ترجمة وتحرير: نون بوست
فاجأت مكالمة هاتفيّة في الثالثة صباحًا ولاء العبسي وأيقظتها من نومها. لقد مرّ ما يقارب الأسبوع على القصف الإسرائيلي الانتقامي لقطاع غزة المحتل. قبل شهرين فقط، غادرت العبسي (26 سنة) غزة للمرة الأولى للالتحاق بمعهد الدراسات العليا في دبلن. عندما رأت اسم أختها على شاشة الهاتف ارتجف قلبها خوفًا، ذلك أن اتصالا في هذه الساعة المتأخرة لا يعني إلا حدوث مأساة.
قالت العبسي “كان الجميع يصرخون”. وأخبرتها أختها “أتمنى ألا تعيشي حالة الرعب التي أعيشها أبدًا، صلي من أجلنا، صلي من أجلنا”، ثم انقطع الاتصال. بسبب الذعر والبكاء الذي طغى على المكالمة، أعادت العبسي الاتصال بشقيقتها مرارًا وتكرارًا إلى أن نجحت في المحاولة العاشرة. أخبرتها شقيقتها بأن “غارةً جويّةً إسرائيّلية ضربت المنزل المجاور لعائلتها في مدينة غزة واخترقت شظيّة معصم شقيقها الأصغر”.
ذكرت العبسي “تحطمت جميع النوافذ، وتطايرت الأبواب في وجوههم”. كان أخي ينزف، وكان الجميع يصرخون ولا يعرفون شيئًا، وعمّ التراب الهواء”. انقطع الاتصال مرة أخرى، وبقيت العبسي وحيدة ترتجف وتتعرق جزعًا في غرفتها في السكن الجامعي على بعد آلاف الأميال. تعاني العبسي منذ اندلاع القصف الإسرائيلي على غزة من صداع مستمرّ. كانت تكافح من أجل النوم وتتخلف عن واجباتها الدراسية – كل ما يمكنها التفكير فيه هو ما قد يحدث لعائلتها. وتقول إنها تستيقظ كل ليلة لتتصفح تطبيق تيليغرام بحثًا عن صور أو أسماء أفراد عائلتها ضمن الضحايا.
حيال ذلك قالت “أغوص في الأخبار وأغفو مرة أخرى. أشعر بالذنب لذلك”. تحدث موقع الإنترسبت مع عدد من الفلسطينيين الذين غادروا غزة في الأشهر التي سبقت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر سعياً وراء فرص العمل أو التعليم العالي. وعلى غرار العبسي، فإنهم يعانون من الألم والعجز عندما يهاجم الجيش الإسرائيلي عائلاتهم ويدمر المنازل التي نشأوا فيها. وقد وصفوا عدم الانسجام والارتباك الذي شعروا به عند متابعة مشاهد الموت والدمار المألوفة لهم من بعيد محاولين التغلب على مشاعر الضيق والحزن بينما يعيشون في إحدى الدول الغربية حيث تستمر الحياة اليومية دون انقطاع. ومن غير المؤكد في الوقت الحالي ما إذا كانوا سيعودون إلى غزة وإلى من سيعودون.
أوضحت العبسي “عندما غادرت غزة لأول مرة، أردت فقط الحصول على درجة الماجستير في الصحة العامة لأن النظام الصحي كان سيئًا للغاية، وأردت مساعدة الخريجين الجدد في الحصول على وظائف. لكن تغيّر كل شيء في الوقت الراهن في غزة. لقد تغيّرت كل خططي”.
بينما يغمر الصحفيون وغيرهم مواقع التواصل الاجتماعي بالصور ومقاطع الفيديو من غزة، يحذر علماء النفس من الصدمة السلبية التي يمكن أن يتعرض لها الناس من استهلاك المحتوى المؤلم بانتظام. صرحت إيمان فرج الله، وهي طبيبة نفسية تقيم في كاليفورنيا ونشأت في القطاع الساحلي، إن “آثار الصحة العقلية على الفلسطينيين من غزّة تتفاقم بسبب شعور الناجين بالذنب”.
