من الحكومة اليابانية نفسها، حينها استطاع اليابانيون في النهاية سحب حصة شركة إنتل السوقية (Market Share)، واستطاعوا الهيمنة على السوق كليًا وأخذ الأرباح كلها لصالحهم.
في رأي غروف، لو كانت إنتل شركة عادية، لفشلت بعد سحب السوق منها في صالح منافس قوي، خاصة أن المنافس لم ينافسها في منتجات عادية، بل نافسها في الأصل الذي كانت تعمل من أجله، أي أحدث لديها خللًا في الجذور الأصلية لها، فكان الحل كما هو متوقع من أغلب الشركات، أن تكون هناك ردة فعل لتلك المنافسة، والتي ما تتخذ أغلب المؤسسات المتغيرات الظاهرية للمنافسة، كالمنافسة على السعر أو البيع في مناطق وأسواق جديدة كليًا.
فلسفة “غروف” الخاصة تقول: “كل ما يمكننا أو باستطاعتنا فعله في عالم التكنولوجيا، سنفعله”
ربما سيصف الكثيرون آندي غروف بكونه مجنونًا بالعظمة، لا سيما أنه اتخذ قرارات بدت للكثيرين راديكالية تمامًا، كان منها ردة فعله على المنافسة اليابانية الشرسة في صناعة الـRAM، والتي لم تتخذ مضمار ردة الفعل فحسب، بل كانت كما يسميها دومًا آندي غروف “نقطة الانعطاف الاستراتيجية”، وهي الفلسفة التي اشتهرت بها شركة إنتل، والتي برزت بشكل كامل في ردة فعل آندي غروف على المنافسة اليابانية.
قرر غروف تحويل الصناعة التي أنشأتها وهيمنت فيها إنتل من قبل، لتتخذ الشركة بالفعل نقطة انعطاف استراتيجية، وتبدأ عهدًا جديدًا من صناعة CPU أو في سياق أكثر بساطة، العقل المدبر لكل عمليات الحواسيب، والتي توصف بـ”وحدة المعالجة المركزية” إحدى أهم مكونات الحواسيب الدقيقة والتي تتركز فيها الذاكرة الرئيسية ووحدة معالجة البيانات في الحواسيب.
على الرغم من أن القرار كان انعطافًا استراتيجيًا لمستقبل الشركة بأكملها، فالآن إذا رغبت في البحث عن كلمة CPU أو وحدات المعالجة المركزية في الحواسيب على محركات البحث المختلفة ستجد صورًا ونتائج تظهر التعريف مقترنًا باسم شركة “إنتل” وستجد أغلب صور تلك الوحدات محفورًا عليها intel.
“تفشل الشركات عندما يتركها العملاء أو الزبائن، أو عندما تترك هي العملاء أو الزبائن”
شعار شركة إنتل “الخلود في الثبات” أي الاستمرارية بقوة ورسوخ هو سر خلود النجاح
واجهت شركة إنتل مشكلة استراتيجية أخرى تطلبت منها نقلة نوعية للمرة الثانية، ولكن هذه المرة لم تكن مع المنافسين ولا مع التحول إلى منتجات جديدة، بل كانت مع الزبائن، في العادة لا تخدم إنتل الزبائن أو العملاء بشكل مباشر، أي لا تبيعهم رقائق دقيقة إلكترونية ولا تبيعهم وحدات معالجة مركزية، بل يتركز شغلها الشاغل في الأساس للبيع إلى المُصنعين وشركات التكنولوجيا، ذلك توقف حينما بدأت “إنتل” بالتفكير في المستهلكين النهائيين، ورغبة منها في تسويق اسم الشركة، طلبت إنتل وضع الاسم والشعار الخاص بها على وحدات المعالجة المركزية CPU على الحواسيب التي تستخدم وحدات من صنع إنتل.
على الرغم من أنه لم يكن قرارًا حكيمًا 100% من الشركة، إذ إن تفكير شركات تُصنع الدقائق الرقيقة التي تكون الحاسوب في المستهلكين النهائيين يكون رابطة مباشرة بين الاثنين، وهذا يعني أن أي خلل في الجهاز سيُسهل من إلقاء المستهلك اللوم مباشرة على صانعيه وليس على الشركة الوسيط التي باعته الجهاز.
واجهت شركة إنتل مشكلة استراتيجية أخرى تطلبت منها نقلة نوعية للمرة الثانية، ولكن هذه المرة لم تكن مع المنافسين ولا مع التحول إلى منتجات جديدة، بل كانت مع الزبائن
على الرغم من أنه كان قرارًا صاحبه منعطفًا استراتيجيًا في مسار الشركة، فقد كلف إنتل خسائر ملحوظة بعد أن قاطع العديد من المستهلكين الحواسيب التي تحمل شعار إنتل على وحدات المعالجة الخاصة بها، إلا أنه كان درسًا مهمًا لآندي غروف، جعل من المستهلكين أهمية خاصة في قرارات الشركة المستقبلية.
لم يكن كتاب آندي غروف، “يبقى مجانين العظمة وحدهم على قيد الحياة” بالكتاب الذي سيمنحك النصائح العشر لكي تنجح شركتك أمام الصعوبات والتحديات، لذا إن كنت من الراغبين في الحصول على أهم ما يجب أن يفعله المدير التنفيذي لأي شركة لضمان النجاح، فهذا الكتاب ليس لك، ولكن إن أردت أن تكون حذرًا أمام المتغيرات الجذرية من حولك، وتتعلم متى وكيف تقوم بالرد والتعامل معها من أجل التكيف، فربما يكون آندي غروف معلمًا مثاليًا لك.