أوردت فرج الله “عند الشعور بالقلق المفرط، والاكتئاب، والإجهاد، والإرهاق. تتنشط مشاعر الصدمة لدينا، ونشعر بفقدان السيطرة على مشاعرنا”. خلال الشهرين الماضيين، قُتل 11 فردًا من عائلة فرج الله في غزة، واضطر والدها البالغ من العمر 85 سنة إلى النزوح بعد قصف منزله. وأردفت قائلة “إنك ترى أمام عينيك كيف أن عائلتك تعاني وقد تُقتل دون أن تستطيع فعل شيء حيال ذلك”.
الصدمة المتكررة
مرّت ساعات قبل أن تسمع العبسي أخبارًا من عائلتها مرة أخرى. كان والداها وشقيقاها قد ذهبوا إلى مستشفى الشفاء عندما سقطت الصواريخ في المنطقة المحيطة به. أخبرهم الأطباء بأن الشظية قد قطعت أربعة أوتار في معصم شقيقها، لكن نظرا لاكتظاظ جدول العمليات الجراحية الأكثر إلحاحًا في المستشفى، طلبوا منهم العودة خلال أسبوع.
لم تستطع عائلة العبسي الانتظار. وبعد يومين، ساروا مسافة ثلاثة أميال إلى مستشفى آخر، حيث علموا أن ذراع شقيقها كانت على وشك الإصابة بالغرغرينا وأن أعصابه قد تضررت. أجرى الأطباء عملية جراحية له دامت ساعتين ونصف الساعة وأزالوا الشظايا العالقة في يده. قالت العبسي: “تخيّل أن تخترق يدك شظية لا تعرف ماهيتها. كان ذلك اليوم أسوأ يوم في حياتي”.
قبل مغادرتها غزة، كانت العبسي الأولى على دفعتها لأطباء الأسنان الطموحين وعملت أستاذةً مساعدة في كلية طب الأسنان بجامعة الأزهر. حصلت على منحة دراسية لمواصلة تعليمها في جامعة كلية دبلن. ولكن منذ الهجوم الذي وقع بالقرب من منزل عائلتها، أجّلت الامتحانات وحصلت على تمديدات في المهام، بما في ذلك أطروحتها العليا – وهي ترتيبات لم تكن لتحتاج إليها أبدًا في ظروف مغايرة. تعليقًا على ذلك قالت “هذه ليست ولاء. لم يكن أدائي الأكاديمي الحقيقي هكذا البتة”.
حسب فرج الله، يعتبر الفلسطينيون من غزة أكثر عرضة للإصابة بالأمراض العقلية نظرًا لكونهم يعيشون في ظل ظروف الصراع والحصار والاحتلال منذ أن فرضت إسرائيل الحصار قبل 16 سنة. بعد الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة سنة 2021، أفاد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن 9 من كل 10 أطفال عانوا من الصدمات المرتبطة بالنزاع. وحسب نتائج منظمة إنقاذ الطفولة، في سنة 2022، أفاد 4 من كل 5 أطفال في قطاع غزة بأنهم يشعرون بالاكتئاب والخوف والحزن.
قالت فرج الله إن “تجارب سكان غزة أعمق من الصدمة الناجمة عن الحرب الحالية”. وتابعت في إشارة إلى عملية الطرد الجماعي التي تعرض لها الفلسطينيون من أراضي أجدادهم في سنة 1948، “ما يحدث هو صدمة متكررة على مدار 75 سنة، وهي مستمرّة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع”.
بسبب الظروف الصعبة في غزة، يبحث آلاف الفلسطينيين عن فرص عمل أو تعليم خارج القطاع. أعرب الفلسطينيون الذين تحدث إليهم موقع “الإنترسبت” عن مشاعر متضاربة بشأن مغادرة وطنهم بين الشعور بالامتنان لتمكّنهم من السفر بحرية والمرارة بسبب الاضطرار إلى الذهاب إلى مكان آخر للحصول على فرص مناسبة.
نشأ محمد دوّاس، البالغ من العمر 24 سنة، في قرية بيت لاهيا، وكان يحدق في القرى الإسرائيلية الواقعة على الجانب الآخر من الجدار الحدودي، “كنت أقول في نفسي إن إسرائيل مضاءة بينما غزة دائمًا في ظلام دامس. اعتدت قول إنهم محظوظون للغاية، فحياتهم مختلفة تمامًا عن حياتنا. وكنت أفكر دائمًا في مغادرة غزة إلى بلد بلا حصار”. وفي سنة 2019 سافر إلى كاليفورنيا وتزوّج. وبعد فترة وجيزة، انتقل إلى بلدة ريفية في ولاية يوتا حيث وجد عملًا في مصنع من أجل إرسال الأموال إلى عائلته.
بسبب الحنين إلى الوطن، ترك وظيفته في شهر آذار/ مارس وعاد إلى غزة لكنه عاد على مضض إلى الولايات المتحدة في شهر أيار/ مايو للعمل. وفي حديثه عن غزة قال: “لا يوجد شيء مثل غزة. إنه المكان الأفضل رغم كل شيء”. لكن كانت تلك الرحلة المرة الأخيرة التي يرى فيها منزل عائلته قائمًا والعديد من أقاربه على قيد الحياة.
تموت في اليوم ألف مرة
في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، استيقظ دواس على مكالمة مفادها أن 25 من أفراد عائلته أصابت غارة جوية منزلهم، واستشهد 15 منهم من بينهم ابن عمه وصديقه يوسف وطفلاه. ظلّت جثث بعض أفراد أسرته تحت الأنقاض لمدة يومين قبل أن يتمكن الجيران وعمال الإنقاذ من انتشالها. قال دوا: “ما زلت لا أصدق أنني لن أرى يوسف مرة أخرى. لقد فقدت متعة الحياة. لا أستطيع التعبير من هول الصدمة”.
بعد ساعات فقط، قُصف منزله في بيت لاهيا. ونظرًا لعدم تمكّنه من الوصول إلى والدته أو أي من أشقائه الستة، شعر دواس بالقلق من احتمال وفاتهم. وبعد ساعات، اتصل مرة أخرى فأجابته والدته التي أخبرتهم بأنهم فروا جميعًا إلى منازل أقارب آخرين في بيت لاهيا، ونجوا من تفجيرين آخرين. حيال ذلك قال “لم أتوقّع أن أسمع صوت أمي مرة أخرى. لقد أمضينا المكالمة بأكملها في البكاء. كان الأمر كما لو أنني ولدت من جديد، وكأنني أسمع صوتها لأول مرة في حياتي”.
أخبر دواس موقع “الإنترسبت” أن الحرب أثارت الخوف والقلق والاكتئاب بداخله، وهي ردود أفعال عاطفية تراكمت من العيش في ظل ست هجمات إسرائيلية على غزة. وقال “لم أتمكّن من النوم جيدًا منذ ذلك الحين. قرأت طوال النهار والليل، مما جعلني أشعر بالمرض. كنت خائفًا حتى الموت على عائلتي. لم أتوقع أن أخسر أحدًا لأنني لم أفقد أحدًا من قبل”. لقد بدأ يتخيل أسوأ السيناريوهات، وقد تحقق أحدها.
في الأول من كانون الأول/ ديسمبر، وهو اليوم الأخير من الهدنة التي استمرت أسبوعًا بين حماس وإسرائيل، كان دواس في عمله المعتاد في إزالة أوراق الشجر المتساقطة في الفناء الخلفي لأحد المنازل عندما اتصلت به أخته المقيمة في مصر لتخبره أن غارة جوية إسرائيلية أصابت ملجأً في شمال غزة، حيث يمكث صالح شقيقه البالغ من العمر 32 سنة. أصيب صالح ولم يتمكن من الحصول على العلاج الطبي، وقالت أخته إنه ربما أصيب بعدوى وظهرت عليه علامات الفشل الكلوي.
شعر دواس بالخدر باستثناء ألم شديد في صدره، فردّد دعاءً سريعا. فالقرب من الله هو الطريقة الوحيدة التي تمكنه من تحمل حزنه: “عندما يصاب شخص ما، تبدأ في تخيل كيف سيموت، وتنتظر، وتموت ألف مرة”. في اليوم التالي توفي صالح. كان دواس يواجه صعوبة في الاتصال بأهله في غزة لذلك اتصل به قريبه في عمان هو ووالدته على هاتفين منفصلين، ووضعهما على مكبر الصوت. قال دواس “لقد انهرت، وكانت هي تريحني. أخبرتني أن الله اختاره شهيدًا. الحمد لله أن ألهمنا القوة والصبر”.
التأقلم مع الحرب
نزح جميع أفراد عائلة ولاء العبسي بسبب الحرب، وتركوا منازلهم ليقيموا مع جيرانهم وأقاربهم الآخرين. أخبر الجيران ولاء بأن منزل عائلتها قد تعرض للقصف على الأرجح خلال الغزو البري الإسرائيلي لشمال غزة. وللتغلب على محنة عائلتها، تقضي ولاء بعض الوقت مع صديق فلسطيني وتشارك في الاحتجاجات إلى جانب آلاف آخرين في أيرلندا، حيث ينتشر التضامن مع الفلسطينيين على نطاق واسع. لكن في نهاية اليوم، تقضي معظم وقتها بمفردها وفي السكن الجامعي.
خففت الهدنة بعض همومها وتمكنت من إنهاء بعض المهام. وقالت إن أساتذتها كانوا متعاطفين ومتعاونين، وذهبت للتحدث مع الأخصائي النفسي في جامعتها، لكنها لا تزال تخطط لقضاء عطلة عيد الميلاد في الدراسة. أفادت ولاء “قبل الحرب، كنت أتوقع الحصول على درجات عالية، لكن الآن أريد فقط أن أنجح. إن التفكير في عدم وجود منزل في غزة يضعني تحت ضغط كبير”.
يعاني دواس أيضًا من حقيقة أن الأسرة والمنزل الذي كان يعرفه لم يعد موجودًا. تُقيم إحدى شقيقاته وعائلتها ووالدته في مدرسة تابعة للأمم المتحدة في الجنوب ويعيشون على تبرعات الأونروا، بينما شقيقه الآخر وعائلته عالقون في الشمال. إنه يشعر بالعجز لأنه لا يستطيع حتى إرسال الأموال إلى عائلته – وهو السبب الرئيسي لعودته إلى يوتا – لأنهم لا يستطيعون استلامها وليس هناك ما يمكن شراؤه.
كما وجد دواس أن العيش في الولايات المتحدة أمر مزعج. فرؤية ملصقات للرهائن الإسرائيليين ومشاهدة التغطية الإخبارية المتحيزة تملأه بالغضب والخوف. وقال إن بعض الأميركيين انزعجوا منه عندما دافع عن عائلته وغزة. وهو يجد الراحة في القيادة لمسافات طويلة أثناء تلاوة القرآن، والاستماع إلى هانز زيمر وإيفان تورنت، والمشي في متنزه ماكسويل في ولاية يوتا، لكنه توقف عن الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية وفقد شهيته، بينما يكافح من أجل العثور على عمل ثابت ويؤجل خططه لدراسة هندسة الحاسوب إلى الربيع.
قال دواس “في كل مرة أريد أن آكل، أشعر بالذنب. كل شيء متاح لي، لكن عائلتي لا تستطيع حتى شرب الماء. أعيش دائمًا مع شعور بالإهانة والقمع، وهذا يجعلني لا أريد أن أعيش. تبدو الحياة عديمة القيمة”.
المصدر: الإنترسبت